“طوال عشرات الأعوام، حكم إسرائيل سياسيون كان الحسم ركيزتهم الأساسية. هم لم يكونوا جزءاً من التاريخ، بل كانوا التاريخ بحد ذاته. هؤلاء الزعماء أعلنوا إقامة دولة إسرائيل، مثل بن غوريون، وعرفوا كيف يبدأون حرباً، مثل ليفي أشكول، وعقدوا اتفاقات سلام، مثل مناحيم بيغن وإسحاق رابين، أو قاموا بتغييرات إقليمية تاريخية، سواء بواسطة اتفاقات، أو بصورة أحادية الجانب. آخر جيل زعماء الحسم كان أرييل شارون الذي نفّذ الانفصال عن غزة في سنة 2005، وأظهر تعارضاً أيديولوجياً عميقاً مقارنة بمواقفه السابقة. يمكن أن نتجادل في ماهية القرارات الحاسمة أو تداعياتها، لكن من الواضح أنها كلها ناجمة عن معرفة تاريخية ورؤية بعيدة المدى، واستندت إلى الأخذ بالمبادرة كاستراتيجيا وجودية، ورافقتها شجاعة كبيرة.
حقبة القرارات الحاسمة ذهبت وحلت محلها في العقد ونصف العقد الأخيرين استراتيجيا “إدارة النزاعات”. وحلت محل قرارات البدء بالحرب أو إبرام اتفاقات السلام عمليات عسكرية (في الأساس في غزة) – جزء منها بمبادرة من إسرائيل، وجزء آخر فرضه العدو عليها، مثل عملية “حارس الأسوار” الأخيرة؛ وعمليات عسكرية استراتيجية أو محدودة (على رأسها تدمير المفاعل النووي في سوريا في سنة 2007)؛ أو توقيع اتفاقات سلام مع دول المنطقة ذات أهمية كبيرة، لكنها لا تتطلب نقاشاً حاداً داخل إسرائيل بشأن مسائل وجودية أو تقديم تنازلات جوهرية (نموذج إتفاقات أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب).
وفي الواقع، توجد اليوم ثلاث قضايا ونصف قضية، المطلوب من الزعامة في إسرائيل حسمها: النووي الإيراني، الاندماج المتزايد مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وضع “حماس” في غزة، ونصف قضية لا تشكل تهديداً: منظومة العلاقات بين الدولة وبين مواطنيها من العرب (المناطق المحتلة عام 1948).
في كلٍّ من القضايا الثلاث الأولى، تفضل إسرائيل، أو تضطر، منذ عقد ونصف العقد إلى انتهاج سياسة إدارة النزاع بدلاً من الحسم. النتيجة العملية لهذه المقاربة هي استمرار تعاظُم التهديدات التي تنطوي عليها: إيران تسير بثبات نحو الحصول على قدرة نووية عسكرية؛ “حماس” تعزز نفسها على صعيد الحكم وعسكرياً (نوع من حزب الله على حدودنا الجنوبية) وتستعد للاستيلاء على زعامة السلطة الفلسطينية؛ وفي الضفة الغربية يتطور واقع الدولة الواحدة، بالتدريج، من دون تخطيط أو رغبة.
المطلوب من إسرائيل في هذه المرحلة إعطاء فرصة لاستنفاد الخطوات السياسية والاقتصادية الدولية ضد إيران، من خلال تنسيق وثيق مع الإدارة الأميركية. وفي موازاة ذلك، بناء سريع للقوة لمواجهة احتمال القيام بعملية عسكرية محتملة في المدى القريب يمكن أن يكون لها تداعيات دراماتيكية، في طليعتها الاحتكاك بالولايات المتحدة ومواجهة على الجبهة الشمالية
لا جدال في أنه وقت صعب، بصورة خاصة للقرارات الحاسمة: المجتمع الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة، لا يمنح إسرائيل غطاء للقيام بخطوات عسكرية استراتيجية، وعلى رأسها مهاجمة إيران؛ ويتأرجح الفلسطينيون بين عدم الرغبة وعدم القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية؛ الحكم والجمهور في إسرائيل مشغولان بمشكلات داخلية أُخرى صعبة، وفي مقدمتها الكورونا؛ والواقع السياسي المعقد يجعل من الصعب الدفع قدماً بقرارات حاسمة عسكرية أو سياسية.
لكن زعامة لديها رؤية بعيدة المدى لا تستطيع الاستمرار في الاعتماد على شعارات، مثل “إدارة النزاع” والشعور بأنه من الممكن اللعب مع الوقت، أو الاعتماد على نهج سلبي. في كل قضية من القضايا الثلاث، المطلوب قرار حاسم ذو طابع مختلف: وتوقيت التحرك في كل واحدة هو مختلف، وأيضاً التداعيات الداخلية والخارجية.
بالنسبة إلى “ساعة الرمل الإيرانية”، المطلوب من إسرائيل في هذه المرحلة إعطاء فرصة لاستنفاد الخطوات السياسية والاقتصادية الدولية ضد النظام الإسلامي، من خلال تنسيق وثيق مع الإدارة الأميركية. وفي موازاة ذلك، بناء سريع للقوة لمواجهة احتمال القيام بعملية عسكرية محتملة في المدى القريب يمكن أن يكون لها تداعيات دراماتيكية، في طليعتها الاحتكاك بالولايات المتحدة ومواجهة على الجبهة الشمالية. في المسافة الفاصلة بين الدخول في حقبة استراتيجية جديدة تكون فيها إيران “على مسافة قريبة” من الحصول على قدرة نووية عسكرية، تختفي البدائل الموقتة على مختلف أنواعها.
الحسم في موضوع الضفة الغربية مختلف تماماً. فهو يتطلب من أصحاب القرارات نضجاً على صعيد الوعي، والتركيز على التفكير العملي بدلاً من التركيز على الأحداث الجارية. عملياً، المطلوب أن نفهم أن السياسة الحالية التي تعتمد على مقاربة “سلام اقتصادي”، أو إدارة النزاع، أو تقليصه، تنجح في خلق هدوء، لكنها ليست بديلاً من حل استراتيجي، وهي في الواقع تُستخدم غطاء للزحف المتواصل نحو واقع الدولة الواحدة. المطلوب من متخذي القرارات البدء بفتح نقاش سياسي وعام بشأن مسألة مصيرية هي الفصل – على سبيل المثال، ما هو التعبير الإقليمي لهذه الخطوة، هل يمكن تنفيذه من خلال اتفاق، أو بصورة أحادية الجانب، كيف سيكون وضع السلطة الفلسطينية وصلاحياتها؟
في موضوع غزة، الاختيار هو بين السيئ والأسوأ: الاستمرار في السياسة الحالية القائمة على تحسين سريع للوضع المدني في القطاع الذي يجعل من “حماس” أمراً واقعاً، ويسمح لها ببناء قوتها في مواجهة المعركة المقبلة (من دون أي ضمانة بألّا تبادر مجدداً إلى شن هجوم ضد إسرائيل)؛ أو تبنّي نهج صارم مأخوذ من الإعلان الذي برز في أيار/مايو الماضي أن “ما كان لن يكون”. ضمن هذا الإطار، ستتم تلبية كل الحاجات الوجودية في غزة، لكن إسرائيل لن تبذل جهدها لتحسين الواقع في غزة، وبالتالي تعزيز وضع “حماس” الاستراتيجي. من المعقول أن تؤدي هذه المقاربة إلى احتكاكات في القطاع، لكن من المحتمل أيضاً أنها ستشكل عائقاً في وجه سعي “حماس” للحصول على قوة عسكرية وسياسية استراتيجية.
هناك “نصف حسم” يتطلب هو أيضاً شجاعة وبصيرة بعيدة المدى. فبعد سبعة عقود ونصف على إقامتها، المطلوب من إسرائيل صيغة واضحة ومستحدثة لشبكة العلاقة بينها وبين الجمهور العربي الذي يتأرجح بين أقطاب مثيري الشغب في أحداث أيار/مايو (حرب غزة) وبين الاندماج التاريخي الذي يمثله حزب “راعام” (القائمة العربية الموحدة). الحسم المطلوب هنا هو صوغ عقد اجتماعي يحدد بصورة واضحة وتفصيلية وضع المواطنين العرب، والحقوق المتساوية التي من حقهم الحصول عليها وواجبات الاندماج المطلوبة منهم. هذا الأمر يمكن أن يساهم في استقرار الساحة الداخلية المشحونة كما تجلت في أيار/مايو الماضي، والتي أثبتت أن في إمكانها التحول إلى تحدٍّ استراتيجي.
الوقت ليس جامداً، ولا يسمح بأن نضع القضايا الملتهبة جانباً والعودة إليها عندما تنضج. القرارات الحاسمة التي لا تُتخذ بسرعة ستتحول في وقت قريب إلى تهديدات ستهبط على إسرائيل فجأة، بينما تكون غير مستعدة لذلك استراتيجياً، ومن المحتمل أن تكبدها ثمناً باهظاً. بناء على ذلك، يجب على الأقل البدء بنقاش واعٍ داخل الجمهور الإسرائيلي الذي شهد في الأعوام الأخيرة جواً من عدم المبالاة والهروب من الواقع واليأس”.
(*) المصدر: “مؤسسة الدراسات الفلسطينية“