جميل مطر09/12/2021برغم هذه التهديدات الأمريكية، استمرت روسيا بحشد قواتها على حدودها مع أوكرانيا واستمر المسئولون الصينيون يكرّرون القسم والعهد أن تعود تايوان إلى حضن الوطن الأم. وسوف يصدر في العام القادم عن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني قرارات وبيانات تعزّز وتجدّد نية بيجينج استعادة هذه الجزيرة مهما كلف الأمر وبالوسائل المناسبة.
من ناحية أخرى، استمرت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران واستمرت إيران في تخصيب اليورانيوم مقتربة يوماً بعد يوم من الدرجة التي تتيح إنتاج السلاح النووي. هناك أيضا عقوبات أمريكية مفروضة على فنزويلا وكوريا الشمالية وتهديدات لدول شتى بعقوبات تتناسب مع تجاوزات وأخطاء ارتكبتها حكومات هذه الدول في حق قواعد عمل صاغتها عقول أمريكية، وضمنتها مبادئ العمل والسلوك في مؤسسات دولية، لأمريكا في إدارتها وتوجيهها نفوذ معتبر، نفوذ الدولة الأعظم. في غالب الأحوال استمرت العقوبات ولم تتغير مواقف الدول المتمردة على تلك القواعد.
***
هي بالفعل الأعظم حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولا شك أننا وكل دول الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية، الأدرى من أي دول أخرى بنفوذ هذه القوة الأعظم. إكتسبنا هذه الدراية جيلاً بعد جيل ولم تدخر معظم دولنا جهداً في التأقلم مع هذا النفوذ بالتمرد أحياناً ولكن بالطاعة غالباً. إشتركنا في صنع تيار عدم الإنحياز لنتمكن من درء تهديدات القوة الأعظم باقتراب حذر ومدروس من قوة عظمى أخرى، ولكن بطبيعة الحال ليست بنفوذ وقوة الدولة الأعظم.
نحن شهود على القوة الأعظم وهي تحاول أن تخرج من الشرق الأوسط ولكن بغير نظام وتتعامل بعجرفة وغرور متناهيين مع أعضاء حلف الأطلسي. كنا شهوداً على عجز هذه القوة عن حماية بولندا عضو الحلف من تحرشات بيلاروسيا بدعم، لا شك فيه، من القطب الروسي
كان يوماً مشهوداً، يوم سقط الإتحاد السوفييتي فانتهت الحرب الباردة، ومع انتهائها بدأ انحدار قوة الولايات المتحدة، ومع انحدار قوة أمريكا انحدرت عزيمتها. صادف أن تعرّضت هي نفسها لهجوم إرهابي هزّ أركانها وأثار شكوكاً في العقيدة والإرادة ووحدة الأمة. راحت من بعده تحاول تعويض ما انحدر واستعادة المكانة، أو على الأقل تأكيد حقها فيها، فشنّت حرباً على أفغانستان كسبت فيها بعض الجولات وخسرت النصر الكلي والنهائي. ثم شنّت حرباً أخرى على العراق الذي تجاسر فتمرد ثم بدأ يتفكك تحت الاحتلال. هناك في العراق المحتل، انشغلت عناصر أمريكية بمهمة تشكيل عراق مختلف شكلاً ونوعاً. فشلت في تركيب نظام حكم ديموقراطي ليبرالي ليس فقط في العراق وإنما في كل دول الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل باعتبارها نتوءاً من نتوءات الإمبراطورية، أقصد القوة الأعظم.
تعدّدت مظاهر الفشل الأمريكي. كانت بدايته في تلك الجهود التي بذلت في روسيا لإقامة ديموقراطية ليبرالية فور الانتهاء من تصفية القطاع العام الروسي، وضاعت الجهود هباء. من آخر مظاهره سعي إسرائيل، وقد بدأت وعاشت نتوءاً، للبحث عن وسائل أخرى إلى جانب النفوذ المتداعي للدولة الأعظم لتستمر تعيش.
***
رئاستان تعاقبتا مؤخراً على البيت الأبيض. الاثنتان عقدتا العزم منذ اليوم الأول لهما في الحكم على تحقيق هدف واحد بصياغتين مختلفتين. اختارت رئاسة الحزب الجمهوري ويمثله دونالد ترامب عنوان إعادة أمريكا عظيمة، واختارت الثانية عنوان بناء أمريكا من جديد. بالنسبة لنا كان هذا الشبه، وهو في الحقيقة توافق وليس مجرد شبه، كان يجيب على السؤال ذي الشقين، المتردد بين متخصصين أكاديميين أو محللين عابرين، شق عن متى تعترف الطبقة الحاكمة الأمريكية بالحال السيئة التي تدنت إليها البنية الأساسية في الداخل، وشق عن كيف تحشد الإمكانات اللازمة لمهمة كادت تكون مستحيلة في ظرف كساد اقتصادي ثم ظرف استقطاب حزبي غير مسبوق وظرف جائحة لا ترحم وظرف عالم خارجي مدرك تمام الإدراك لتدني مختلف معالم القوة لدى الدولة “الأعظم”.
***
خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية نموذجاً يحتذى لكثير من القادة وبخاصة العاملين في قطاع بناء الأمم. فإلى جانب القوة الصلبة التي قادت بها أمريكا دول الحلف الغربي إلى النصر وجدت أنواعاً عديدة من قوة غير صلبة، لا أقول انفردت بها الولايات المتحدة ولكن أقول إجتمع أكثرها في هذه الدولة، فاستحقت أمريكا باجتماع مفردات هذه القوة غير الصلبة ومعها القوة الصلبة صفة الدولة الأعظم. استحقت أيضاً أن يظهر فيها في ذلك الوقت من المفكرين من صاغ عبارة القوة الرخوة مقارنة بالقوة الصلبة. استحقت أمريكا في ذلك الحين أن تقدم النموذج لمن يريد أن يُقلّد. قدّمت الديموقراطية والحكم بالقانون والمؤسسات. قدّمت مجتمعاً يلهث ليمحو وصمة العبودية وقدّمت تعليما استطاع أن يجذب للجامعات الأمريكية مئات الآلاف من شباب أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتقدماً تكنولوجياً تحقق بسباق سلمي وتعاون متكامل مع النهضة التكنولوجية في اليابان. عشنا لنعبر هذه الفترة الاستثنائية في حياة أمريكا إلى حيث نجد في انتظارنا عقوداً من الزمن تراجعت فيها معظم معالم ومفردات هذه القوة الرخوة.
أتحدث هنا عن جيل أعرفه حق المعرفة. جيل عاش النموذج من داخله وتأثر به من خارجه. هذا الجيل نفسه كان شاهداً على فشل القوة الصلبة في العراق وأفغانستان وفشلها في تنفيذ اتفاق نووي عقدته أمريكا مع إيران وخمس دول أعضاء دائمين في مجلس الأمن وفي ترشيد العلاقة مع كوريا الشمالية. نحن شهود على القوة الأعظم وهي تحاول أن تخرج من الشرق الأوسط ولكن بغير نظام وتتعامل بعجرفة وغرور متناهيين مع أعضاء حلف الأطلسي. كنا شهوداً على عجز هذه القوة عن حماية بولندا عضو الحلف من تحرشات بيلاروسيا بدعم، لا شك فيه، من القطب الروسي.
تغيّرت الرئاسة في واشنطن ولم تتغير أكثر سياسات التعويض عن الفشل. ما يزال التصعيد في الخصومات مع الصين على قدم وساق أضيف إليه التصعيد مع روسيا. لا أحد عاقلاً ومزوداً بخبرة بسيطة في العلاقات الدولية لم يفهم الهدف من الإثارة المتعمدة لقضية تايوان ولحملة الكونجرس الأمريكي وصناع الرأي في أمريكا لإشعال غضب الأمريكيين على الصين. في الوقت نفسه، كانت استقصاءات الرأي تجمع على تراجع شديد في شعبية الرئيس جو بايدن ونائب الرئيس السيدة كاميلا هاريس، الأمر الذي يضاعف من تردي القوة الأمريكية في نظر حلفاء أمريكا وخصومها على حد سواء. بل وفي نظر أمريكيين بارزين وعديدين.
***
خذ مثلاً حماسة بايدن لعقد مؤتمر خاص لقادة الدول الديموقراطية. لا أظن أن الوقت والظروف التي يمر فيها حلفاء أمريكا الأوروبيون تناسب انعقاد مؤتمر يتسبب في تصدع جديد في المجتمع الغربي. من ناحية أخرى، بالدعوة نفسها لهذا المؤتمر تكون قد وصلت إلى كل من موسكو وبيجينج رسالة تصعيد جديد وفي اتجاه مزيد من تدهور السلم العالمي. لا أشك للحظة في احتمال أن يكون وراء الدعوة لعقد هذا المؤتمر محاولة أخرى لتغطية مظاهر عجز في الأداء الأمريكي كدولة أعظم. أو شعور النخبة الحاكمة الأمريكية بحاجتها إلى أحلاف متنوعة الحجم والعضوية والعنوان بعد أن تأكد قطعاً أن الناتو لم يعد متماسكاً وموحداً وراء القيادة الأمريكية.
أمريكا عملاق في عمر الشباب شاخ أو ترهل أو تعرض للتلف قبل أوانه. قاد العالم منفرداً أو بالمشاركة الرمزية لقرن كامل، قرن إنتهى أو كاد ينته
تعددت صيحات الاستنكار وأهمها على الإطلاق ما صدر في أوروبا يكشف عن شكوك في سلامة الديموقراطية في أمريكا نفسها، وليس فقط في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. كثيرون داخل أمريكا وخارجها توقفوا كثيرا أمام أحداث احتلال مبنى الكابيتول وتنامي الأعمال العنصرية ضد الملونين وأخيراً وليس آخراً المواقف العديدة لأعضاء في الحزب الجمهوري تكشف عن اتجاهات غير ديموقراطية أهمها القوانين المحلية الصادرة في تسع عشرة ولاية أمريكية وهدفها تقييد حق التصويت للملونين وكبار السن وغيرهم. إن نسينا فلن ننسى تصرفات الرئيس السابق دونالد ترامب والمحيطين به وحملته على الإعلام والآراء الحرة وتنديده بمؤسسات الدولة المختلفة والمعلومات الزائفة التي كان يبثها.
***
أرى توجهاً ناشئاً في أوروبا يميل إلى ضرورة تبني الأوروبيين سياسة أقرب ما تكون إلى مبدأ عدم الانحياز الذي تبنته دول عديدة في عصر الحرب الباردة. يعتقد مفكرون وساسة أوروبيون أن أمريكا صارت ترتكب أخطاء لا يمكن أن تتحملها طويلاً الدول الحليفة لها. يقولون إن للحلفاء الحق في أن يتصرفوا بحرية أكبر في صياغة خياراتهم في المواقف بين أمريكا والصين وكذلك بين أمريكا وروسيا إذا استمر تدهور العلاقة بينهما.
صارت واضحة التباينات في المصالح بين دول عديدة حليفة وبين أمريكا. بصياغة أخرى لم تعد تتوفر الثقة الكاملة في قيادة أمريكا للحلف الغربي مما دفع بمفكرين أوروبيين إلى الحديث صراحة عن حق أوروبا في “استقلال ذاتي استراتيجي”، بعبارة أخرى “عدم انحياز” في صورة جديدة. بعض الحلفاء، وربما أكثرهم، غير مطمئنين إلى مستقبل الحلف في ظل مبادئ وقواعد متغيرة وغير مدعاة للثقة.
يرون ضباباً كثيفاً يغطي مصير الرئاسة الأمريكية، فالرئيس الراهن يبدو من ناحية العمر وربما الأداء غير قابل للتجديد ونائبه سيدة غير قابلة للترشيح محله، في النهاية يعود البديل إلى ترامب أو من يختاره، أي يعود إلى المجازفة بأمريكا، عملاق في عمر الشباب شاخ أو ترهل أو تعرض للتلف قبل أوانه. قاد العالم منفرداً أو بالمشاركة الرمزية لقرن كامل، قرن إنتهى أو كاد ينتهي.
