يقول رونين بيرغمان، “إنه بالنسبة لجهاز “الموساد” كان عماد مغنية على رأس سلم الأولويات للاغتيال، ولكن المعلومات الاستخبارية عنه كانت ضعيفة جدا وليس له سوى صورة باهتة كما لم يكن معروفا مكان اقامته او تواجده، وعلى أي حال كان “الموساد” يعتقد ان عمليات التنسيق بين إيران وحزب الله تتم في مقر السفير علي أكبر محتشمي بور في مقر السفارة الإيرانية في دمشق وليس في بيروت. وفي نهاية العام 1983، قدم رئيس “الموساد” ناعوم ادموني “الصفحة الحمراء” الى رئيس الوزراء اسحق شامير لتوقيعها ربطاً بسلسلة من التفجيرات الانتحارية والهجمات “الإرهابية” ضد السفارة الأمريكية ومقر المارينز في بيروت. وكان الاسم الوارد في “الصفحة الحمراء” هو علي أكبر محتشمي بور سفير إيران في سوريا، أي يحمل بصورة رسمية الصفة الدبلوماسية. لم يكن هذا الامر يحصل الا بصورة نادرة ولم يوقع شامير “الصفحة” الا بعد تردد ومن ثم نقاش مطول لان “إسرائيل” كانت تتجنب استهداف مسؤولين في دولة ذات سيادة بمعزل عن مدى خطورة هؤلاء المسؤولين على الامة اليهودية، ولكن كان لا بد من فعل شيء ما لإيقاف حزب الله، لا بد لشخص مهم ان يموت. لذلك وقع شامير الصفحة الحمراء”.
بالانتقال الى التنفيذ، يقول بيرغمان، “اول مشكلة واجهت “الموساد” هي كيفية الوصول الى محتشمي بور. كان الرجل يمضي وقته إما في طهران او في دمشق وكلتاهما عاصمتان لا تعمل وحدة “الحربة” للاغتيالات فيهما، كما أن وحدة “قيساريا” لا يفترض فيها ان تنفذ اي عملية قتل متعمد الا في حالات إستثنائية جدا. وكانت كلتا العاصمتين تعتبران مناطق صعبة للغاية مكتظتين برجال الشرطة الذين يراقبون أي امر يشتبه به، بالإضافة إلى ذلك، كان السفير الإيراني يصطحب باستمرار حارسه الشخصي المزود بسلاح مع سائق. لكل ذلك استبعدت كل الاقتراحات التي تضمنت الاقتراب من محتشمي بور في الأماكن التي يتردد عليها – إطلاق النار عليه او زرع قنبلة او تسميمه لانه في كل هذه الحالات سيكون هناك خطر إلقاء القبض على العملاء المنفذين. لم يبق سوى ارسال رزمة مفخخة عبر البريد، ولكن عندما تم تقديم هذا الاقتراح وُوجِه على الفور بالاعتراض لانه لـ”إسرائيل” تجارب عديدة مع هذا النوع من العمليات، (نجحت مرتين فقط: تصفية رئيس الاستخبارات العسكرية المصرية في قطاع غزة وزميله الملحق العسكري المصري في العاصمة الأردنية عمان عام 1956 ولكنها فشلت في مرات أخرى مثل محاولة قتل العلماء الالمان في مصر ومجرمي الحرب النازيين في دمشق ونشطاء منظمة التحرير الفلسطينية في انحاء مختلفة من العالم) فقد كانت الرزم المفخخة المرسلة بريديا اما تكتشف قبل ان تنفجر او انها كانت تنفجر بالشخص غير المستهدف او انها لم تتسبب بالقتل بل فقط ببعض الجروح للهدف”.
وينقل بيرغمان عن أحد المخضرمين في وحدة “قيساريا” قوله “لقد اخبرتهم انها كانت فكرة غبية او طفولية الى حد ما”. ولكن كل الاعتراضات رفضت وبات خيار الرزمة البريدية المفخخة هو الذي سيعتمد لأنه لا يعرض أي عميل لخطر غير ضروري.
في 14 فبراير/ شباط عام 1984، يضيف بيرغمان، “وصلت رزمة كبيرة الى مقر السفارة الإيرانية في دمشق ظاهرها يشير الى انها مرسلة من دار نشر معروفة جدا في لندن يملكها إيرانيون، وقد رأى موظف الاستقبال ان الرزمة موسومة بعبارة “شخصي لسعادة السفير”، فنقلها مباشرة الى مكتب محتشمي بور في الطابق الثاني. قامت سكرتيرة السفير بفض الرزمة فوجدت فيها صندوق من الكرتون يحوي مجلدا رائعا باللغة الإنكليزية عن الأماكن المقدسة عند الشيعة في كل من إيران والعراق فألقت نظرة خاطفة على الرزمة ثم نقلتها الى غرفة السفير. فتح محتشمي بور المجلد فوقع الانفجار مقتلعاً إحدى عينيه ويده ومعظم أصابع يده الثانية، وقد أخبر محتشمي بور لاحقاً مراسل التلفزيون الإيراني “لو اني فتحت الكتاب هكذا لكن طار رأسي عن جسدي ولكني وضعت الكتاب على الطاولة وفتحته هكذا (مُظهراً كيف كان الكتاب المتخيل بعيداً عن وجهه وجسده) فترك الانفجار فجوة في الحائط وفيها يدي ملتصقة بالحائط ولو كُنتُ فتحت الكتاب وهو قريب من وجهي لكان رأسي قد قطع عن رقبتي. وقد ترك الانفجار بضعة شظايا في باقي انحاء جسدي”.
بيرغمان: بين العامين 1984 و1991 نُفِذت 3425 عملية ضد الجيش “الاسرائيلي” وميليشيا “جيش لبنان الجنوبي”، وادت كلها الى مقتل 98 جنديا “اسرائيليا” و134 من الميليشيا العميلة له كما ادت الى جرح 447 جنديا “اسرائيليا” و341 من العملاء، وفقد جنديان اكتشف لاحقا انهما قتلا
هنا ينقل بيرغمان عن المخضرم في وحدة “قيساريا” الذي كان اعترض على هذا الأسلوب في محاولة قتل محتشمي بور قوله “ان الهدف من أي عملية معالجة سلبية هو قتل الهدف، فليس هناك شيء اسمه نصف ميت، طالما انه بقي حياً فان ذلك يعني اننا أخفقنا”. لم تعلن “إسرائيل” مسؤوليتها، ولكن الإيرانيين لم يكن لديهم أي شك بان “الموساد” كان وراء العملية. والاسوأ ان محتشمي بور أصبح الان رمزاً لقضية ثورية وناجٍ حي للحرب المقدسة التي كان الخميني يخوضها وكتب الأخير رسالة له يقول “اني اشعر بالاسى لما تسببت لك به الامبريالية، أتمنى لك ان تستعيد عافيتك وان تعود لمتابعة نضالك الدؤوب في جبهة الدفاع عن الإسلام والثورة نيابة عن كل المستضعفين في العالم”.
يتابع بيرغمان، “ان التسبب بإعاقة محتشمي بور لم يكن له أي تأثير على الاطلاق على عمليات حزب الله، وحتى لو تم قتله لم يكن ذلك ليترك أي تأثير. لان محاولة اغتياله أتت متأخرة كثيرا فجيش الرعاع الذي شكله محتشمي بور من الفقراء الشيعة قبل أكثر من عقد من الزمن كان قد أصبح تنظيما هائلا ولم يعد حزب الله قوة حرب عصابات بقيادة رجل واحد، بل أصبح الان حركة كبيرة للغاية. فالاستثمار الكبير الذي أطلقه محتشمي بور في لبنان أصبح ناهضاً ويسير بزخم بعد ان ضم في صفوفه الالاف من الشباب الشيعة بالإضافة الى معظم رجال الدين الشيعة المُهمين وباتت “إسرائيل” الآن بمواجهة خصمين أقوياء هما منظمة تابعة لإيران وحركة اجتماعية شعبية شرعية”.
وكان رجال الدين الأعضاء في حزب الله، يقول بيرغمان، “بمعظمهم يعملون ويقيمون في القرى الشيعية في جنوب لبنان، وكانوا يعرفون جيداً كيف يمزجون بين الانتماء الديني الرسالي المتعصب وبين الوطنية اللبنانية والتي تركزت على تقوية الشيعة وعلى كراهية المحتل الصهيوني، وكان من ابرز القادة الدينيين المحليين خلال تأسيس هذه الحركة الشيخ راغب حرب امام بلدة جبشيت في جنوب لبنان الذي كان رجلاً ذكياً وصاحب نظرة ثاقبة وكان قد تلقى تعاليمه في مدينة النجف الاشرف في العراق، حيث امضى الخميني معظم سنوات نفيه من ايران، وعند عودته تولى حرب مسؤولية الدعاية والإرشاد في جنوب لبنان. لم يكن حرب رجل قتال، بل كان مُعمّماً، ولكن قصصه كانت تصل الى مائير داغان (رئيس “الموساد”) الذي قال في معرض طلبه الاذن بقتله “إن راغب حرب أصبح سلطة دينية مهمة جداً في الجنوب وهو يحرض على تنفيذ هجمات ضد إسرائيل والإسرائيليين”، ومع العلم ان حرب نفسه لم يشارك في أي عمل “إرهابي” ضد “إسرائيل” لكنه كان باستمرار يحض على ذلك، وفي تلك السنوات كانت “إسرائيل” الغارقة في حربها مع حزب الله تشعر بالعقم، لذلك فان أي عمل او فكرة كان مرحباً بهما. أرسل داغان عميلين لبنانيين كان قد استخدمهما في عمليات سابقة تحت اسم “جبهة تحرير لبنان من الغرباء” التي كان قد انشأها. وفي ليل الجمعة في 16 فبراير/ شباط بعد يومين من تفجير العبوة في السفارة الإيرانية في دمشق لقتل محتشمي بور كان حرب في طريقه الى منزله في جبشيت، وكان العميلان اللبنانيان بانتظاره عند أحد المنعطفات على الطريق وما ان أبطأ حرب في المنعطف حتى امطرت سيارته بالرصاص لدرجة التأكد من وفاة هذا القائد الشاب”.
ويضيف بيرغمان “على الفور، أعلن حرب شهيداً واقام زملاؤه في مدينة قم الإيرانية الصلاة لروحه وارسل اية الله العظمى حسين منتظري احد كبار رجال الدين الإيرانيين رسالة تعزية الى زملائه الشيعة في لبنان يشيد فيها بإنجازات حرب. وفي مناسبة مرور مائة يوم على استشهاده، أصدرت ايران طابعا بريديا تحية له وباتت صورته تعلو صور كل الشهداء الذين باتت اعدادهم تتزايد بمرور السنين وتحولت عبارته الشهيرة التي ترفض أي شكل من اشكال التواصل مع “الإسرائيليين” والتي كان اطلقها في احد خطبه “الموقف سلاح والمصافحة اعتراف” شعاراً أساسياً لحزب الله.
في غضون ذلك، استهدف داغان أيضا محمد سعد، أحد أقرب مساعدي حرب وشخصية شيعية بارزة في جنوب لبنان (محمد سعد ليس أحد مساعدي راغب حرب بل من كوادر حركة امل في جنوب لبنان). وكان محمد سعد ناشطاً في الاعمال القتالية ضد إسرائيل وقام بتكديس كميات كبيرة من المتفجرات والأسلحة في حسينية بلدته معركة (“إسرائيل” عمّمت هذه الاشاعة لتبرير المجزرة التي ارتكبتها عند تفجيرها مبنى الحسينية بهدف قتل سعد). في الرابع من مارس/ اذار عام 1985 قام عملاء داغان بتفجير مخزن الأسلحة التابع لسعد (أي مبنى الحسينية) فقتل سعد مع احد رجاله الى جانب ثلاثة عشر مدنياً اخرين”.
يتابع بيرغمان، “ان محاولات اغتيال محتشمي بور وقتل كل من الشيخ حرب ومحمد سعد قد اظهرت الصعوبات التي تواجهها إسرائيل في مواجهة حزب الله، ففي العادة كان “الموساد” يتولى عمليات القتل المتعمد لتكون حاملة بصمته “الأزرق والأبيض” (الوان العلم “الإسرائيلي”) وعبر عملائه المباشرين ولكنه استخدم عملاء محليين لاغتيال حرب وسعد وقد اضطر “الموساد” للجوء الى العبوة المرسلة بالبريد لمحاولة تصفية محتشمي بور وعلى أي حال لم يكن أي من الثلاثة المستهدفين قادة أساسيين في حزب الله وأيضا لم تكن قد توفرت لـ”الموساد” أي معلومات عن عماد مغنية الموضوع على رأس قائمة الأهداف. ولم تنجح أيضا محاولة التخلص من “المرشد الروحي” لحزب الله بعد ثلاثة أيام من تفجير الحسينية في بلدة معركة. ففي الثامن من مارس/ اذار عام 1985 انفجرت سيارة مفخخة قرب منزل الشيخ (محمد حسين) فضل الله في (بئر العبد) في بيروت. لم يصب فضل الله، ولكن قتل في الانفجار ثمانين شخصا وجرح مئتان اخرون كانوا بمعظمهم من المصلين في الجامع الذي اعتاد فضل الله الصلاة فيه (مسجد الرضا)، ومن بين القتلى كان بعض حراس فضل الله ومن ضمنهم جهاد شقيق عماد مغنية”.
في العام 1986، “اكتشفت الاستخبارات “الاسرائيلية” ان احمد جبريل زعيم التنظيم “الارهابي” الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة كان يعمل مع حزب الله ويساعده، وعلى قاعدة هذه المعلومة بالاضافة الى الرغبة القديمة بتصفية جبريل وقع (رئيس الوزراء اسحاق) شامير “الصفحة الحمراء” لقتله، وقد تطلب جمع المعلومات الاستخبارية عنه مدة طويلة من الزمن وتبين من هذه المعلومات ان جبريل يقوم من وقت لاخر بزيارة مقر قيادة تنظيمه في سلسلة من الكهوف القديمة في تلال منطقة الناعمة (جنوبي بيروت) على شاطىء البحر الابيض المتوسط شمال الحدود مع لبنان (تبعد حوالي اكثر من 110 كيلومترات عن الحدود اللبنانية ـ “الإسرائيلية”).
في ليل الثامن من ديسمبر/ كانون الاول عام 1988 شن الجيش “الاسرائيلي” عملية كوماندوس بحرية واسعة النطاق بهدف قتل جبريل وتدمير الكهوف. أسميت هذه العملية، كما يقول بيرغمان، “الازرق والبني” وقد شكلت تخبطاً محرجاً، “فالمعلومات الاستخبارية عن الهدف كانت غير كاملة بشكل خطير، وواجه الجنود عراقيل طبيعية غير متوقعة والمواقع المطلة التي ما كانوا يعرفون عنها شيئاً فكشفتهم وحرمتهم من عنصر المفاجأة في هجومهم، فقتل احد قادة وحدة الاغتيال وهو برتبة مقدم فيما ضلّ اربعة جنود طريقهم وكان لا بد من عملية جوية لاخراجهم من مواقعهم، بالاضافة إلى ذلك، خاف كلب مدرب ومحمل بمتفجرات كان ينبغي تفجيرها عن بعد عندما يدخل الكهف، فهرب من دون ان يدخل ليجده لاحقا عناصر الموقع وتُكتشف من خلاله وحدة الكلاب المسماة “العقصة”، وكان الامر الاكثر احراجا هو ان أحمد جبريل لم يكن هناك في تلك الليلة”.
يتابع بيرغمان، “في اواخر الثمانينيات الماضية، بات حزب الله يمتلك استخبارات اقوى وافضل تشكل عاملا قويا في شن حرب العصابات التي يقودها، وكان احد اسباب غياب الاستخبارات الفاعلة لدى الجانب “الاسرائيلي” هو ان حزب الله قدم قضية للجمهور الشيعي المسحوق والمحاصر، وبات كل هجوم يتعرض له يقرّب انصاره منه اكثر ويقوي بنظر هذا الجمهور التمييز بين الجانب الصالح والجانب الشرير، وهذا بدوره صعّب الى حد كبير على الجانب “الاسرائيلي” امكانية تجنيد عملاء، فالشيعة الراغبون بالعمل من اجل المال (التعامل مع “اسرائيل”) تضاءل عددهم والاهم ان لا احد بات يريد ان يخون حزب الله. استفاد عماد مغنية من ميزة التفوق الاستخباري لديه الى حد مدمر للجانب “الاسرائيلي”، وبدعم من الحرس الثوري الايراني ووزارة الاستخبارات الايرانية فعل مغنية وطور تكتيكاته الميدانية فنظم العمليات الانتحارية والعبوات الناسفة على الطرقات في مناطق شاسعة يرتادها الجيش “الاسرائيلي” بصورة شكلت تخريبا كبيرا للجيش. وكان ثمن امتلاك صفر معلومات عن الميليشيا الشيعية يدفع بدماء الجنود “الاسرائيليين”، فبين العامين 1984 و1991 نُفِذت 3425 عملية ضد الجيش “الاسرائيلي” والميليشيا العميلة له التي كان اسسها تحت اسم “جيش لبنان الجنوبي”، معظم هذه العمليات نفذها التنظيم الشيعي وأدت كلها الى مقتل 98 جنديا “اسرائيليا” و134 من الميليشيا العميلة له كما ادت الى جرح 447 جنديا “اسرائيليا” و341 من العملاء، وفقد جنديان اكتشف لاحقا انهما قتلا”.
يختم بيرغمان بالقول إن الوضع “الاسرائيلي” الضعيف واحباط عملاء الاستخبارات الاسرائيلية، جعلا “إسرائيل” تبحث عما اسمته “كسر التوازن” و”هو يرمز الى هجوم يزلزل حزب الله حتى اعماق تنظيمه ويعيد “اسرائيل” الى موقعها المتفوق”.