أوكرانيا تتأرجح على حافة الهاوية.. لا أطلسية ولا روسية 

سؤال واحد يُربك أوروبا والولايات المتحدة: هل يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا فعلاً؟ أم أن الحشد الحدودي لا يعدو كونه رقصاً على حافة الهاوية من أجل تحقيق مطلب واحد، ألا وهو منع كييف من الإنضمام رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي؟ 
التحذيرات المتتالية الصادرة عن الولايات المتحدة بدءاً بالرئيس جو بايدن، ثم عن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى وحلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى من دول خارج حلف الأطلسي، كلها تحذر موسكو من “عواقب وخيمة وثمن باهظ” في حال أقدمت على غزو أوكرانيا.
غاية هذه التحذيرات كما بات معروفاً ردع فلاديمير بوتين عن إطلاق الغزو الثاني، ورسم خط أحمر أمامه، من طريق التشديد على أن الظروف قد تغيرت عن تلك التي كانت سائدة عام 2014، يوم جرى ضم شبه جزيرة القرم وتفجير حرب الإنفصال في حوض الدونباس في الشرق. وبكلام آخر تريد أوروبا والولايات المتحدة الإيحاء بأنهما أكثر عزماً من أي وقت مضى، على الدفاع عن مصالحهما في أوكرانيا ودول أخرى في شرق القارة ووسطها. ويمكن بطبيعة الحال، إعتبار هذا الإستنفار الغربي، بمثابة تعويض عن الإخفاق الغربي المدوي في أفغانستان قبل أشهر. لا يمكن لبايدن وحلفائه أن يتحملوا إخفاقاً آخر بفارق أشهر.
وإلا ما معنى، أن يهدد الأطلسي بنشر المزيد من الجنود والعتاد في بعض الدول الأعضاء مثل بولندا وجمهوريات البلطيق في حال فقد الحلف أوكرانيا التي يعتبرها “عمقه الإستراتيجي” في مواجهة روسيا. وتقترب ألمانيا من إتخاذ موقف يهدد وقف العمل بأنبوب الغاز “نورد ستريم 2” في حال حصل الغزو، علماً بأن الأنبوب الذي أنجز منذ أشهر، لم يتم تدشينه بعد.
تتعامل الولايات المتحدة مع أوكرانيا وكأن عليها يتوقف الإحتواء الإستراتيجي لروسيا وطموحات بوتين إلى إحياء أمجاد الإمبراطورية الروسية. أما موسكو فترى أن الإنضواء الرسمي لكييف في الحلف الغربي، سيعد ضربة إستراتيجية لمصالحها الأمنية ولن تبقى بلا مضاعفات حتى في الداخل الروسي
وإلى التهديدات والعقوبات والمناورات الأطلسية في البحر الأسود، كشفت مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، أن صانعي القرار في الولايات المتحدة يدرسون أيضاً خيارات عسكرية أميركية. وإحدى هذه الخيارات هي تزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة، وإرسال وحدات من القوات الخاصة إلى هذا البلد وتشجيع الحلفاء على إتخاذ خطوة مماثلة، والتهديد بغزو مناطق تساند فيها روسيا الإنفصاليين مثل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وإقناع تركيا السماح بمرور سفن الحلفاء إلى البحر الأسود لتحقيق تفوق بحري على روسيا، وتطويق الجيب الروسي في كالينينغراد. وإقترح السناتور الأميركي روجر ويكر مثلاً إرسال قوات أميركية مقاتلة وسفن حربية وحتى أسلحة نووية إلى أوكرانيا. وكأن في الولايات المتحدة ثمة من يريد أن يقول لبوتين إن التركيز الأميركي العسكري على منطقة المحيط الهادىء، لا يمنع أميركا عن الدفاع عن مصالحها في أوروبا أيضاً، وبأن أوكرانيا توازي في الأهمية جزيرة تايوان، التي تعهدت إدارة جو بايدن الدفاع عنها في مواجهة التهديدات الصينية. وفي خطوة مليئة بالدلالات، تمت دعوة تايوان وأوكرانيا إلى  قمة “الدول الديموقراطية” التي عقدها بايدن إفتراضياً في وقت سابق من الشهر الجاري في تعميق للإصطفاف الدولي في مواجهة روسيا والصين اللتين تصنفهما واشنطن في مقدمة “الدول الإستبدادية”.
وتذهب التعبئة الغربية مدى أوسع. فهذا رئيس الأركان السويدي الجنرال ميكائيل بيودن (السويد ليست عضواً في الأطلسي) يزور واشنطن منذ يومين، داعياً إلى إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى أوروبا كـ”رسالة ردع” لروسيا. بدوره، يقول النائب الأميركي عن الحزب الديموقراطي سيث مولتون، وهو عسكري سابق زار أوكرانيا مؤخراً: “علينا أن ننشغل بردع بوتين أكثر من استفزازه.. إذا غزا بوتين (أوكرانيا)، أريده أن يعرف أنّه سيجد صعوبة في أن يشتري في الدقائق الخمس التالية مشروباً غازياً من آلة بيع..”.
بعدما أخفقت القمة الإفتراضية بين بايدن وبوتين، إزدادت الأمور تعقيداً. لكن اليوم بين يدي الولايات المتحدة، ورقة روسية قد تصلح منطلقاً للتفاوض الجدي بين واشنطن وموسكو لنزع فتيل أزمة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها في حال تحوّلت حرباً صريحة
وفي مواجهة ورقة الحشد العسكري، لا يقدم الأطلسي جواباً حاسماً في شأن عضوية أوكرانيا. ويشدّد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ على أن الأطلسي لن يقدم تنازلات إلى روسيا التي تطالبه بمراجعة الوعد الذي قدّمه الحلف في قمته ببوخارست في نيسان/أبريل 2008 بمنح أوكرانيا وجورجيا العضوية فيه مستقبلاً، مبدياً إقتناعه بأنه ليس لدى موسكو أي حق في اتخاذ قرارات في شأن انضمام دول ذات سيادة مثل أوكرانيا إلى الحلف. ومع ذلك، لم تحصل كييف على جواب حاسم بـ”نعم” أو “لا” بعد 13 عاماً.
لكن بوتين لا ينتظر جواباً من الحلف وإنما من الولايات المتحدة بالذات، متجاوزاً بذلك أيضاً دول أوروبا. وهذا مغزى الإقتراحين اللذين حمّلتهما موسكو لوكيلة وزارة الخارجية الأميركية لمكتب الشؤون الأوروبية والأوراسية كارين دونفريد التي زارت العاصمة الروسية قبل أيام.  وينص الاقتراحان اللذان أطلق عليهما “معاهدة بين الولايات المتحدة وروسيا في شأن الضمانات الأمنية” و”اتفاق حول تدابير لضمان أمن روسيا والدول الأعضاء” في حلف شمال الأطلسي، على حظر أي توسع إضافي للحلف، وكذلك إنشاء قواعد عسكرية أميركية في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
ووصفت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، الإقتراحين الروسيين بأنهما يشبهان أفكاراً مستوحاة من حقبة الحرب الباردة. وهما يشدّدان على تعهد قطعه وزير الخارجية الإميركي جيمس بيكر في عهد جورج بوش الأب، لآخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف، مفاده أن حلف شمال الأطلسي لن يتوسع نحو الشرق. لكن بيكر قال في ما بعد إن المسؤولين الروس أساءوا فهم تصريحه، الذي كان يقصد به ألمانيا الشرقية سابقاً.
وبعدما أخفقت القمة الإفتراضية بين بايدن وبوتين أوائل الشهر الجاري في خفض التصعيد في أوكرانيا، إزدادت الأمور تعقيداً. لكن اليوم بين يدي الولايات المتحدة، ورقة روسية قد تصلح منطلقاً للتفاوض الجدي بين واشنطن وموسكو لنزع فتيل أزمة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها في حال تحوّلت حرباً صريحة.
وطالما لم يقبل الأطلسي إنضمام أوكرانيا رسمياً إلى عضويته، فإن إمكانات الحوار مع الكرملين لا تزال قائمة، بينما في المقابل تبقى خطط الغزو الروسي معلقة بدورها.
تتعامل الولايات المتحدة مع أوكرانيا وكأن عليها يتوقف الإحتواء الإستراتيجي لروسيا وطموحات بوتين إلى إحياء أمجاد الإمبراطورية الروسية. أما موسكو فترى أن الإنضواء الرسمي لكييف في الحلف الغربي، سيعد ضربة إستراتيجية لمصالحها الأمنية ولن تبقى بلا مضاعفات حتى في الداخل الروسي. فهل هذا يجعل الحرب حتمية، أم لا يزال ثمة مخارج قبل الضغط على الزناد؟
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  كأن ما يجري في لبنان.. ليس في لبنان!
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أوهام الحرية ونخبة الحراك في لبنان (2)