إيران وإسرائيل من حافة الهاوية.. إلى “حرب الظلال” مجدداً!

وحده الخوف من النتائج الكارثية للمضي في لعبة الردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل، أعاد الحرب بين إيران وإسرائيل إلى "الظل" في الوقت الحاضر، ولجم إلى حد كبير الاندفاع نحو تصعيد متبادل كان سينتهي بحرب إقليمية شاملة، يتهيب لحظتها الجميع منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. 

الرد الإسرائيلي “المحدود” على قاعدة جوية في مدينة أصفهان بوسط إيران، الذي لم تتبناه تل أبيب، ولم تعترف طهران بأنه اعتداء خارجي، أتاح للأطراف العودة خطوة واحدة عن شفير الهاوية. إيران يمكنها القول إنها حافظت على الواقع الاستراتيجي الذي فرضته بعد الضربة الأولى المباشرة التي وجهتها من أراضيها لإسرائيل ليلة 13-14 نيسان/أبريل الجاري رداً على قصف قنصليتها في دمشق في الأول منه. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمكنه الادعاء بأن إسرائيل لم تذهب إلى رد واسع، كي تحافظ على التحالف الدولي والإقليمي الذي تحمّل العبء الأكبر عنها في صدّ أكثر من 300 مسيّرة وصاروخ إيراني.

 لم يكن هذا العامل الوحيد، الذي جعل نتنياهو يذهب نحو هذا الرد المحسوب. فواقع الغرق في رمال غزة والمنحى الحدودي التصعيدي مع لبنان، وتوسع رقعة المواجهات في الضفة الغربية، كلها لا تتيح فتح جبهة من دولة إلى دولة. والرسالة التي كرّرها الأميركيون منذ 14 نيسان/أبريل هي أنهم مستعدون للدفاع عن إسرائيل، لكنهم لن يشاركوا في هجوم تشنه على إيران..

ومنذ وصوله إلى رئاسة الوزراء للمرة الأولى عام 1996، وبعد عودته مجدداً في 2009 وحتى آخر حكومة شكلها عام 2022، ظلّ نتنياهو حبيس شعار أن إيران هي “الخطر” و”التهديد” الفعلي لإسرائيل. وكلما حدّثه المجتمع الدولي عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، طريقاً لتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط، كان يجيب بأن السلام يمر عبر تدمير البرنامج النووي الإيراني.

وبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، صعّدت إسرائيل هجماتها على الأهداف الإيرانية في سوريا لتقتل نحو 18 مسؤولاً عسكرياً واستخباراتياً من الحرس الثوري (قوة القدس)، وصولاً إلى استهداف القنصلية في دمشق، التي شكّلت منعطفاً في المواجهة مع إيران، ودفعت طهران إلى التخلي عن “الصبر الاستراتيجي” والذهاب إلى الرد المباشر من أراضيها.

المصلحة القاطعة لبايدن بعدم التورط في حرب أخرى بالمنطقة، دفعته إلى ممارسة الضغوط على نتنياهو كي لا يُشعل الفتيل الإقليمي، بعدما أخطأ الأخير في حساباته الإقليمية أكثر من مرة، وآخرها أن إيران ستبتلع ضربة القنصلية ولن ترد عليها، كما أخطأ في حساباته قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر من أن حركة “حماس” مردوعة ولن تتجرأ على مهاجمة إسرائيل

ولا بد أن الحكومة الإسرائيلية قد استخلصت العبر من الرد الإيراني، وأولها أن إسرائيل وحدها لم تكن لتستطيع صد هذا الكم من المُسيّرات والصواريخ، ولذلك فهي مدينة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وتالياً لم يعد في الامكان تجاهل نصائحهم بعدم التصعيد واشعال حرب إقليمية، واستبدال الرد الواسع بعقوبات جديدة فرضها الغرب على طهران.

بناء على هذه الحسابات، يقول المحلل البارز في مركز “ميتفيم” الإسرائيلي للأبحاث يوناتان توفا، إن الرد الإسرائيلي كان بمثابة “ضربة لخفض التصعيد”. وتتفق مع هذا الرأي دانا سترول التي كانت حتى كانون الأول/ديسمبر الماضي المسؤولة عن سياسات الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأميركية، إذ قالت: “من الواضح إن الهدف من الضربة عدم تصعيد الموقف أكثر.. وإذا ما قرّرت كل جهة أن مزيداً من الجولات المتبادلة ليس في مصلحتها، عندها يمكن إقفال هذا الفصل.. على الأقل حالياً”.

ويُعزّز هذا الافتراض، أن نتنياهو التقى الإثنين الماضي قادة تكتل “الليكود” ليُبلغهم أنه مُصمّم على الرد على إيران، لكن “بطريقة معقولة وليس بشيء غير مسؤول”.

وعملاً بمبدأ التماثل، ورداً على استهداف إيران قاعدة نفاتيم الجوية في صحراء النقب، اختارت إسرائيل توجيه ضربة إلى قاعدة جوية في أصفهان، وعلى الأرجح بثلاث مُسيّرات انتحارية. وتنتشر في هذا القاعدة مقاتلات من طراز “إف-14” الأميركية الصنع التي اشتراها الشاه محمد رضا بهلوي في سبعينيات القرن الماضي، وهي محروسة بصواريخ “إس-300” الروسية الصنع. ويوجد في أصفهان منشآت نووية أبرزها مجمع ناتنز الذي سبق أن تعرض لعدد من محاولات التخريب الإسرائيلية.

ومن الواضح أن نتنياهو أراد، من خلال ضربة أصفهان، البعث برسالة عن قدرة إسرائيل على الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية، وفق ما رأى خبراء في المجلس الأطلسي للأبحاث في الولايات المتحدة.

وتعرضت أصفهان التي تُعتبر من مراكز الثقل في الصناعات العسكرية الإيرانية، في كانون الثاني/يناير 2023، لهجوم بمُسيّرات إسرائيلية استهدفت منشأة للتصنيع العسكري. وفي عام 2022، ضربت مسيّرات إسرائيلية على شكل مروحيات منشآت لتصنيع المسيّرات في مدينة كرمنشاه بغرب إيران. ولم تتبنَ إسرائيل العمليتين، على غرار ضربة القاعدة الجوية فجر الجمعة الماضي.

ونادراً ما كانت الأحداث العالمية على هذا المستوى من التشابك منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر وصولاً إلى الردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل. والمصلحة القاطعة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم التورط في حرب أخرى بالمنطقة، دفعته إلى ممارسة الضغوط على نتنياهو كي لا يُشعل الفتيل الإقليمي، بعدما أخطأ الأخير في حساباته الإقليمية أكثر من مرة، وآخرها أن إيران ستبتلع ضربة القنصلية ولن ترد عليها، كما كان قد أخطأ في حساباته قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 من أن حركة “حماس” مردوعة ولن تتجرأ على مهاجمة إسرائيل!

الرسالة الإيرانية الأبلغ كانت أنه في لحظة معينة لن “تختبىء طهران وراء” حلفائها في المنطقة للرد على إسرائيل، وإنما ستبادر بنفسها إلى الرد برغم مخاطر الدخول في حرب مباشرة

كان هذا الخط الأحمر الأميركي الذي رُسم أمام نتنياهو مقابل مكاسب كبيرة بينها “الفيتو” الذي تم استخدامه في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع الدولة الفلسطينية، وتراجع النبرة الأميركية في موضوع اجتياح رفح.. وصولاً إلى إقرار مجلس النواب الأميركي رزمة مساعدات لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار، بينها 9 مليارات دولار لأعمال الإغاثة الإنسانية في غزة. برغم هذه كلها ومعها استمرار الجسر العسكري الجوي الأميركي لإسرائيل، يتعين على نتنياهو الآن أن يُحاول تسويق الرد الإسرائيلي المُخفّف على إيران لدى الوزيرين المتشددين في حكومته اليمينية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، كي يحافظ على ائتلافه الحكومي!

إقرأ على موقع 180  غنائم بوتين من قمة جنيف

وإيران نفسها، التي بعثت برسائل عدة إلى الولايات المتحدة عبر القناتين السويسرية والعُمانية، وإلى إسرائيل أيضاً عبر القناة الروسية، من أنها لا تُريد التصعيد، تُدرك أن خوض حربٍ إقليميةٍ شاملة سيُرتّب عليها المزيد من الأعباء في ظل الصعوبات الإقتصادية التي تواجهها مع استمرار العقوبات الأميركية، كما ستُهدّد صادراتها النفطية التي عادت في السنوات الأخيرة إلى المستوى الذي كانت عليه عام 2018، أي قبل عقوبات “الضغوط القصوى”، التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقب انسحابه من الاتفاق النووي عامذاك.

والرسالة الإيرانية الأبلغ كانت أنه في لحظة معينة لن “تختبىء طهران وراء” حلفائها في المنطقة للرد على إسرائيل، وإنما ستبادر بنفسها إلى الرد برغم مخاطر الدخول في حرب مباشرة. وفي معرض تبرير توجيه الضربة إلى إسرائيل، قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أكبر أحمديان “إن إيران اتخذت قرار الرد بناء على تزايد الإحباط من قبل الحوثيين وغيرهم في محور المقاومة بأن إيران لا تفعل شيئاً”.

ولم تغب الخشية لدى الغرب من احتمال أن تؤدي ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، إلى حشر طهران في الزاوية فلا يكون أمامها خياراً للردع سوى الذهاب في برنامج نووي سري لإنتاج القنبلة النووية. وقد ألمح إلى ذلك قائد وحدة حماية وأمن المراكز النووية في الحرس الثوري البريغادير أحمد حق طالب، باشارته إلى احتمال اعادة النظر في “العقيدة والسياسات النووية” الإيرانية، إذا أقدمت إسرائيل على مهاجمة المراكز النووية الإيرانية.
كل هذه المعطيات مجتمعة، لعبت دوراً في تراجع الأطراف عن حافة الهاوية.. لتعود مجدداً إلى “حرب الظلال” ولو إلى حين، إلا إذا قرّر الأميركيون والإيرانيون استئناف مفاوضاتهم غير المباشرة، في دولة ثالثة، سعياً إلى تحقيق مكسب ما يصب في خانة جو بايدن، عشية الإنتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إبراهيم رئيسي.. قناعة راديكالية وبراغماتية حداثية!