صراصير الليل حين تتغازل..!

مرّةً، كان ونستون تشرشل يستقلّ التاكسي. فلاحظ أنّ السائق، الذي لم يتعرّف عليه كما نفهم من "الحدّوتة"، يقود بسرعةٍ كبيرة. انزعج السياسي البريطاني الشهير، وسأله مستفهماً عن سبب قيادته السريعة؟ فأجابه: "أستعجل كي أصل إلى بيتي قبل بدء خطاب تشرشل على الراديو بعد أربع دقائق".

اغتبط تشرشل كثيراً. وفور وصوله إلى مقصده، دفع للسائق عشر استرلينات إكراماً لاهتمامه. ولدى رؤية السائق المبلغ، لم يصدّق عينيْه. فقال وقلبه يرقص فرحاً: “من أجل مبلغٍ كهذا أنتظر أربع ساعات وليس أربع دقائق.. وليذهبْ تشرشل وخطابه إلى الجحيم”. سمعتُ هذه الأقصوصة ترويها إحدى المذيعات خلال فترة بثٍّ إذاعيٍّ مباشر، بينما كنتُ أقود سيّارتي على طريق الجبل، في الصيف الماضي. لم تنتهِ الواقعة هنا.

فلقد طلبت تلك المذيعة من المستمعين (وكان صوتها جميلاً وإذاعيّاً من الطراز الأوّل)، أن يتّصلوا بالإذاعة لـ”يستنتجوا” العبرة التي استخلصوها من الأقصوصة التشرشليّة. ظلّت المذيعة تردح طوال نصف ساعة وأكثر بقليل، فيما الآراء تنهمر عليها (وعلينا طبعاً كمستمعين). كلام “شَرَوي غَرَوي”، كما نقول بلغتنا العاميّة. هذا يتحدّث عن المصلحة والمصالح التي تتفوّق على كلّ اعتبار. وذلك يعِظنا عن ضرورة عدم الوقوع في فخّ بريق المال الذي يُعمي الأبصار. وذاك يقصّ روايةً مشابهة حدثت مع زعيمٍ آخر.. وهكذا.

لكنّني، وأنا أستمع وأبتسم أحياناً لبعض المداخلات، لم أكن أفكّر إلاّ في مسألةٍ واحدة؛ بـ: كيف كان الناس ينتظرون خطابات المسؤولين والقادة والزعماء. وكيف كانوا يترقّبون ما سيعلنه فلان وما سيكشف عنه علاّن. يا إلهي..! كيف انقلبت الأمور رأساً على عقب؟ وصرتُ أقارن بين انتظارات أجيال الأمس، وبين انتظارات “جيل الإصبع” اليوم (التعبير للفيلسوف الفرنسي ميشال سير). كم اختلفت مفاهيم الاتصال والإعلام والخطابة والكلام.. وكلّ المفاهيم!

تساءلت في سرّي عمّن له القدرة، في هذا العصر، على الإنصات لمَن يتكلّم ويعبّر ويلغو؟ وعمّن له الطاقة، في هذا الزمن، لتلقّي ما يُرسَل إليه من كلامٍ وتعبيراتٍ ولغو! ولا سيّما بعدما شُرِّعت الأوقات والمنصّات، على مصراعيْها، للتافهين. لمُحتكري الكلام. كي يثرثروا كغثاء السيل. فـ”حين تصمت النسور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة”، كما يقول صديقنا ونستون تشرشل آنف الذكر! أعود لدوافع كلامي، في هذه السطور، عن الكلام.

خلال الأسبوع المنصرم، صبّ القدر علينا دفقاً من ذاك الكلام غير المعروفة طبيعته. حكى “رمسيس الأكبر”، فأعاد رجعُ الصدى إلينا، بعد حين، كلاماً ضخّه على الشاشات “سقنن رع تاعا”. ووُعِدنا، في الآتي من الساعات، بحديثٍ ناريٍّ موصوف سيُدلي به “تحتمس الثاني”

الدافع الأساسي والمباشر، هو غزوة رفٍّ من تلك الببغاوات للمنابر (بالمعنى المجازي لكلمة المنابر). ببغاء من هنا. ببغاء من هناك. ببغاء من هنالك. ولا يهمّ ما تلهج به هذه الببغاوات. ما يهمّ، تحديداً، أنّ ما يخرج من “مناقيرها” لا يُعرَف نوعه أو شكله. وإذا كانت غاية اللغة عندما تكون في حالة فعلٍ كلامي هي “كسْب عقول الناس بالكلمات” بحسب أفلاطون، فإنّ مقولة فيلسوفنا العظيم تتحطّم عند أسوار السياسيّين المتفوّهين في لبنان. إذْ إنّ كلامهم هجينٌ عجيبٌ غريب. لا يشبه الخطابات، بشيء. ولا التصريحات. ولا المؤتمرات الصحفيّة. ولا تلاوة البيانات. ولا حتّى التغريدات التويتريّة. هو نعيقٌ ليس إلاّ.

خلال الأسبوع المنصرم، صبّ القدر علينا دفقاً من ذاك الكلام غير المعروفة طبيعته. حكى “رمسيس الأكبر”، فأعاد رجعُ الصدى إلينا، بعد حين، كلاماً ضخّه على الشاشات “سقنن رع تاعا”. ووُعِدنا، في الآتي من الساعات، بحديثٍ ناريٍّ موصوف سيُدلي به “تحتمس الثاني”. وهمست لنا العصفورة المرتعبة، أنّه سيُطلّ علينا أيضاً “أخناتون”. ليضع النقاط، وعلى جري عادته، على حروف حياتنا المبعثرة. والله أعلم، قد تتفتّح شهيّة فراعنةٍ آخرين للكلام، مع “عودتهم الميمونة” إلى شوارع بيروت! لكن، نقطة هامّة يجب التوقّف عندها ههنا.

كلام السياسيّين في لبنان، لا يشبه كلام أيٍّ من نظرائهم في العالم! كلامهم له سمات خاصّة. وظائف محدَّدة. مهمّات متنوّعة. تختلف عن كلّ ما عرفتموه أو قرأتموه من قبل. عُدّوا على أصابع اليديْن، يا أصدقائي، الأدوار التي يؤدّيها كلام سياسيّينا في لبنان:

أوّلاً، التأكيد على فرادة المتكلّم وتفرّده في امتلاك ناصية الحقّ والحقيقة. فهو دائماً على صواب. أمّا كلام سائر المتحدّثين، فهو باطل. وهذا ما يعلّله، بدقّةٍ متناهية، الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور في كتابه dialectique éristique. فيشرح عن “استراتيجيّات تحوير الخطاب”، وتقصُّد الخطأ وتجهيل الفاعل كنوعٍ من أنواع تحقيق رصيدٍ إيجابي في ميزان الربح والخسارة خلال المحاججة.

ثانياً، الترويج لبيع الكلام. ألم تسمعوا عن بائعي الزهور؟ بائعي الهوى؟ بائعي الموت؟ بلى. وفي لبنان، هناك أيضاً مسؤولون احترفوا بيع الكلام. ترديد الشعارات الجوفاء. التنظير والتهريج الإعلامي. نظْم زجليّات ركيكة تشبه المفرقعات التي انتهت صلاحيّتها.

ثالثاً، الكلام في لبنان يمكن أن يكون وسيلة للانتحار السياسي. نعم. إذْ يُدلي أحدهم بتصريحٍ على الهواء، فإذا به يرتدّ عليه. يصبح كالرصاصة التي يُطلِقها من مسدّسه على رأسه. “يفرفر” قليلاً، ومن ثمّ يغرق بدمائه.

إقرأ على موقع 180  غورباتشوف.. الزعيم السوفياتي الأخير

رابعاً، التأثير على المتلقّين عبر تقنيّة التنويم المغناطيسي. بحيث، يستقبل اللّاوعي اللبناني الإيحاءات المتكرّرة برتابة من المتكلّم. فيغفو بعد لحظاتٍ من القنوط والاسترخاء. وعليه، يصير عقله الباطني يستجيب، وبشكلٍ كبير، لشتّى الاقتراحات والإيعازات و… تنفيذ الأوامر والتكليفات، على أنواعها.

خامساً، المساعدة على إثارة الفوضى. إذْ، “لا بدّ من شيءٍ من الفوضى لكي يفيق الغافل من غفلته”، كما يقول الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ. واقتداءً بهذا القول، يتطوّع المتكلّمون لإرشاد “الغافلين” إلى الصراط المستقيم!

سادساً، الحلول محلّ البريد السريع للتواصل مع العدوّ. وذلك، من دون أدنى مخاطرة من احتمال إثارة حفيظة الممانعجيّين، بخاصّة. ولا استدعاءات المحقّقين الأمنيّين (الذين عادت إلى صفوفهم المقدَّم – خبيرة فبركة الملفّات- برتبة عقيد).

سابعاً، الكلام في لبنان له دورٌ استثنائي. يتلخّص في ألاّ يكون له أيّ دور. وهذا، بالتأكيد، أمرٌ صعب للغاية. لأنّه ليس من السهل أن يكون شغلك الشاغل، في هذه الحياة الدنيا، أن ترصف جُمَلاً وتعابير وألفاظاً لا معنى لها على الإطلاق! فتصنيع الخواء، ليس بمتناول الجميع.

يُعتبَر الفرنسيّون أسرع شعوب العالم في الكلام. فهُم يتفوّهون بـ 350 كلمة في الدقيقة. بلا أدنى شكّ، لو شمل الاستطلاع بلاد الأرز، لسجّل سياسيّونا رقميْن قياسيّيْن؛ الأوّل، في سرعة الكلام. والثاني، في تفريغ هذا الكلام من كلّ معنى وجدوى. إقتضى، إذاً، أن يبلعوا ألسنتهم ويصمتوا إلى أبد الآبدين

ثامناً، كلام الخطباء السياسيّين اللبنانيّين، وبعكس الشائع، يصوغه القائمون عليه على شكل أسئلة موجَّهة للشعب! لكنّها أسئلة لا تنتظر أجوبة. فالمتكلّم، يقدّم نوعاً من المونولوغ. حتّى ولو كان يعرضه أمام جمهورٍ مفترَض. المتكلّم يحاور نفسه. يسأل نفسه ويجيبها. أو لا يجيبها. وهذا موضوع آخر!

تاسعاً، أحد أدوار الكلام هو أنّه وسيلة للتعمية. لتمويه الحقائق. لإخفائها تحت سابع أرض. هو “الاضمحلال” بمعنى ما، بحسب تعبير المفكّر الفرنسي بول فيريليو. أي، يمارس المتكلّمون عبر هذا الاضمحلال لعبة المراوغة التي نلعبها، عادةً، مع الأطفال. فنُخفي عنهم شيئاً ما، ونقول لهم “لا يوجد شيء الآن”. للإشارة، هذه هي طبيعة الحرب الخاطفة: الهيمنة وإضفاء طابع البطولة على “التقنيّة” التي تعمل على إخفاء الواقع. واقع الحياة. واقع حياتنا.

عاشراً، الكلام في لبنان له وزن. يُقاس بالكيلوغرامات. هي ثقافة الكمّ التي تسودنا. نتربّى على هذه الثقافة. الكمّ الذي يُقصي الجميعُ فيه الجميع. فالكميّة، تُعتبَر مقياساً اجتماعيّاً بارعاً في تحديد مكانة وقيمة كلّ شخص. أذكر أنّني عندما كنتُ أعمل في أحد التلفزيونات اللبنانيّة، كانت تلفتني ملاحظة موضوعة أمام أسماء بعض الشخصيّات: فلانٌ لا يحبّ الإطلالات القصيرة. علاّنٌ يرفض المرور السريع في نشرة الأخبار. فإذا لم يتكلّم اللبناني ساعةً وأكثر (السياسي على وجه التحديد)، وفي أيّ موضوعٍ كان، لا يعتبر نفسه قد تكلّم أصلاً.

أحد عشر، اختراع مناسبة لإطلاق الكلام. بمعنى أوضح، الكلام في بلدنا هو الذي يخلق المناسبة وليس العكس. من هنا، تشرئبّ أمام “المساعدين والمستشارين” مهمّة عويصة. مهمّة اجتراح مناسبة بأيّ ثمن. قتْل. تفجير. تفخيخ. لا يهمّ. المهمّ إيجاد مناسبة “للزعيم” كي يتفوّه. خلْق فرصة له ليُطلّ على الجماهير الغفورة. فلتكنْ المناسبة “يوم اللبنة”. “أسبوع التفّاح”. “شهر العسل”. لما لاااااااا؟

ثاني عشر، كلام السياسيّين في لبنان له رائحة. نعم. مثله مثل رائحة الشيح. الحريق. العفونة. التزنّخ. السمك. اللحم المقلي. ولكن، غالباً ما نستنشق منه رائحة المؤامرات. الصفقات. الأسى. الدماء. الموت.

ثالث عشر، الكلام في لبنان له، أيضاً، صوت مميّز. طنين، بالأحرى. لكن يطنّ دوماً في الوقت الخطأ. ولا يمكن رصد مصدره، حتّى ولو كنّا نرى حنجرة صاحبه. في الحقيقة، صوت السياسي اللبناني يشبه أكثر النقيق. مثل زيز الحقل. صرصور الليل. فهذا النوع من الصراصير، يُصدِر تردّدات متنوّعة يحاول عبرها مغازلة وجذب غيره من الصراصير. وأحياناً يكون الهدف الاستدراج للاقتتال على طريدة. لذا، يوصَف صرصور الليل بالحشرة الطائرة العدائيّة.

كلمة أخيرة. يُعتبَر الفرنسيّون أسرع شعوب العالم في الكلام. فهُم يتفوّهون بـ 350 كلمة في الدقيقة. بلا أدنى شكّ، لو شمل الاستطلاع بلاد الأرز، لسجّل سياسيّونا رقميْن قياسيّيْن؛ الأوّل، في سرعة الكلام. والثاني، في تفريغ هذا الكلام من كلّ معنى وجدوى. إقتضى، إذاً، أن يبلعوا ألسنتهم ويصمتوا إلى أبد الآبدين. آمين.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لا بد من كسر الحلقة الجهنمية