عبد اللطيف المكي: قرار الخروج من النهضة كان بديلا عن قرار الإصلاح من الداخل، وبالتالي كان واردا منذ ما بعد مؤتمر 2016، عندما قوبلت إرادة التغيير برفض رئيس الحركة آنذاك (راشد الغنوشي)، وباعتبار الاختلاف داخل النهضة أساسا هو حول سياساتها الوطنية، سواء كانت السياسات العامة، في ما سُمي بالوفاق (مع “نداء تونس”)، أو في مواضيع أخرى مثل فلسفة تشكيل الحكومات والرؤية للقوى السياسية الأخرى، أو في ما يخص السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. ولكن لم يجد جهدنا أي تجاوب رغم النتائج التي كانت تؤكد صواب وجهة نظرنا.
مثلا في موضوع الوفاق، كان من الضروري أن يكون له مضمون اقتصادي واجتماعي وحوكمي، فيما يخص مقاومة الفساد وتركيز الهيئات الدستورية. فتلك الفترة كانت محدِّدة جدا، في علاقة الشعب بالدولة وفي مصير الثورة. كان جيدا أن نشتغل مع حزب فيه مكوّنات متأتية من النظام السابق، وفيه بعض الحساسيات السياسية الأخرى، ولكن ما كان يجب أن يكون ذلك في حد ذاته الغاية الكبرى. الغاية الكبرى حقا هي كيف نعمل معه لترجمة ما ورد في الدستور من حقوق اجتماعية وحوكمة رشيدة ومن تركيز المؤسسات الدستورية. لذا كنا نقول: نحن مع الوفاق، ولكن مع إدارة مختلفة له، أي أن تكون إدارة جماعية، بفريق من النهضة وفريق من النداء، وأن يُبنى ذلك فوق أرضية الثورة ببرنامج اقتصادي واجتماعي. وإلا، فلتغادر النهضة ولتذهب إلى المعارضة. فقد كنا ضد المشاركة الشكلية التي تحمّلنا المسؤولية السياسية دون أن يكون لدينا تأثير في سياسات الدولة. ولو أنه تم في تلك المرحلة الاهتمام بالملف الاقتصادي والاجتماعي وإجراء إصلاحات، لما كان الغضب بهذا الحدّ لدى جماهير الشعب، والتي كان جزء منها حتى وقت قريب يصوّت للحركة.
اختلافنا إذا كان حول السياسات الوطنية، ثم انتقل إلى المؤسسات (أي مؤسسات الحزب)، إذ أردنا إدخال تعديلات عليها عن طريق الانتخاب لصالح الذين يقولون بالخط الاجتماعي للثورة، والذين ينادون بالإصلاحات. ولكن الأستاذ (راشد الغنوشي) تصدّى لكلّ هذا بكل ما أوتي من قوة، وله رؤية في القيادة باسم الزعامة يبرّر بها انفراده بالقرار من وراء ظهر المؤسسات.
بعد 25 يوليو/تموز، والذي نعتبره حدثا أثبت وجهة نظرنا بأن قيادة النهضة – وأفرّق جيدا بينها وبين النهضة التي أعرفها – كانت تسير في الاتجاه الخطأ، طلبنا من الأستاذ راشد إما أن يتخلّى (عن منصبه) ويسمح بقيادة جديدة للنهضة تجدّد سياسة الحركة، وتتحدث مع المعارضة لإخراج البلاد من وضع الانقلاب، و/أو تقديم المؤتمر ليصبح مؤتمرا انتخابيا، يأتي بقيادة جديدة للإصلاح. لكنه رفض هذا وذاك، وأراد أن نبقى مجرد أفراد لا تأثير لهم على السياسات، فيما نحن نتحمل أمام الرأي العام، وعن طريق الإعلام، وأمام إخواننا وأخواتنا المناضلين، مسؤولية سياسات النهضة وخياراتها، في حين أنه ليس لدينا أي تأثير فيها. قرّر راشد الغنوشي الاستمرار في نفس النمط القيادي الذي أعتبره يمثّل نقطة ضعف في مواجهة الانقلاب. ولذلك انسحبنا في وقت وطني وليس في وقت حزبي، يقتضي الجرأة والشجاعة. كان علينا أن نستخلص الدرس، وكان على الفريق الذي ساهم في وصول البلاد إلى تلك الأوضاع (25 يوليو/تموز وما سبقه) أن يتحمل المسؤولية. وأقول “ساهم” لأن البقية كذلك لهم أخطاؤهم. الرئيس له أخطاؤه، فقد كان يوظّف كل شيء لصالح مشروعه، وكذلك بعض الأحزاب مثل الحزب الدستوري الحرّ1 الذي قام بكل ما أوتي من قوة وضمن استراتيجية دقيقة بتشويه البرلمان، الخ. وما كان للرئيس قيس سعيد أن ينجح في انقلابه لولا أخطاء الأحزاب السياسية.
الخلافات.. وزمن الترويكا
-تحدثت عن الخلاف منذ قرار الوفاق مع حزب “نداء تونس”. هل يعني ذلك أنه قبل 2014 لم تكن لديك اختلافات كبيرة مع اختيارات الحركة بما في ذلك في عهد الترويكا2؟ حديثي هنا ليس فقط عن السياسات التي انتُهجت، بل كذلك حول ما اعتُبر تسيّبا وغضا للطرف إزاء حركات متطرفة، والتواطؤ مع الإرهاب، أو التساهل مع مجموعات مثل أنصار الشريعة، وروابط حماية الثورة.. وعدم ردع الخطابات المحرّضة على العنف. وقد تفاقم الوضع ليؤدي إلى اعتصام باردو في 2013 بعد الاغتيالين السياسيين (شكري بلعيد ومحمد البراهمي).
المكي: كانت هناك خلافات محتملة. كنت أستشعر أنه يوجد روافد في النهضة، فهناك رافد اجتماعي ديمقراطي حقيقي، وهو الذي جاء من الحركة الطلابية والنقابية والحقوقية. أما الرافد الثاني، فهو للأسف يؤمن بالمشيخية في العمل السياسي، وقد لا يكون لديه مشاكل مع الخيارات الليبرالية. وعليه اقترحت منذ 2011 أن ننقسم إلى حزبين. قُبلت الفكرة في البداية قبل التراجع عنها. بقينا إذن في حزب واحد مع ظننا أنه باعتماد المؤسسات وإعطائها قيمة كاملة، سنتمكن من الوصول في كل مرة إلى الاختيارات الصحيحة. تمكنا فعلا من ذلك في البداية، خلال فترة الترويكا، عندما كانت الأغلبية لصالح مؤسسات الحزب في الداخل. لكن بعد ذلك، استطاع السيد راشد الغنوشي أن يسيطر في ظل حسن نية وحسن تصرف من القيادة السابقة.
بالنسبة لموضوع أنصار الشريعة التي صُنفت كحركة إرهابية، فهي كانت موجودة من عهد زين العابدين بن علي، والإرهاب ظاهرة إقليمية لا تزال موجودة إلى اليوم. عندما قامت الثورة، كان المئات من هؤلاء الإرهابيين موجودين في السجون. وعندما تسلمت النهضة الحكم في عهد الترويكا، وجدت واقعا جديدا خلقته الحكومة السابقة التي كان يترأسها السيد الباجي قايد السبسي3 رحمه الله، إذ أطلق سراح هؤلاء المئات تحت ضغط قوى حقوقية وقانونية، على أساس أنهم لم يتمتعوا بمحاكمات عادلة، وبالتالي لا يجب استثناؤهم من العفو العام4. وعندما بدأوا يتحرشون بالدولة، أخذت الحكومة الأمر محمل الجد وقامت في إطار احترام القانون والحقوق بتصنيفهم كمنظمة إرهابية، وشرعت في متابعتهم. طبعا، لا يمكن أن تنجح أي حكومة تماما في هذا المجال، حتى في أكبر البلدان الغربية. لكن في تونس، لا نجد فقط الإرهاب، بل كذلك توظيف الإرهاب. الأصل في المجتمعات أن تتضامن أمام الإرهاب وأن تسند الحكومة والأجهزة. لكن في تونس، توجد أحزاب وظّفت الإرهاب لضرب حركة النهضة ولضرب الثورة، فهذا يقول إن الثورة هي التي أتت بالإرهاب، والآخر يتهم النهضة بالتواطؤ معه، دون أن يقدم أحد أي دليل.
99 % من التونسيين يؤمنون بالإسلام السياسي!
-انتقدت المنحى السلطوي وفكرة الزعامة التي كانت موجودة في الحركة والتي دفعت بكم إلى الانسحاب. كيف تفسّر بقاء راشد الغنوشي على رأس الحزب طوال هذه الفترة؟ هل فقط لأن جزءا من الحركة كان (ولا يزال) يسانده، أم هناك أسبابا أخرى حالت دون أي مساءلة لدوره؟
المكي: شخصيا، لست ضد الزعامة في المبدأ، شرط ألا تكون على حساب المؤسسات، وألا تكون قرارا صادرا عن جهة ما يقضي بأن فلان صار زعيما. الزعامة هي مرتبة أدبية تأتي نتيجة كدح وإنجازات واقتناع طبيعي للناس بأن ذلك الشخص متفوق وهو مرجع في الأخلاق السياسية ونكران الذات.
النهضة ليست حزبا عاديا، بل هي حزب نُسج خطوة خطوة طيلة ما لا يقل عن 50 سنة5، وبالتالي اختلطت فيه القناعة الفكرية بالسياسية والتنظيمية والعاطفية. هناك عاطفة كبيرة بين أبناء حركة النهضة وتجاه القيادات، وأحيانا تطغى العاطفة عندما يجب أن يكون الموقف عقلانيا بحتا. هذا ما يجعل في نفس الوقت النهضة متماسكة والمحاسبة لا تكون صارمة، ويكون هناك تسامح. رغم أن طبيعة النهضة تغيرت كثيرا نتيجة النقاشات التي تطورت، واليوم أغلبية الرأي العام النهضاوي مقتنع بضرورة الإصلاح وتجاوز المرحلة السابقة، ولكنهم يختلفون في الطريقة. فمنهم من انسحب، ومنهم من هو على وشك الانسحاب، ومنهم من لا يزال لديه أمل في أن ينعقد المؤتمر ويقع التغيير وتأتي قيادة جديدة بأفكار جديدة وبأسلوب أداء جديد.
-لقد تحدثت عن الرافد الاجتماعي في حركة النهضة وعن آخر أكثر ليبيرالية من الجانب الاقتصادي. هل هذا هو السبب الذي جعل النهضة غير قادرة على تقديم برنامج اقتصادي حقيقي، إذ هي تتوجه إلى جمهورين، أحدهما ينتمي إلى الطبقة الشعبية، والآخر يتكوّن من رجال أعمال؟ أم أن المسألة الاقتصادية لم تكن حقا إحدى أولوياتها؟
المكي: لقد قدمت النهضة برنامجا اقتصاديا واجتماعيا في انتخابات 20116، وكذلك في 2014 و2019. المشكلة هو أن المناخات الوطنية كانت مصرة على الصراع الإيديولوجي وعلى تعطيل أي إنجاز. وهذا الخطأ لم تعطه الحركة الأهمية الكافية بأن تصرّ على أن مشاركتها في الحكم يجب أن تكون مقترنة بإقرار برنامج نشرع في إنجازه. ثم إن تهميش المسألة الاقتصادية والاجتماعية لم يكن فقط شأن النهضة، بل كذلك بالنسبة للنداء، وغياب هذا ترك الناس تضع نقطة استفهام عن الجدوى الاجتماعية والاقتصادية من الديمقراطية.
-زميلك سمير ديلو الذي استقال هو الآخر في سبتمبر/أيلول 2021 من الحزب كان قد تحدّث في إحدى الإذاعات التونسية عن انتهاء الإسلام السياسي في تونس، هل تشاطره الرأي؟
المكي: أنا لا أعترف بتسمية “الإسلام السياسي” ولا “الإسلاموية”. اسمها حركة النهضة. مفهوم “الإسلام السياسي” اختُلق من طرف جهات أجنبية لمهاجمة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. كل ما في الأمر هو أننا نريد أن نقرن مسألة التنمية بالثقافة الوطنية – أو ما يُسمى بالهوية – والحرية. هذا هو الثالوث الذي نناضل من أجله. لا يمكن لهذه الفكرة أن تنتهي، ولكن عليها أن تواكب العصر.
99 بالمائة من التونسيين ينتمون إلى الإسلام السياسي، إن جاز لنا أن نستعمل هذا المفهوم، وهذا ما تم التعبير عنه في توطئة الدستور التي تنص على هوية البلاد العربية الإسلامية والحداثية كذلك، وهذا أصبح ملزما للجميع. يجب أن ننتقل من الصراع الإيديولوجي إلى العمل، وإلى الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، وهو السبب الرئيسي الذي قامت من أجله الثورة، وهذا ليس سببا هينا أو بسيطا.
نؤمن بالمبادرة الخاصة
-هل يعني هذا أن الحزب الذي تشتغلون على إنشائه سيبتعد عن هذا الجانب الإيديولوجي؟ وهل ستحافظون على تجذر واضح المعالم في البعد الاقتصادي؟
المكي: بالتأكيد، سنضع ما يكفي من المفاهيم والأدوات التي تجعلنا نغادر منطقة الصراعات الإيديولوجية. فالإيديولوجيا في تونس كادت تتحول إلى إله يُعبد، في حين أنها أداة فكرية اخترعها الإنسان لكي يستعين بها على تحليل الواقع. الذي بيننا وبين الأحزاب الأخرى هو تنمية هذه البلاد من جميع النواحي. يمكن أن تُناقش الإيديولوجيات بصورة أفقية في الندوات الفكرية والأطروحات والنشريات المختصة. أما شأن الأحزاب كأداة عمل سياسي منظم، فهو تقديم برامج تتلاءم مع رؤى فكرية وسياسية لتُطوّر واقع الناس.
بالنسبة للجانب الاقتصادي، فالبلاد الوحيدة التي لا تزال تؤمن برفض المبادرة الخاصة هي كوريا الشمالية. من جانب آخر، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، معقل الليبيرالية، عندما يفوز الديمقراطيون، فهم يسعون إلى تحقيق بعض المكاسب الاجتماعية، مثلما حدث مع برنامج “أوباما كار” للتغطية الاجتماعية. فالعالم اليوم اقترب من بعضه البعض في فلسفته الاقتصادية، ولكن لكي تستطيع الدولة لعب دور اجتماعي وضمان حقوق المواطنين، لا بد أن يكون هناك رأس مال وطني قادر على إنتاج الثروة بما يشغّل الناس ويوفّر لهم مورد رزق. نحن إذن نؤمن بالمبادرة الخاصة، ولكن كذلك بالدور الاجتماعي للدولة (…).
-هل تعتقد أن الفريق الذي استقال من النهضة والذي أنت جزء منه يجب أن يقوم بنقد ذاتي أمام الملأ حتى يكون حزبكم الجديد قادرا على استقطاب قاعدة سياسية؟
المكي: ليس لدينا مشكلة مع النقد الذاتي، ونعتبره آلية من آليات التطوير. قد تأتي فرصة قريبة مع أحد مراكز الدراسات نقدّم فيها وجهة نظرنا، فتكون شيئا من السردية، وشيئا من النقد الذاتي، وشيئا من رؤيتنا للمستقبل. لكن بشرط أن يقوم الجميع بنفس التمرين وألا ينزعج أي طرف من ممارسة النقد الذاتي، فلقد ساهم الجميع في تقديري في الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم.
(*) يمكن مراجعة النص الكامل على موقع “أوريان 21”