لهذا الحضور العربي الكثيف في المونديال أسبابه وظروفه، وقد يكون القرب الجغرافي لقطر وغنى المقيمين في جوارها سبباً لكثافة الحضور العربي، كما أن تطور وسائل التواصل والإتصال والاعلام قد لعب دوراً في توسيع دائرة المهتمين باللعبة المستديرة، ناهيك عن اللغة العربية الواحدة والإرث الحضاري الذي أغناه الدين الإسلامي، كما تجمعهم هزائمهم المتتالية والتحدي الفلسطيني المتنامي لعدوانية اسرائيل، فضلاً عن الاحترافية العالية لمعظم الفرق العربية المشاركة في المونديال.
إلا أنّ الاعتزاز بهذا الإنتماء الضارب جذوره في التاريخ يباين البناء عليه واعتباره تجسيداً لوحدة عربية ووعداً صادقاً بنهوض أمتنا، فقد سبق للعرب أن اعتزوا بمواقف عربية أكثر قرباً الى السياسة في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات الماضية ولم تفض الى تحقيق الوحدة العربية، حتى أن الوحدة الجزئية (نموذج سوريا- مصر، ونموذج اليمن بشطريه الجنوبي والشمالي)، لم تصمد لأسباب داخلية وخارجية، فيما صمد اتحاد الإمارات العربية حتى الآن، ولم تكتمل مشاريع وحدوية كثيرة.
يحق للعرب أن يعتزوا أيضاً بأن دورهم وتأثيرهم تجاوز بلدانهم، وبلغ حد التأثير في سياسات دول فاز في إنتخاباتها يساريون عرب حكموا بلداناً غير عربية، ولا سيما في أميركا اللاتينية، إلا أنّ البناء على هذا الإعتزاز فقط مغاير للمعطيات السائدة ومضلل للناس ومعيق للوحدة؛
فالمعطيات السائدة تظهر ايغال السلطات الحاكمة في كل الدول العربية بالمزيد من القطرية، لا بل ارتد بعضها، حكاماً وقوى سياسية معارضة وجماعات، الى ما دون الدولة، عصبيات طائفية وعرقية وجهوية.
والمعطيات السائدة تظهر تنامي حركة التطبيع مع الكيان الصهيوني بالترافق مع التخلي عن حل الدولتين وما توصلت اليه اتفاقيات اوسلو.
والمعطيات السائدة تظهر غياب القطب العربي الجامع، رسمياً وشعبياً، فالساحة العربية باتت ساحات واللاعبون فيها دول كبرى ودول اقليمية غير عربية. والقوى الشعبية العربية، من قومية ويسارية، باتت مُجهضة ومفككة، وقوى الإسلام السياسي، الشيعية والسنية، كلها تعتمد خطاباً لا يمت بصلة إلى العروبة.
والمعطيات السائدة، بحدود الحدث الكروي نفسه، تظهر اهداء الفريق المغربي نصره للمغرب وافريقيا، وانه فريق مشبع بفرنسيته، ثقافة وتدريباً وإقامة.
لا يعني هذا القول في القول “الوحدوي” الكروي عدم الفرح بالكفاءة الكروية لفريقي المغرب والسعودية والكفاءة القطرية في التنظيم الدقيق للمونديال، كما لا يعني نفي الاعتزاز بالهوية العربية، بل يعني الاعتراض على بناء الأوهام عليها
أما التضليل فهو في جانبين:
الجانب المضمر في هذا القول الوحدوي هو رد العروبة الى ثابت في الوجود يتجلى حضورا في بعض الاحيان ويكمن حينا آخر وهذا القول قولا ميتافيزقياً وبعيداً عن المعرفة العلمية التي ترى الوحدة صيرورة اجتماعية تنتجها القوى المجتمعية، وهذا، الى حد كبير، ما قالت به القوتان الوحدويتان في ستينيات القرن الماضي، أي البعث والناصرية.
الجانب الثاني في افتراض القول بأمة عربية منجزة التكوين، وهو قول غير دقيق، تاريخياً وعلمياً، إذا اعملنا البعد الفكري ـ النقدي:
فمن الناحية التاريخية، عرف العرب الدولة الواحدة في ظل الخلافة الأموية ومطلع العباسية، وكانت الدولة الواحدة في ظل الخلافة الراشدة في طور الإنبناء وفي ما تلا النصف الثاني حتى اليوم، وهي فترة مديدة، دولاً وامارات.
ومع الملاحظات على طبيعة الدولة ما قبل الحديثة ووفق معيارها، فان الخطاب السياسي لهذه الدول قبل الأموية وبعد العباسية هو خطاب لم يدع العروبة وانما الاسلام وكذا كل الفرق الدينية السياسية، لا بل لم تقتصر حدود هذه الدول على العرب. وما ظهر من عروبة في تلك المراحل هو صراعات سياسية تحمل الطابع الإثني، وابرزها الصراع العربي – الفارسي.
ومن الناحية العلمية، لا يقتصر وجود الأمة على اللغة والدين، فهذه تشكل هوية، وحتى تكتمل تتطلب دولة واحدة، والدولة الواحدة، كما ذكرت سابقاً، لم تقم بين العرب سوى لفترة قصيرة، وما عرف من دول” حديثة” في القرن العشرين لم تتوفر فيها كل شروط الحداثة في الدولة، برغم اعلان حدودها وسيادتها والاعتراف الخارجي بها، فقد شابها في كل العهود المتعاقبة عليها محدودية السيادة وغياب أو تغييب القانون، بذرائع متعددة بعضها برّاق، إن بفعل مكوناته الأولية، اثنيات وطوائف وجهات، أو بفعل الهيمنة الاستعمارية المعلنة ايام الانتداب والمضمرة في ما تلاها، وهي اليوم، بعد تنامي سيطرة الشركات العابرة للدول، تتناغم مع الإثنيات والطوائف لإضعاف الدول، منطقاً ووجوداً.
أما إعاقة الوحدة، فتمثل بالركون الى “الجوهر” الثابت فيها والإكتفاء به، أولاً، وفي عدم إشغال الفكر بالمعطيات المعيقة لها، وهي ليس الاستعمار والامبريالية والخارج فقط، وبالعوامل الدافعة لها، وهي بالتأكيد ليست الارادة الذاتية فقط، وبصيغها، واقصاها وابعدها الوحدة الشاملة، التي قد تبدأ بتوحيد ارقام الاسعاف والنجدة وتسهيل المرور، ومنطلقها في ما ارى استكمال بناء الدولة الحديثة، حدودا وسيادة وقانوناً ناظماً للعلاقات بين الافراد والجماعات ومنتجاً للسلطات فيها، وفيها نعيد السياسة للانسان العربي بعد أن أُشبع بالايديولوجيا، ونضعف الشعور السياسي الأقلوي للجماعات الاثنية والمذهبية والجهوية ونواجه معيقي الوحدة الخارجيين، ونكون بذلك على الطريق الاسرع للوحدة.
لا يعني هذا القول في القول “الوحدوي” الكروي عدم الفرح بالكفاءة الكروية لفريقي المغرب والسعودية والكفاءة القطرية في التنظيم الدقيق للمونديال، كما لا يعني نفي الاعتزاز بالهوية العربية، بل يعني الاعتراض على بناء الأوهام عليها.