لماذا يسخر ترامب من الدستور الأمريكي؟

فى إطار سعيه المستمر لإنكار هزيمته فى انتخابات 2020 الرئاسية، ومحاولته لقلب نتيجتها حتى بعد مرور عامين على بدء حكم الرئيس جو بايدن، طرح ترامب قبل أيام أكثر السيناريوهات تطرفا وإثارة كمسار يمكن من خلاله أن يصبح رئيسا الآن، فدعا لإلغاء دستور الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى منشور له على منصة Truth دعا ترامب إلى إنهاء دستور الولايات المتحدة الأمريكية، متسائلا «هل تلغى نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وتعلن الفائز الشرعى، أم لديك انتخابات جديدة»؟، ليجيب «أن الاحتيال الهائل من هذا النوع والحجم يسمح بإنهاء جميع القواعد واللوائح والمواد، حتى تلك الموجودة فى الدستور»، وأكد ترامب أن «مؤسسينا العظماء لم يريدوا ولن يتغاضوا عن الانتخابات الكاذبة والمزورة»!
وقال المتحدث باسم البيت الأبيض أندرو بيتس، ردا على كلمات ترامب، «لا يمكنك أن تحب أمريكا فقط عندما تفوز. الدستور الأمريكى وثيقة مقدسة ضمنت لأكثر من 200 عام أن تسود الحرية وسيادة القانون فى بلدنا العظيم. يجمع الدستور الشعب الأمريكى معا ــ بغض النظر عن الحزب ــ ويقسم القادة المنتخبون على دعمه. إنه المرجع النهائى والرمز الأهم لجميع الأمريكيين الذين ضحوا بحياتهم لهزيمة الطغاة الذين يخدمون أنفسهم والذين أساءوا استخدام سلطتهم وداسوا على الحقوق الأساسية».
ولم يتوقع أكثر الجمهوريين دعما لترامب أن يقدم على طلب إلغاء الدستور، إذ للدستور مكانة عند الأمريكيين تختلف عن مكانة الدساتير عند بقية شعوب العالم.

***

ورغم حداثة الدولة الأمريكية، إلا أنها تمتلك أقدم دستور مكتوب فى العالم، والدستور الأمريكى هو أكثر الصادرات الأمريكية شعبية وأقدمها إذ كُتب عام 1787 على يد 55 شخصا يطلق عليهم «الآباء المؤسسون». واقتبست العديد من دول العالم مثل البرازيل وبلجيكا والنرويج واليابان والمكسيك، خبرة كتابة دساتيرها مهتدية بالتجربة الأمريكية.

لم يكن الدستور الأمريكى وثيقة طويلة، ومع ذلك وفر إطار عمل لأكثر أنظمة الحكم تعقيدا. وجاء الدستور الأمريكى مختصرا خاليا من العبارات اللغوية عديمة الجدوى، يحتوى فقط على 7 مواد، تتضمن بدورها 36 فقرة، ويصل مجموع كلماته 3520 كلمة (ما يقرب من خمس صفحات). حتى بعد إضافة 27 تعديلا عليه خلال القرنين الماضيين، وكان آخرها عام 1992، لم يزد عدد كلماته عن 6500 كلمة (عشر صفحات تقريبا).

للديموقراطية الأمريكية أركان عدة، أهمها خضوع القوات المسلحة لسيطرة المدنيين، وتقديس حريات التعبير، ناهيك عن نزاهة الرئيس وابتعاده عن جنى مكاسب مادية أثناء توليه فترة الحكم. إلا أن شواهد عدة تدل على عدم اكتراث ترامب بهذه المبادئ الثلاثة سواء خلال الحملة الانتخابية أو خلال سنوات حكمه الأربع أو ما بعدهما

وكان التوصل إلى إجماع حول بعض بنود الدستور الأمريكى أشبه بالمستحيل فى حالات عديدة، وعلى سبيل المثال رأى بعض المندوبين أن الشعب الأمريكى ليس لديه الدراية الكافية لحكم نفسه أو اختيار حكامه، لذا عارضوا أى نوع من الانتخابات الشعبية! وكلما ناقشوا نقطة جديدة حدثت انقسامات أكبر، إلا أنه تم حل كل الانقسامات عبر التسويات المتوازنة.
وبعد الانتهاء من كتابة الدستور، وبعد انتهاء عملية المصادقة عليه والتى استغرقت عاما كاملا، شعر الأمريكيون أن هناك غيابا لعنصر جوهرى، ألا وهو عدم حماية الدستور للحقوق الفردية. لذا فبمجرد عقد أول اجتماع للكونجرس فى تاريخ الولايات المتحدة عام 1789 بمدينة نيويورك، اتفق المشرعون على إدخال عشرة تعديلات على الدستور عرفت بوثيقة الحقوق «Bill of Rights».

***

ارتكز الدستور الأمريكى على مبادئ وأسس عملية تدعم قيما سامية مثل سيادة الشعب، سيادة القانون، تغليب المصالح العامة. إلا أن مبدأى «الفصل بين السلطات» و«تقديس الحريات الفردية» يمثلان أبدع ما توصل إليه الآباء المؤسسون. مبدأ الفصل بين السلطات بصورته الأمريكية الصارمة هو أفضل النظم الحاكمة حول العالم. وإن أحسن تطبيق هذا المبدأ نكون قد ضمنا حسن سير مصالح الدولة وكذلك ضمان حريات الأفراد ومنع التعسف والاستبداد من أى سلطة. ويمنع الفصل بين السلطات أن تجتمع مختلف السلطات سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى قبضة يد شخص أو هيئة واحدة ولو كانت تلك الهيئة هى الشعب ذاته، أو كانت الهيئة النيابية ذاتها. ويصاحب مبدأ فصل السلطات وضع معايير موضوعية متوازنة للتعاون بين السلطات.

***

وقد وصف السياسى البريطانى وليم جلادستون الدستور الأمريكى بأنه «أروع عمل أنتجه دماغ بشرية»، لذا يضع الأمريكيون دستورهم فى مكانة الكتب السماوية المقدسة، وفى عالم متغير يتحرك بسرعة لا يملك الشعب الأمريكى شيئا أثمن من هذه الوثيقة العظيمة.
وإضافة إلى الفصل بين السلطات، يتضمن الدستور مبادئ أخرى مثل «الحريات الشخصية» و«حقوق المواطنة» مع الالتزام بمنع طغيان الأغلبية، ومواجهة تعسف الأقلية، بما يحقق توازنا مقبولا بين الأغلبية الحاكمة وبقية الشعب.
للديموقراطية الأمريكية أركان عدة، أهمها خضوع القوات المسلحة لسيطرة المدنيين، وتقديس حريات التعبير، ناهيك عن نزاهة الرئيس وابتعاده عن جنى مكاسب مادية أثناء توليه فترة الحكم. إلا أن شواهد عدة تدل على عدم اكتراث ترامب بهذه المبادئ الثلاثة سواء خلال الحملة الانتخابية أو خلال سنوات حكمه الأربع أو ما بعدهما. ومنذ اعتماد الدستور عام 1788 (الأقدم فى العصر الحديث) حرص المؤسسون للنظام الأمريكى على تجنب وجود سيطرة مطلقة ومركزية قد تؤدى لتركز السلطة فى يد شخص واحد أو هيئة واحدة تشجع على نمو الممارسات الاستبدادية. كذلك ضمنت التعديلات الدستورية ألا يتعدى الرئيس أو الكونجرس أو المحاكم على حريات التعبير، وأن يبتعد العسكريون عن الشأن السياسى، وتركه للمدنيين، والمنتخبين. إلا أن ترامب تجاهل كل ذلك، ولم يتجنب هو وعائلته التنازع من أجل مصالحهم الشخصية، من هنا لم يكن من المستحيل أن يأتى يوم يطالب فيه الرئيس السابق بإلغاء الدستور ذاته خدمة لمصالحه الشخصية.

إقرأ على موقع 180  الصين تشقُ دربها نحو "عالم واحد بنظامين".. مع هاريس أم ترامب!

(*) بالتزامن مع “الشروق”

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عاموس هرئيل: نقترب من فقدان السيطرة على حدودنا مع لبنان!