نجح “الموساد” من خلال تجنيد مسؤول الأمور اللوجستية في منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عدنان ياسين بمتابعة كل من كان يعتبره متورطاً في عملية ميونيخ عام 1972، ويروي الكاتب رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه كيف استخدم جهاز “الموساد” المعلومات التي كان يزوّده بها عدنان ياسين لتصفية حساباته القديمة مع الفلسطينيين الذين كانت قد أدرجت أسماؤهم على “اللائحة الحمراء” (مطلوبين للقتل) قبل اكثر من عشرين عاماً (حقبة جولدا مائير)، وبقي معظمهم فاراً، على حد تعبير بيرغمان الذي ينقل عن مساعد رئيس “الموساد” شبطاي شافيت حينذاك قوله “من وجهة نظرنا، الصفحات الحمراء تبقى بلا نهاية”.
يقول بيرغمان إنه على راس لائحة المطلوبين للاغتيال، إحتل عاطف بسيسو المرتبة الأولى، كونه كان عضواً في “منظمة ايلول الاسود” المعروفة بعملياتها الفتّاكة ضد “الاسرائيليين” في مختلف انحاء العالم.
بات عاطف بسيسو يحتل منصباً رفيع المستوى في منظمة التحرير بدءاً من العام 1992، ولم يكن معروفاً عنه انه لعب دوراً في “عملية ميونيخ” التي قتل فيها رياضيون “اسرائيليون”، ذلك أن منظمة التحرير كانت تنفي اي دور لها، ولكن “الموساد” كان يصر على عكس ذلك ولكن لم يكن الامر مهما لرئيس “الموساد” اليميني شبطاي شافيت الذي وضع نصب عينيه الانتقام من منفذي “عملية ميونيخ” من أعضاء “منظمة أيلول الأسود”.
في تلك الفترة، كانت منطقة الشرق الاوسط مشغولة بالانتفاضة الشعبية الفلسطينية في الاراضي المحتلة، وكانت “اسرائيل” بحاجة ماسة إلى معلومات استخبارية عن الانتفاضة “بدلاً من ملاحقة وقتل اشخاص كانوا على علاقة او لم يكونوا على علاقة بأعمال عدائية حصلت قبل عقدين من الزمن، ومع ذلك، أعطى رئيس الحكومة حينها اسحق شامير الضوء الاخضر لاحياء “اللائحة الحمراء”، ومن ضمنها عاطف بسيسو.. والسبب في ذلك “بسيط جداً”، بحسب ما يقول عملاء وحدة “قيساريا”، ذلك أنه بات بالإمكان الوصول اليه عبر عدنان ياسين”.
استشاطت وكالة الـ”سي اي ايه” الامريكية غضبا لان “الموساد” تدخل مرة ثانية لضرب روابطها مع منظمة التحرير، وكان الفرنسيون اكثر غضبا من الامريكيين لان عملية اغتيال عاطف بسيسو كانت تشكل خرقا فاضحا للسيادة الوطنية
وفي مطلع يونيو/حزيران عام 1992، غادر بسيسو تونس لعقد سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين من الاستخبارات الالمانية والفرنسية ومع المسؤول في الاستخبارات الامريكية روبرت باير الذي نقل عنه بيرغمان قوله “في العام 1979 اغتال الموساد علي (ابو حسن) سلامة الذي كان ضابط اتصال مع السي اي ايه وكنا على يقين ان قتله كان يهدف الى قطع حلقة الوصل هذه معنا. وبعد سلامة تولى مهمته كل من هاني الحسن وعاطف بسيسو وقد توجهت الى باريس لعقد اللقاء الدوري معه”.
وتبعاً لمصادر عدة، يقول بيرغمان، إن هذه اللقاءات كانت سبباً رئيسياً إضافياً لقرار “الموساد” بتصفية بسيسو، فقد كان “الموساد” يعتبر انه حلقة الوصل الرئيسية بين منظمة التحرير الفلسطينية واجهزة الاستخبارات الغربية ومنها الإستخبارات الالمانية والفرنسية والامريكية.
كان كبار المسؤولين في اجهزة الاستخبارات “الاسرائيلية” يعتبرون ان هذه العلاقات الإستخبارية تشكل خطوة كبيرة باتجاه اقامة علاقات دبلوماسية بين منظمة التحرير الفلسطينية وعواصم غربية وبالتالي اضفاء الشرعية على المنظمة ورئيسها ياسر عرفات بالاضافة الى عزل “اسرائيل”، وقد أجّجت حقيقة ان من ينسج هذه العلاقات مع الغرب هم من العناصر السابقين في “منظمة ايلول الاسود” المزيد من الغضب لدى “اسرائيل”. ولم تلق كل احتجاجات “اسرائيل” على هذا الامر إلا آذاناً صماء؛ لذلك قررت ان تعبّر عن عدم رضاها بطريقة مباشرة.
ولأن عدنان ياسين يتولى تدابير سفر المسؤولين الفلسطينيين، فقد كان يعرف ان بسيسو قد قرر في اللحظات الاخيرة تغيير خطة سفره فبدلاً من سفره بالطائرة من بون (في المانيا) الى باريس، قرر ان يسافر بالسيارة وبدلا من حجزه للمبيت في فندق “ميريديان اتوال” قرر ان يحجز في فندق “ميريديان مونتبرناس” وللسخرية فان هذا التغيير في خطته كان يهدف الى الحفاظ على امنه وسلامته. وهكذا وبموجب المعلومات المقدمة من ياسين، كان فريق من عملاء وحدة “الحربة” للاغتيالات بانتظار بسيسو في بهو الفندق ولاحقوه حتى غرفته وانتظروا حتى انتهائه من افراغ حقائبه واخذ حمامه ولبس ثيابه تحضيراً لخروجه في المساء وبقوا على مقربة منه عندما خرج لتناول العشاء مع بعض الاصدقاء في مطعم “ايبوبوتاموس” المجاور للفندق وعاد بعدها الى الفندق. وما ان غادر السيارة متوجها الى مدخل الفندق، وعند البهو، تقدم منه عميلان من وحدة “الحربة” واطلقوا عليه النار خمس مرات مستخدمين مسدسات مزودة بكواتم صوت، ومباشرة بعد قتله قاما بجمع الرصاصات الفارغة من على الارض ووضعوها في حقيبة بحوزتهما من اجل تعقيد الامور على المحققين لاحقاً.
اثر ذلك، أعلن شخص يزعم انه الناطق باسم “منظمة ابو نضال” المنشقة عن حركة فتح مسؤولية منظمته عن عملية الاغتيال، ولكن هذا الزعم سرعان ما نفاه الناطق الحقيقي باسم “منظمة ابو نضال” (صبري البنا)، فيما بادر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على الفور الى اتهام “اسرائيل”، اما رئيس جهاز “امان” الاستخباري في ذلك الحين العميد يوري ساغي فقد اعلن بعد ذلك بوقت قليل انه لا يعلم من نفذ العملية لكنه اضاف ان بسيسو كان على علاقة بمجزرة الرياضيين في ميونيخ وبالهجوم الذي تم احباطه على طائرة العال “الاسرائيلية” في روما عام 1978 وبمحاولة قتل السفير الاردني في لندن. لكن ردود الافعال العنيفة على اغتيال بسيسو جاءت سريعة. فقد استشاطت وكالة الـ”سي اي ايه” الامريكية غضبا لان “الموساد” تدخل مرة ثانية لضرب روابطها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الفرنسيون اكثر غضبا من نظرائهم الامريكيين لان عملية الاغتيال امام فندق باريسي راق كانت تشكل خرقا فاضحا للسيادة الوطنية، فبدأ عملاء الاستخبارات الفرنسية يضغطون على عملاء “الموساد” في فرنسا ووضعوهم تحت المراقبة وداهموا اللقاءات التي كانوا يعقدونها وحددوا مصادرهم واحرقوها (تعبير في لغة الاستخبارات يعني كشف المصادر) ولا يزال التحقيق القضائي في عملية الاغتيال مفتوحاً. وفي الحقيقة، صحيح ان قتل بسيسو قد شكل عملية الهاء بسيطة في اوقات حرجة لـ”اسرائيل” ولكنه زاد في التشهير الدولي بها في الوقت الذي كانت فيه بأمس الحاجة الى اكبر قدر ممكن من الحلفاء.
الضربة الكبرى لمنظمة التحرير الفلسطينية جاءت من الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي ارتكبه ياسر عرفات نفسه ومن دون اي ضلع لـ”الموساد” في الامر بتأييده قرار غزو العراق للكويت
على المقلب الاخر، مما لا شك فيه ان تصفية مسؤول رفيع في منظمة التحرير الفلسطينية كانت مسؤوليته تنسيق علاقات عرفات مع وكالات الاستخبارات الغربية كان له اثر كبير، فعملية الاغتيال هذه بالاضافة الى عمليات قتل متعمد اخرى نفذتها اجهزة الاستخبارات “الاسرائيلية”، وكان مصدر المعلومات فيها عدنان ياسين، قد اضعفت منظمة التحرير الفلسطينية كثيراً في تلك الفترة.
ويضيف بيرغمان، أنه في اواسط التسعينيات (من القرن الماضي)، تمكن عملاء من جهازي “الموساد” و”امان” من اختراق شبكة الحاسوب المركزي للذراع المالية لحركة فتح ـ “صامد الاقتصادي”، وقاموا بنقل اموال من حساب الى اخر داخل الحاسوب بطريقة تجعل عناصر في المنظمة يشتبهون بان زملاءهم يسرقون اموال الصندوق مما خلق مناخاً من الفوضى وعدم الثقة في ما بينهم. وباتت القيادة في حالة من الحيرة وانشغلت بإجراء تحقيق داخلي لمعرفة الخونة والعملاء. نتيجة كل ذلك، حصل تراجع ملحوظ في هجمات منظمة التحرير ضد “اسرائيل”.
يواصل بيرغمان الحديث عن تلك الفترة الزمنية قائلا ان الضربة الكبرى لمنظمة التحرير الفلسطينية جاءت من الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي ارتكبه ياسر عرفات نفسه ومن دون اي ضلع لـ”الموساد” في الامر. ففي اغسطس/آب عام 1990 ارسل الرئيس العراقي صدام حسين 90 الف جندي عراقي مدعمين بـ 700 دبابة عبر الحدود لغزو امارة الكويت الغنية بالنفط. هذا الغزو تمت ادانته تقريبا من كل دول العالم بالاضافة الى الدول الغربية والدول الشرق اوسطية وتمت بطبيعة الحال مواجهته بقوة عالمية متعددة الجنسيات بقيادة امريكية، وكان عرفات والزعيم الليبي معمر القذافي هما الوحيدان اللذان دعما صدام حسين في غزوه هذا ورفضا تأييد بيان صادر عن جامعة الدول العربية يدعوه لسحب جنوده من الكويت، وحينها شبّه عرفات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والذي شاركت فيه عدة دول عربية بـ”الحملة الصليبية” الجديدة، واعلن ان صدام حسين هو “مدافع عن الامة العربية وعن المسلمين وعن كل حر في كل مكان في العالم”. هذا التصريح اثار غضب دول الخليج التي تموّل منظمة التحرير، فكانت النتيجة أنه في اواسط العام 1992 افلست المنظمة التي شكلت على مدى سنوات العدو اللدود لـ”اسرائيل” وباتت محشورة وظهرها للحائط، بينما كانت الإنتفاضة الفلسطينية تزداد تصاعداً.