يريد الحاكم القول إنه بريء ولم يختلس مالاً عاماً من مصرف لبنان، وأن سياساته النقدية والمصرفية كانت صائبة، وأن الأزمة التي يغرق فيها لبنان ما كانت لتحتدم لولا التوقف عن دفع سندات “اليوروبوندز” في آذار/مارس 2020، وانه بدأ يتعرض لهجوم منذ لحظة معارضته لذلك التوقف عن الدفع.
يساير الحاكم في سرديته هذه عدد كبير من السياسيين والمصرفيين، ويتكئ في أدبياته الهجومية حيناً والدفاعية أحياناً أخرى على الصورة التي تظهرت لحكومة حسان دياب على أنها فشلت بغض النظر عمن أفشلها، وكيف أفشلها برغم “بعض جرأتها في إجراء أول مقاربة واقعية تاريخية للوضع المزري الموروث مالياً ومصرفياً”، باعتراف صندوق النقد الدولي وعدد من الخبراء الماليين، المحليين والعالميين.
ليس من باب الرد على مقولات الحاكم وتأويلاته، لكن تجدر الاشارة الى أن التوقف عن السداد كان نتيجة موضوعية وليس سبباً بذاته. ولعل رياض سلامة يعرف أن المصارف كانت قد توقفت، جزئياً أو كلياً، عن الدفع لمودعيها منذ خريف 2019، وأن الليرة بدأت بالتدهور منذ ما قبل انتفاضة “17 تشرين” 2019 فخسرت حتى تاريخ التوقف عن سداد “اليوروبوندز” نحو 50 إلى 60 في المائة من قيمتها الرسمية المثبتة عند نحو 1500 ليرة مقابل الدولار. كما أن الحاكم يعلم أكثر من غيره أن الدولة اللبنانية فقدت ثقة المستثمرين الدوليين بها منذ 2016-2017 ولم تستطع الحصول على إكتتابات خارجية بسنداتها منذ ذلك الحين الذي بدأ فيه التدهور السريع لأسعار تلك السندات، وعلى نحو مريع حتى فقدت معظم قيمتها قبل التوقف عن الدفع. ولعله قرأ قبل آذار/مارس 2020 تقارير مؤسسات التصنيف الدولية التي خفّضت درجات لبنان ومعظم مصارفه الى حدود مضاربية ومتعثرة نسبياً، وبعضها تحدث عن “توقف إنتقائي” عن السداد. ولعله يذكر أيضاً الخلاف (الحبي) الذي نشب بينه وبين وزير المال علي حسن خليل أوائل 2019 حول ضرورة إعادة هيكلة الدين العام قبل أن يقع الفأس في الرأس.
صحيح أن الحاكم لم يمد يده إلى أموال مصرف لبنان المركزي، لكنه بحكم موقعه وقرابته مع الوسيط (أخوه) وقع في تضارب فاقع في المصالح واستغلال للنفوذ دفعه هو نفسه إلى الإعتراف في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” أن هناك مشكلة أخلاقية في ذلك، نافياً المسؤولية القانونية التي يريد أن يحوّلها الى مدنية، لأن شكلها ومضمونها الجزائيين قد يدخلانه إلى السجن
علاوة على ذلك، كانت المؤشرات الحمراء الأخرى ترمش بفلاشات فاقعة بالتوازي مع إنخفاض إحتياطي العملات الأجنبية من أكثر من 44 مليار دولار في تشرين الاول/أكتوبر 2017 إلى نحو 22.5 مليار في شهر التوقف عن السداد، أي بانخفاض تدريجي وتدحرجي نسبته نحو 50 في المائة. والأخطر أن الحاكم كان على بينة من الفجوة المالية الهائلة التي تعمّقت هوتها حتى قاربت الخسائر في النظام المالي (المصارف ومصرف لبنان) 83 مليار دولار، علماً بأن صندوق النقد الدولي، الذي كان بدأ الاشارة صراحةً الى الاحتياطات السلبية منذ 2016، قدّر الخسائر المتراكمة بنحو 113 ملياراً كما في الربع الأول من 2020.
ولن نقول من فمه ندينه، بل يمكن الشد على يده و”تشجيعه” لأنه تطور في مقاربة الأزمة من إنكار تام للخسائر أيام الحكومة السابقة إلى إعتراف بخسائر تبلغ 57 مليار دولار حالياً برغم وجود إختلاف في التقدير بينه وبين نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي تصل تقديراته للخسائر إلى نحو 69 مليار دولار. بين الإثنين فرق 12 ملياراً فقط ولا نعلم لمن يعود هذا المبلغ الصغير!
وما الاعتراف المباشر بالخسائر إلا بمثابة إعتراف غير مباشر بأخطاء وخطايا السياستين النقدية والمصرفية لمصرف لبنان. والأنكى أن صندوق النقد قد يفاجئ الحاكم برفض طريقته للحساب ويفرض عليه طريقة أخرى مختلفة تخرج كل القمامة من تحت السجادة، لدفعه دفعاً نحو التسليم الكامل بما إقترفت أيدي منظومة سياسية هدرت وأفسدت وأساءت الادارة في مدى 30 سنة.
أما القضايا الخارجية المفتوحة ضد الحاكم بشبهات إختلاس وتبييض أموال، فهو يواجهها بكثير من الأساليب، منها قوله إن الهجوم عليه بدأ منذ يوم إعلان موقفه المضاد للتوقف عن السداد، متناسياً أنه تحت النقد من صندوق النقد، ومن خبراء مال محترفين قبل ذلك بكثير خصوصاً منذ إجتراح الهندسات المالية في 2016 و2017 بفوائد خيالية كبّدت المال العام بين 6 و7 مليارات دولار، فضلاً عن إتهامه بإنقاذ مصارف غامرت في الخارج بمليارات دفعها المكلف اللبناني في نهاية المطاف واستفاد منها عدد من المصرفيين لا يتعدى عدد أصابع اليدين.
أما عن صلب إتهامات الإختلاس والإثراء غير المشروع والتي إستعان لدحضها بمكتب “سمعان وغلام” فلم يتطرق التدقيق إلى العمولات التي كانت تحوّل إلى شركة أخيه “فوري اسوسيتس” (شركته عملياً والمؤسسة في إحدى الجنات الضريبية في الجزر العذراء “البراء” من أي إفصاح أو شفافية). تلك العمولات التي إستمر تحصيلها بين 2002 و2014 حتى بلغت نحو 330 مليون دولار كانت تدفع من المصارف الى شركة “فوري” وليس من مصرف لبنان. هنا يجب التحقيق في عمولات لقاء أوراق مالية يطرحها البنك المركزي وتكتتب بها البنوك بعلاوة عمولة مبهمة الجدوى وغير مبررة كفاية وصفت بأنها لقاء وساطة لشركة تعاقد معها الحاكم بموافقة المجلس المركزي، بينما ينفي أعضاء المجلس توقيعهم على ذلك الإتفاق المزعوم. لا بل فوجئوا كما فوجئ معظم المتابعين بحجم العمولات وبإسم الشركة “المغمورة” وبدور الوسيط رجا سلامة الذي جيء به برغم تضارب المصالح لأن للحاكم سلطة ترغيب وترهيب على المكتتبين والمصارف، وبرغم حساسية موقع الحاكم المفترض حياده وسعيه الأكثر من ضروري للترفع عن التربح الشخصي من معلومات يملكها أو موقع يحتله أو ورقة مالية يطرحها مصرف لبنان.
صحيح أنه لم يمد يده إلى أموال مصرف لبنان المركزي، لكنه بحكم موقعه وقرابته مع الوسيط (أخوه) وقع في تضارب فاقع في المصالح واستغلال للنفوذ دفعه هو نفسه إلى الإعتراف في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” أن هناك مشكلة أخلاقية في ذلك، نافياً المسؤولية القانونية التي يريد أن يحوّلها الى مدنية، لأن شكلها ومضمونها الجزائيين قد يدخلانه إلى السجن.
وما على المودعين إلا القبول بوعود عرقوبية برد مالهم في مدى 10 الى 20 سنة كما يخطّط سلامة الواعد بدفع نصف بالدولار ونصف بالليرة للودائع المسجلة قبل 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019 وبالليرة للودائع المسجلة بعد ذلك التاريخ والمقدرة بنحو 20 مليار دولار
مع ذلك، يبدو الحاكم الآن مرتاحاً على وضعه لأن الريح، مع الحكومة الجديدة، عادت لتكون باتجاه وجهة سيره فدخل “مظفراً” الى لجنة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو أدخلوه على قاعدة “من صعد بالحمار الى المئذنة أدرى بكيفية إنزاله منها”. والريح السياسية العامة في ظهره وليست في وجهه، إذ يعتمد على رضا العم سام الكامل حتى الآن نظراً الى “الخدمات الجليلة” التي قدّمها ويقدّمها إلى وزارة الخزانة الاميركية، ولا يعبأ بالرأي الفرنسي الساعي لإقالته وتعيين بديل منه، لعلمه أن اليد العليا في لبنان أميركية وليست فرنسية في هذا المجال وغيره.
وفوق “الكيكة” كرز أحمر بلون رعايات وحضانات واحضان رؤساء حاليين وسابقين ومرجعيات رسمية وحزبية وروحية. ولا يخاف سلامة كثيراً من الهجوم العوني الظاهري عليه مفسراً إياه بـ”المناورة السياسية لمآرب أخرى كما العادة، ولأن التجديد له في 2017 تم باقتراح من رئيس الجمهورية نفسه وبموافقة جميع الأطراف بمن فيهم حزب الله”، كما يقول مقربون منه.
إذاً، بعدما إستعاد المبادرة أو أعيدت اليه، يراهن “حاكمنا” على الوقت والتناقضات كما فعل دائماً. ويراهن على إيمان البعض بعبقرية هندساته وآخرها تسليمه “الخيط والمخيط” في مشروع القانون الجديد المقترح لـ”الكابيتال كونترول”، بنصوص تعزّز صلاحياته وتثبت نفوذه وهوامش استنسابية قراراته واجراءاته. أما التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي ضاع من عمره أكثر من سنة فهو “مندور” لتسوية سياسية ما أو لضياع سنة أو سنوات إضافية في مطاردات “توم وجيري” التي يستحيل فيها موت أحدهما.
وبالنسبة للمودعين المسروقة دولاراتهم والمستهلكين المفجوعين بليرتهم، يربط “منقذنا من الهلاك” نجاح خطته لتعزيز سعر العملة ورد الودائع بإصلاح مالي وإقتصادي على عاتق الحكومة، وهو العالم بأنها “طبخة بحص” لا تستوي بالمعطيات السياسية القائمة منذ 30 سنة وحتى إشعار آخر من عمر الجيل الحالي المضحى به. في الأثناء، يراهن على الخلافات السياسية بين النافذين لتقطيع الوقت.. كما على إنتخابات نيابية ورئاسية قد تحصل أو لا تحصل. واذا حصلت يبقى أمامه عدة اشهر صعبة فقط بين قدوم رئيس جديد أواخر 2022 ومنتصف 2023.
لم يعد خافياً أن خطة سلامة هي “الخروج الآمن” عند إنتهاء ولايته، وسيقول “فخار يطحبش بعضه” بعدها. حتى ذلك التاريخ لبنان رهينة حاكم بأمر المنظومة. وما على المودعين إلا القبول بوعود عرقوبية برد مالهم في مدى 10 الى 20 سنة كما يخطّط سلامة الواعد بدفع نصف بالدولار ونصف بالليرة للودائع المسجلة قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وبالليرة للودائع المسجلة بعد ذلك التاريخ والمقدرة بنحو 20 مليار دولار. بعد خروجه من الحاكمية سيكون حُكماً في حلٍ من تلك الوعود التي سيبتلى بها من يأتي بعده وأسبابها ليست من صنع يديه.
أما كيف ستفي “المنظومة” بذلك الوعد العرقوبي بعد سلامة فتلك قصة أخرى من قصص نظام لبنان المبتلى بالطائفية الكفيلة طوراً بالغرف من أرواح الناس كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية وطوراً بالغرف من أموالهم كما يحصل حالياً.
أموالكم وأبناؤكم زينة حياة دنيا زعمائكم. وعندما تثورون يقولون لكم: أنتم مؤمنون، إعملوا فقط لآخرتكم التي لا ينفع فيها لا مال ولا بنون.