يضع صاحب المطعم طبق الطعام وكوب العصير المنزلي الصنع على طاولتي ويعاجلني بسؤال حَولَ جنسيتي؛ لبرهة أستعيد شِعرَ محمود درويش وأكاد أخبره أن “كل قلوب الناس جنسيتي” لكني أتماسك قليلاً، “لبناني أنا، سيدي.”
يبتسم ويسألني وماذا يفعل لبناني هنا وسط جائحة كورونا حيث تشهد سلوفاكيا إجراءات قاسية لتفادي انتشار الجائحة. لم يكن بدٌ من اخباره أنى صحفي، فلم يوفر وقتاً ليسألني عما يحدث في أوكرانيا. بدا قلقاً جداً، فالغاز الروسي الذي يصل إلى سلوفاكيا يمر عبر أوكرانيا وهو أصلاً قلق من عودة زمن الحرب الباردة. “قبل أيام، زارنا بعض الأوكرانيين، يقولون هناك نوع من المبالغة، (فلاديمير) بوتين يريد ابتزاز الغرب، أليس كذلك”؟
لم ينتظر صاحب المطعم إجابتي، وبدأ بالشرح كيف كان في العشرين من عمره عندما قرّر شعب بلاده الخروج بسلام من وحدة مفروضة مع تشيكيا، “كنا نحلم بالحرية والديموقراطية، لكننا كنا غير محظوظين بحكوماتنا التي نخرها الفساد، مع ذلك الوضع أفضل من الزمن السابق، على الأقل نستطيع أن نرى العالم”.
بدا فيكتور مسكوناً بالأزمة ومآلاتها، إلى جانب كورونا التي حوّلت مملكته المؤلفة من مطعمين و٢٤ موظفاً إلى مطعم قديم وخمسة موظفين من بينهم هو وزوجته وابنه.
يسألني بلا إهتمام عما أقوم به في فيينا؛ أشرح له قليلاً، لكن أفشل في إثارة اهتمامه، برغم أن التطورات الأخيرة تستحق الإهتمام!
ليست براتيسلافا منتصف الطريق بين فيينا وكييف حيث تتحرك قضيتان عالميتان، لكنها ترزح تحت الأزمات وكأنها تدفع ثمن كونها غربية الانحياز برغم تجذرها في الشرق. وبرغم أن الجغرافيا تجعلها أقرب إلى فيينا حيث يتفاوض العالم مع إيران على برنامجها النووي، إلا أن أصداء الصراخ بين أوكرانيا وروسيا تكاد تُرى في الوجوه هنا. ربما هو الماضي الذي يُلاحق هذه البلاد التي كانت يوماً ميداناً للصراع في زمن الحربين العالميتين، ومسرحاً لاجتياح سوفياتي خلال الحرب الباردة وها هي تترقب من على التل البعيد انقشاع الغبرة عن صراع الجبابرة بين أميركا والغرب من جهة وبين روسيا التي تقول إنها تريد ضمانات امنية تمنع حلف شمالي الأطلسي من حدودها، من جهة أخرى.
مصدر غربي مطلع على سير المحادثات فضّل عدم الكشف عن اسمه، أشار إلى أن ما جرى تحقيقه يجعل من إمكانية التوصل لتسوية لإحياء الاتفاق النووي أمراً مُرجحاً بنسبة 60 بالمائة، وهو ترجيح يوافق عليه مصدر إيراني برغم أنه لم يستبعد أن تنهار المحادثات في حال عدم الموافقة الأميركية على المطالب الإيرانية الأخيرة
في الطريق بين براتيسلافا وفيينا سهول شاسعة، مساحات مفتوحة، وقطار يمضي بلا هوادة. قبل ثلاثة عقود ونيّف، كان الستار الحديدي يفصل بين المدينتين، هناك كانت الحدود بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولا تزال بقاياها حاضرة على الأرض وفي الأنفس بانتظار الإعلان عن منتصر، أو على الأقل صاحب الكلمة الأخيرة في أول مواجهة حقيقية بين روسيا وريثة المعسكر الشرقي، وبين أميركا زعيمة “نهاية التاريخ” و”الرجل الأوحد” و”امبراطورية فرانسيس فوكوياما”.
يتهادى القطار في ليل أدهم نحو محطة فيينا المركزية. أضواء قصر كوبرغ ما تزال مضاءة، هنا خريطة أخرى وتنازع قوى يضع روسيا وأميركا والصين إلى جانب بريطانيا وفرنسا وألمانيا على جانب واحد. هي دول تملك معاً 12672 رأساً نووياً على أقل تقدير، وتُفاوض إيران للحصول على ضمانة بأن يبقى برنامجها النووي سلمياً. وقصر كوبرغ حيث تجري المفاوضات مليء بما يمكن أن يحكى عنه، لكن الأضواء المشتعلة وسط الليل تشي بلقاءات تتحاشى ضوء النهار. ربما لأن العيون التي ترصد الحركة في ساحة ثيودور هرتسل المقابلة للفندق قد تكون تعبت من فرط الانتظار.
لكن الأطراف المشاركة في مفاوضات فيينا تبدو سعيدة بالتقدم الذي تحرزه يوماً بعد يوم، غير أن منسوب التفاؤل الذي تبثه يدفع من مرّوا سابقاً من هنا إلى طرح الأسئلة حول المبالغة في التفاؤل ولما لم يصلوا بعد إلى التسوية طالما أن الأمور جيدة.
هناك رأي يقول إن فرط التفاؤل مرده إلى رغبة الجميع بالظهور في موقع غير المعرقل. هو تأسيس لمرحلة تقاذف الاتهامات في حال الفشل.
لكن مصدراً غربياً مطلعاً على سير المحادثات فضّل عدم الكشف عن اسمه، أشار في حديث إلى “جاده إيران” إلى أن ما جرى تحقيقه يجعل من إمكانية التوصل لتسوية لإحياء الاتفاق النووي أمراً مُرجحاً بنسبة 60 بالمائة، وهو ترجيح يوافق عليه مصدر إيراني برغم أنه لم يستبعد أن تنهار المحادثات في حال عدم الموافقة الأميركية على المطالب الإيرانية الأخيرة. لكن هل هذا ما يؤخر الإتفاق؟
ربما هذا هو السؤال الأكثر تداولاً في هذه الأيام، لا سيما وأن هناك من يعتقد أن أحداث شرق أوروبا تحمل رياحها إلى فيينا بشكل يجعل من طهران تستفيد من الممانعة الروسية للغرب وترفع سقف طلباتها. فهنا وهناك، “المعركة بالدرجة الأولى ترتبط بانعدام الثقة في أميركا”، على حد تعبير المصدر الإيراني.
بعيداً عن التحليل والاعتقاد والأحكام المسبقة، تشير المعلومات إلى أن قضية الضمانات لا تزال عالقة بشكل كبير، وأن الأميركيين أخبروا الإيرانيين بشكل واضح أنهم لن يكونوا قادرين على تقديم أي نوع من التطمينات ـ بعيداً عن الضمانات ـ بأن أي إدارة أميركية من بعد الرئيس جو بايدن ستلتزم بالاتفاق النووي. كرّر الأميركيون هذا الكلام وأرسلوه مع الوسطاء وشدّدوا عليه عبر المبعوثين، وهو ما دفع الإيرانيين للسؤال عن ثمن ذلك. لكل تنازل ثمن، وثمن غياب الضمانات يجب أن يكون ضمانة من نوع آخر.
في المقابل، وضع الأميركيون شرطاً مفاده أن على إيران اتلاف أجهزة الطرد المركزية المتطورة، وهو ما لم تتجاوب معه طهران على الإطلاق. لاحقاً سلّمت أميركا بإمكانية عدم التلف مقابل إرسال الأجهزة إلى خارج البلاد، واقترحت أن تكون روسيا مكاناً للتخزين. يقول المصدر الغربي إن أميركا اقترحت أن يكون تعويض عدم تحقيق المطالب الإيرانية، تسديد بعض الدول التي تدين بأموال لإيران ما عليها بشكل متزامن. لكن المصدر الإيراني أوضح أن طهران تريد قبل كل شيء ضماناتها، وإن كانت واشنطن تعجز عن تقديم ضمانات في العاصمة الأميركية على المستوى السياسي، فلتكن الضمانة الإيرانية حاضرة داخل الحدود الإيرانية، بحيث يمكن لطهران أن تستعيد نشاطها النووي بشكل كامل لحظة تراجع الأطراف الأخرى عن تعهداتها. القصد هنا، أن تحتفظ إيران بالأجهزة المتطورة داخل حدودها، وليكن في مستودعات تشرف عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
تفاوض إيران للحصول على ضمانة بأن يبقى برنامجها النووي سلمياً. وقصر كوبرغ حيث تجري المفاوضات مليء بما يمكن أن يحكى عنه، لكن الأضواء المشتعلة وسط الليل تشي بلقاءات تتحاشى ضوء النهار
ولأن الضمانات قضية مصيرية، وهي مطلب من رأس النظام في إيران قبل أي طرف آخر، حاول وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان تفكيكها بين اقتصادي وسياسي وحقوقي، ولعل لهذا أسبابه داخلية قبل أن تكون خارجية. فأي اتفاق جديد ولو كان عنوانه تفعيل الإتفاق النووي السابق، يتطلب تسويقاً في الداخل الإيراني يتضمن ما جرى تحقيقه وكيف جرى التفاوض بشكل مختلف والمآلات المتوقعة، لأن الداخل سيكون متوثباً كعادته للمقارنة بين مردود ما عاد به فريق إبراهيم رئيسي بقيادة علي باقري كني، وبين ما كان أحرزه فريق حسن روحاني عام 2015 بقيادة محمد جواد ظريف.
بين اصطفافي كييف وفيينا، صورة انتقالية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة؛ إصرار أميركي على استعراض قوة شرطي العالم الأوحد ومتمردون يرفضون الأمر الواقع، برغم عدم اتفاقهم على اليوم الذي سيلي وكيف سيبدو وشرائطه ومحدّداته، لكنهم يصرخون من غير مكان، في المدينة أكثر من شرطي واحد.
أمام مشهد الازمة الأوكرانية تستذكر إيران تاريخها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، لذا، حسمت خيارها من قبل بأنها مهما خسرت بسبب تمردها فلن ترغب في أن تكون مثل كييف كعكة تتصارع عليها المحاور، بل صاحبة كرسي حول طاولة تكون فيها بمثابة واشنطن أو موسكو في مجال تأثيرها!
لا يتوقف صوت الموسيقى التقليدية السلوفاكية في المطعم، تتراءى خيالات أكثر من مايسترو على إمتداد خطوط الإشتباك يديرون لعبة الكراسي الموسيقية في انتظار ضمانات من الجميع للجميع، أو فليكن مشهداً يعود بالعالم إلى التكتلات والمحاور حيث يكون البقاء لمن لا يستسلم.