انتهكت كل المحرمات المهنية، الأصول والقواعد، التى ترسخت على مدى عقود طويلة حتى اكتسبت صفة «درة التاج» فى الحضارة الغربية الحديثة.
الحريات الصحفية تلخص الحريات العامة كلها.
إذا انتكست يستباح كل معنى وتنتهك كل قيمة.
فى أحوال الهستيريا التى ضربت الإعلام الغربى، كادت تنتفى أى فوارق مع إعلام الصوت الواحد، إعلام الحشد والتعبئة، الذى تعانيه روسيا ودول العالم الثالث.
أسوأ ما قيل فى تسويغ مصادرة الرواية الأخرى بالإجراءات المتعسفة أن هناك إجراءات مماثلة ترتكبها روسيا تمنع وتجرم وتقضى بعقاب كل من يشكك فى الرواية الرسمية.
فى سنوات الحرب الباردة نشأ ستار حديدى يفصل بين عالمين.
كانت حرية الصحافة أبرز نقاط قوة التحالف الغربى، الذى تقوده الولايات المتحدة فى مواجهة التحالف الآخر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفييتى السابق.
خسرت موسكو حرب الصورة، وكان الثمن مؤلما.
أمام الهستيريا الإعلامية الحالية: هل نحن بصدد خسارة أخرى فادحة تنال هذه المرة من الولايات المتحدة والتحالف الذى تقوده فى نظام عالمى جديد يوشك أن يولد؟
الهستيريا الإعلامية تلاحق هستيريا عسكرية بالتحرش الزائد مع موسكو وهستيريا سياسية تقامر بمستقبل البشرية على حافة حرب عالمية مدمرة.
بصورة أو أخرى فإننا أمام إعلام حربى، البيانات تنقل مباشرة من مقر البنتاجون، كأن الدول الأوروبية والولايات المتحدة نفسها أعلنوا أنهم قد دخلوا الحرب، فيما تصريحات القادة الغربيون و«الناتو»، تؤكد مرة تلو أخرى أنه لا توجد أية نية لخوض حرب مع روسيا
في ما هو إعلامى، تكاد قواعد وقيم العمل الصحفى والإعلامى المتعارف عليها دوليا أن تتبدد.
هذه رسالة سلبية إلى العالم الثالث، الذى ننتمى إليه ونعيش فيه، بأن إعلام الصوت الواحد لم يعد مدانا ولا خروجا عن العصر.
إذا كان ممكنا فرض وصاية على القارئ والمشاهد الأوروبى فإن الوصاية سوف تكون مضاعفة هنا.
بوسع أشد النظم ديكتاتورية فى العالم الثالث أن تزعم الآن أن انتهاكاتها «قانونية» هى الأخرى.
كان ذلك انحرافا حادا عن مفهوم الحريات الصحفية والإعلامية فى الغرب وآثاره واصلة بالسلب إلى كل مكان.
باسم حماية الرأى العام الأوروبى من الدعايات الروسية الموصومة بالكذب وتزوير الحقائق منعت وسائل إعلام كـ«RT» و«سبوتنيك» من البث داخل القارة.
الوصاية على الرأى العام لا إخباره بحقائق ما يجرى فى قارته أخطر تطور سلبى فى تاريخ الإعلام الأوروبى منذ نهاية الحرب الباردة.
ككرة ثلج تكبر كلما أخذت طريقها إلى السفح تبدت تغييرات سلبية عميقة فى بنية الإعلام الغربى.
خرقت وسائل التواصل الاجتماعى أية قواعد سياسية وأخلاقية تمنع التحريض على العنف والقتل وبث أجواء الكراهية.
أوغلت أعرق المؤسسات الصحفية والإعلامية فى ارتكاب الجرائم المهنية كالخلط بين الخبر والرأى وافتقدت الحد الأدنى من الحيادية فى تغطية الحرب.
الحيادية لا تعنى أن تقف على مسافة واحدة من المتنازعين فى الحرب، لكنها تعنى أن يكون الفصل بين الرأى والخبر واضحا وصارما، أن يجرى التحقق من صحة الأخبار وفق القواعد المتعارف عليها، أو ألا يجرى التدليس على جمهور القراء والمشاهدين بفيديوهات مفبركة وادعاءات غير صحيحة.
بصورة أو أخرى فإننا أمام إعلام حربى، البيانات تنقل مباشرة من مقر البنتاجون، كأن الدول الأوروبية والولايات المتحدة نفسها أعلنوا أنهم قد دخلوا الحرب، فيما تصريحات القادة الغربيون و«الناتو»، تؤكد مرة تلو أخرى أنه لا توجد أية نية لخوض حرب مع روسيا.
«الخبر ملك القارئ والرأى ملك كاتبه والإعلان ملك صاحبه».
هكذا صاغ الأستاذ «أحمد بهاء الدين» أحد أسس الصحافة الحديثة التى تحظى بإجماع مواثيق الشرف.
من حق الرأى العام أن يعرف حقيقة ما يحدث على جبهات القتال، أسبابها وتداعياتها، ما حسابات الغرب و«الناتو»؟.. وما حسابات الطرف الروسى؟
أن يطل على المشهد من كل جوانبه حتى يكون قادرا على بناء وجهة نظره الخاصة دون وصاية عليه.
القواعد هى القواعد.
تسويغ الخروقات شراكة فى الجريمة.
فى خمسينيات القرن الماضى تعقب السيناتور الأمريكى «جوزيف مكارثى» كل من يشتبه أنه «شيوعى»، أو يتبنى أفكارا تخالف السائد الرأسمالى.
كانت تلك حملة ضارية على الثقافة والمثقفين ونوعا من الإرهاب الفكرى تبرأ منه مجلس الشيوخ تاليا.
ما يحدث حاليا يتجاوز بكثير «مكارثية» القرن الماضى، فالتعقب هذه المرة يشمل كل ما هو روسى بذريعة الانتقام من «فلاديمير بوتين»، لا عشرات ومئات المبدعين والمفكرين الأمريكيين بذريعة حصار «الشيوعية».
كان حرمان الرياضيين الروس من المشاركة فى البطولات الأوليمبية، واستبعاد منتخبهم من تصفيات كأس العالم لكرة القدم (2022) خروجا فادحا على القيم الأوليمبية والرياضية التى تمنع الخلط بين الرياضة والسياسة.
يمنع ويجوز الخلط حسب المصالح السياسية!
الهستيريا وصلت إلى مقاطعة الموسيقى الروسية والأدب الروسى وكل ما يمت لروسيا بصلة فى حملة لا يمكن تقبلها بأى منطق إنسانى وأخلاقى.
إذا كان الغرب يتنكر فى وسائل إعلامه للقيم الحديثة ويحرّض عبر شاشاته على التمييز العنصرى دون أن يكون هناك حساب يدين ويردع فإن الشعبوية سوف تتوحش فى أوروبا وترتفع بالمقابل معدلات العنف والتطرف بأرجائها
كان الإعلام طرفا مباشرا، بصيغة أخرى أداة نافذة، فى التحريض على الروس كـ«روس» وشيطنتهم كأمة مارقة، دون أدنى محاولة لتفهم أسباب الأزمة وخلفيتها ومدى شرعية المخاوف من وصول حلف «الناتو» إلى حدودها المباشرة.
بذات القدر كان الإعلام الغربى طرفا مباشرا فى التحريض على التمييز العنصرى وفق لون البشرة والدين وتقويض أية فرصة جدية للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة.
إذا كان الغرب يتنكر فى وسائل إعلامه للقيم الحديثة ويحرّض عبر شاشاته على التمييز العنصرى دون أن يكون هناك حساب يدين ويردع فإن الشعبوية سوف تتوحش فى أوروبا وترتفع بالمقابل معدلات العنف والتطرف بأرجائها.
إذا كانت ازدواجية المعايير الإنسانية والقانونية فى النظر لقضايا اللاجئين والنازحين حسب العرق والجنس والدين شائعة ومقبولة فإن المظلومية العربية قد تعبر عن نفسها بصورة عنيفة فى بيئة اجتماعية وسياسية جاهزة للتفجير.
المأساة الحقيقية فى القصة كلها أن الهستيريا الإعلامية والسياسية، التى صاحبت الحرب الأوكرانية، لن تنقضى آثارها بعد أن تنتهى الحرب، وسوف تدفع الولايات المتحدة وأوروبا أثمانها الفادحة وندفع نحن أثمانا مضاعفة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“