يوميات أمّ لبنانية.. مع “بطيخاتها”!

كانت المرة الأولى التي أذهب فيها هذه السنة إلى مدرسة أطفالي، وقد أخذت إجازة من عملي، وسابقت عقارب الساعة لأصل في الموعد المحدد، ولحسن الحظ.. وصلت باكراً.

قررت أن أنتظر في ملعب المدرسة. هناك وجدت سيدة تراقب أطفالها يلعبون مع رفاقهم. جلست قريبة منها، لتبادر وتسألني أنت أمُّ من هؤلاء الأطفال؟ سرعان ما اكتشفنا أننا نتواصل هاتفياً عند تكاسل أطفالنا عن كتابة واجباتهم أو تحايلهم علينا بخدع مختلفة للتهرّب من إلتزامات المدرسة، فكانت هي وبعض الأمهات جزءاً من شبكة فضح مؤمرات أطفالنا علينا، ولكننا لم نلتقِ أبداً قبل هذا النهار.

نظرت إليها وتعابير الحنو والضعف تغمر مُحياها والحزن يغور عميقاً في عينيها إلاّ أنّني وجدت بسمة ترسم ثغرها ولا تفارق تجاعيد خديّها وتفضح ما تفيض به من طيبة ونقاء. سيدة لم تتجاوز الأربعين من عمرها. لديها أربعة أطفال. درست حتى الثانوية العامة وبعدها تزوجت وخلال رحلة أمومتها استطاعت كسب بعض الدورات التدريبية في علم المحاسبة، ما خوّلها العمل في بعض المؤسسات. قالت لي:”كنت أُكِّدّ طوال شهور ثلاثة، وأكرّس وقتي وطاقتي لإثبات مهاراتي وسرعان ما يعتذرون بعد انتهاء فترة التجربة، وهكذا دواليك، كنت عرضة لاستغلال العديد من المؤسسات، حتّى استسلمت. أخبرت زوجي: سأكون أمّاً فقط، أنظف بيتي وأحضّر طعام أطفالي، وبعد الظهر أتولّى تدريسهم، هكذا كل يوم، دورة حياة لا ترحم، برنامج يومي ثقيل ولكنّه بلا وزن. أنا أعرف أهمية ما أفعل لكنه مرهق. صدقيني، لا أعرف كيف أعبّر..”.

حكت رويدا (اسم مستعار) كثيراً. استرسلت، وأنا لم أسألها. كنت أصغي بإنصات، ولا أريدُها أن تتوقف. لكأنها شعرت بحاجتها إلى تفريغ مكنوناتها، وأمامي راحت تتوالى صور البحث عن ذاتي مثل الراقص الصوفي الذي يدور حول نفسه. صورة واحدة علقت أمام عينيَّ، لم أعد أسمع ما تقول رويدا، تجمدّت ذاكرتي وأعادتني إلى كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية. أطرق الباب وبطني تسبقني، انفاسي متقطِّعة، صعدت الدرج إلى الطابق الثامن، وانا حامل في أشهري الأخيرة، أستاذي يشرح على اللوح، أقدِّم اعتذاري مبرّرة تأخُّري، “كنت أوصل إبني إلى الحضانة يا دكتور، لكنه تشبّث بي وأبى أن يتركني، فقررت أن أبقى معه قليلاً ريثما يهدأ”، وسرعان ما أسمع جواب أستاذي يخترق مسامعي المتأهبة، “انا آسف انتظري خارج الصف، مش مجبورة تحملي مية بطيخة”. نعم، راحت تتوالى الصور والبطيخات التي أحملها وأنا مُصمّمة بكل عزمي ألاّ أكسر أيّاً منها.

أعادني صمت رويدا وهي تحاول أن تختار كلماتها بعناية. تنتقي المفردات حتى لا أسيء فهمها. هي زوجة لدركي. انقلبت حياتهما رأساً على عقب خلال السنتين الأخيرتين. غرقوا في الديون وأصبحوا عُرضةً لتحنّن أوادم العائلة، بعض الزيت أو المساعدات.. تقول :”اضطررت للتخلّي عن باص المدرسة، وصرت مجبورة على إصطحاب أطفالي صباحاً وارجاعهم ظهراً سيراً على الأقدام، لذلك قررت انتظار ساعة حتى موعد إجتماعنا”.

منبّه داخلي يوقظني كل يوم، في الوقت نفسه. الساعة نفسها. الدقيقة نفسها. أقفز من سريري مباشرة إلى المطبخ. في البداية، أحضّر كوب القهوة ومعه أُعِدُّ السندويشات لأطفالي وزوجي. أضع طعام الغداء على النار وبينما أنتظر أحضّرُ دروسي للعمل أو أقرأ محاضرات الجامعة، هو الوقت الوحيد لأشعر بلذة الصمت، وبعد ساعة أو أكثر، أسمع السؤال السرمديّ، “ماما اليوم عطلة”؟ “لا مش عطلة”

بعد قليل توالت وفود الأهالي. أمهات بكامل زينتهن. أمهات بثياب العمل. عدد يُحصى من الآباء الذين استطاعوا ترك أعمالهم.

نهضت رويدا وأمسكت يد ابنها الأوسط، قالت لي “أنا أعرف ماذا سيقولون لي، المعلمة قد تنسى وجهه. صاروا خمسة وثلاثين طفلاً في الصف، هو لا يسمع الكلام ولا يلتزم بالنظام، أصبحت تربية الأطفال مهمة شاقة، لا أعرف كيف أتصرّف معهم”.

شعرت أنّي لست الوحيدة. القلق الذي يعتريني حول مستقبل أطفالي هو قلقٌ مشتركٌ. أفقٌ قاتمٌ. لوم ٌمستمرٌ. شعور بالتقصير والعجز.

منبّه داخلي يوقظني كل يوم، في الوقت نفسه. الساعة نفسها. الدقيقة نفسها. أقفز من سريري مباشرة إلى المطبخ. في البداية، أحضّر كوب القهوة ومعه أُعِدُّ السندويشات لأطفالي وزوجي. أضع طعام الغداء على النار وبينما أنتظر أحضّرُ دروسي للعمل أو أقرأ محاضرات الجامعة، هو الوقت الوحيد لأشعر بلذة الصمت، وبعد ساعة أو أكثر، أسمع السؤال السرمديّ، “ماما اليوم عطلة”؟ “لا مش عطلة”. هذا هو جواابي السرمدي أيضاً.

أغسل الوجوه. أغسل اليدين. أحضّر الحليب. نرتدي الملابس. وأغلب الأحيان أحاصَرُ من قبل ابنتي التي لم تتجاوز السادسة من عمرها. لديها ذوقها الخاص. مُحترِفةٌ في كسر القيود. كلَّ يوم لدينا معركة. تستغل كل دقيقة لجعلنا متأخرين وأشعر أنها تسحب الصبر من قلبي، كخيطٍ يَكِّرُ سترة النجاة. آخذُ نفساً عميقاً وهي لا زالت تجادلني، ماما لا أريد أن ألبس ثياب المدرسة، لا أريد أن أفعل شعري هكذا، لا ولا ولا ولا.. لم اشرب فنجان قهوتي. إنّه بارد.

إقرأ على موقع 180  "الأزمات الدولية": تحذير من إنهيار العراق إقتصادياً وغموض في سوريا

وصل الطلاب إلى الصف نصف نائمين، وانا أشرب كوب ماء مع حبة فيتامين (C)، هي الحل الوحيد لحصولي على الطاقة. حلّ عندي موعد الظهيرة. أربع ساعات انقضت منذ استيقاظي. حصة تلو حصة. إنها الثانية؛ يرنّ هاتفي. حان موعد خروج أطفالي من المدرسة. أشغّل الراديو لأخفّف من توتري، خصوصاً بعد توقف اشارات السير في بيروت. أحرّك المقود وأنا أتكلم بصوت عال، انتبه يا مجنون، واستمري يا مايا، هكذا أشعر اني في مدينة ألعاب، لا يمكن أن أسير في خطٍ مستقيم في دروب العاصمة.

في احدى المرات، باغتني رجل بدراجته النارية فأطلقت بوق السيارة لتحذيره وسرعان ما سمعت شتيمة هزّت أركاني. كابرتُ على نفسي وابتلعت دموعي وأكملت طريقي لأجدَ بوابة المدرسة مغلقة. تأخرت. يتوجب علي اذاً ركن السيارة، وهذا الأصعب. استقبلني حارس المدرسة قائلاً “تخنتيها يا مدام.. كتير عم تتأخري”. أخذت أطفالي وأنا أجرّ أذيال الخيبة ولا طاقة لي لمقارعة ذكوريّة مرابطة على باب تلك المدرسة وكل مجتمعنا.

عندما وصلت إلى مدخل بنايتنا، فوجئت بأنّ الاشتراك الكهربائي مفصول. لم اعرف ما هو السبب. كان عليّ أن أحمل حقائب أطفالي وحقيبتي صعوداً إلى الطابق السادس، ومع كل درجة، أجدُ جسدي ثقيلاً مع كل ما ألبسه من ثياب شتوية، وكلما حاولت أن أتغلّب على عجزي، كانت قداماي ترتجفان، وفي ظلمة الدرجات حيث لا ضوء ولا نور، كانت دموعي تنهمر واحدة تلو الأخرى، لا أريد أن يراني أطفالي أبكي، سيسألون ألف سؤال.

تذكرت سارة، صديقتي الباحثة، نحن من نفس الجيل تقريباً، ولدت وعاشت في أوروبا. قالت لي لا أريد أن أنجب الأطفال يا مايا. فهمتها، أو حاولت أن أفهمها، فكرت كم من المهم أن يعرف الانسان ما يريد، كيف استطاعت أن تتخذ مثل هذا القرار، سألتها، قالت لي الأطفال رِهان وأنا لا أستطيع الرهان على أرواح بريئة.

شعرت أنها استطاعت ان تفصل قيمتها كأنثى عن أمومتها، فكل الموروثات الاجتماعية حتّمت علينا الأمومة. انا اخترت حملها وحمل بطيخات أخرى. لم اتوقف عن الدراسة أبداً. أعمل بشكل يومي خارج البيت وداخله. أشارك في المؤتمرات. اغتنم كل فرصة لتطوير مهاراتي. أرتب أولوياتي وأتخلى عن رفاهية الراحة، لكن هل يقتصر خلق الحياة على الولادة أم يمكن أن يتجلى بأشكال أخرى؟

موقف صديقتي سارة من الأمومة دفعني لتلخيص الأمومة بكل أنواع العطاء المبذول. ماجدة قررت أن لا تتزوج وكانت أمّاً لأمها العاجز، فكم من ماجدة وسارة ورويدا تستحق التحية والتقدير في عيد الأم.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عن العراق ونبوءة شمعون.. والرئيس المقبل