يُعبّر “أرْجُنا” عن خوفه وكرهه واشمئزازه من القتال، وهذا ليس لجبن أو وهن أو طمع منه. يقول مخاطباً الإله “كريشنا” إنّ السعادة بقتل أقربائه شقاوة، واحترامه لمعلّميه “بيشما” و”درونا” يمنعه من محاربتهما، وبالتالي لن تكون له متعة في أي شيء ملطّخ بدمائهما. بل يذهب أبعد من ذلك عندما يقول: “لن أحاربهم.. من أجل هذه الأرض الصغيرة”، لأنّ النصر في الحقيقة هزيمة. لذلك من الأفضل للمحارب “أرْجُنا” أن ينهزم أمامهم بدل أن يهزمهم.
وقد أجابه الإله “كريشنا” إنه “بالنسبة لجندي من الطبقة الكاتشارية (المحاربون)، ليس هناك واجب أعلى من الحرب الشرعية”، ثم يخاطبه قائلاً “إذا كنت لا ترغب في الوفاء بواجبات دولتك والقتال في ميدان المعركة، فسوف تفشل في الواجب الطبيعي والشرف، وستكون مذنباً بجريمة. سوف يعتبرك البشر أنك بمثابة عار إلى الأبد”.
جاء جواب “كريشنا” مناقضاً لما يخالج المحارب “أرْجُنا” من مشاعر متناقضة. على العكس من ذلك، فالإله يتفادى الخوض في ذلك الإعصار الأخلاقي الذي يجتاح ضمير “أرْجُنا” ويرميه في مهالك الضياع. يغيّر الموضوع كاملاً بتذكير المحارب أنّ “واجبه الطبيعي” و”الشرف” يحتّمان عليه خوض المعركة للفوز بالسماء إذا قُتل وبالأرض إذا انتصر، وغير ذلك سيكون له العار والدناءة الأبديّين و”هما أسوأ من الموت”.
لكلّ ضعيف نقطة قوّة، وقوّة الإنسان الضعيف في إنسانيّته. إذا حوّل الإنسان نفسه إلى آلة، فقد إنسانيّته. ولو إفترضنا أنه صار كذلك، فإن قوّة الآلة ليست فيها، بل في يد من يستخدمها أو يُبرمجها
نجد الأمر مماثلاً في الديانات التوحيديّة. فالله يقول في القرآن لأتباع النبي محمّد في سورة التوبة:
…”ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ”.
وفي التوراة، في سفر التثنية على لسان النبي موسى، نجد شيئاً فيه بعض الشبه، وأعني التهديد لمن يتردّد عن خوض الحرب نيابةً عن الله:
…”لَا تَرْتَعِبُوا وَلَا تَخَافُوا مِنْهُمْ. إلَهُكُمْ سَيَسِيرُ أمَامَكُمْ، وَهْوَ نَفْسُهُ سَيُحَارِبُ عَنْكُمْ كَمَا فَعَلَ أمَامَ عُيُونِكُمْ فِي مِصْر. رَأيْتُمْ كَيْفَ حَمَلَكُمْ إلَهُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ كَمَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ ابْنَهُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّذِي سِرْتُمْ فِيهِ، حَتَّى وَصَلْتُمْ إلَى هَذَا المَكَانِ. لَكِنَّكُمْ لَمْ تَثِقُوا بِإلَهِكُمْ الَّذِي يَسِيرُ أمَامَكُمْ فِي رِحلَتِكُمْ، لِيَجِدَ لَكُمْ مَكَاناً تُخَيِّمُونَ فِيهِ. فَكَانَ يَسِيرُ فِي النَّارِ لَيْلاً، وَفِي السَّحَابِ نَهَاراً لِيُرِيَكُمُ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُون”َ.
بغضّ النظر عمّا إذا كان المتكلّم هو الإنسان ينطق بإسم الربّ، أم الربّ ينطق على لسان الإنسان، نحن أمام خطاب واحد. على البشر القتال والقتل لأنّ إلههم أمرهم بذلك. ليس لهم التفكير في من يقتلون أو في الأذى النفسي والأخلاقي الذي ينتج عن قتل الآخرين. يمكن أن نقول أيضاً إن الإنسان أعلى خلقاً وأخلاقيّة من إلهه الذي يرى الأمور إما أبيض أو أسود اللون بينما الإنسان ينساق أحياناً إلى إنسانيّته ويفكّر بعواقب ما يقترفه. في حقيقة الأمر، هو صراع بين البشر أنفسهم: من يريد أن يكون إنساناً، ومن يريد للإنسان أن يكون أداة وآلة في يد غيره؟
إذاً، نحن أمام صراع بين الواجب تجاه “الله” (أو الزعيم أو العقيدة) وبين الواجب تجاه النفس والمجتمع والقيم والمبادىء التي نحملها. ففي كلّ هذه الأمثلة، المطلوب تغليب واجب معيّن على الواجبات الأخرى، وهو تحديداً واجب ينطلق من اغتصاب الإنسان لإنسانيّته وتحويل نفسه آلة تعمل من دون فكر أو مشاعر أو أدبيّات أو أعراف أو أخلاق..
يمكن أن نعتقد أنّ الدين فقط يخلق هذا النوع من الصراع الوجودي في داخل الإنسان وبينه وبين مجتمعه. لكن هذا ليس صحيحاً. بعض المتديّنين ثاروا على آلهتهم الداعين للقتل وأجبروهم على الخضوع لإنسانيّتهم، فرضخوا لهم.
وإذا نظرنا في الفكر الغربي الحديث (له قناع علماني سميك)، نجده يرتكز على تأصيل هذا التناقض عند الناس، عبر إصراره أنه على المرء القيام بواجبه كما يجب وتجاهل كل العوامل الأخرى وعدم التفكير في العواقب.
الثروة ليست بتكديس المال. والجاه ليس بالجوائز. نحن بحاجة إلى قيم لا نتكلّم عنها فقط من أجل المزايدات بل نتأبّطها ونجعلها بوصلة لنا تحفظ لنا إنسانيّتنا وتحمينا من غضب “الآلهة” وتسلّطهم علينا
نحن مطالبون أن “نُنْتج” من دون أن نسأل أو نأبه للتأثيرات السلبيّة المباشرة أو غير المباشرة لما ننتجه. من هنا مثلاً، يمكن أن نتحدّث عن جيوش الإختصاصيّين في علم الكيمياء والبيولوجيا الذين أنتجوا وينتجون مبيدات ومساحيق وكيماويّات تلوّث الحجر والبشر وتسبب السرطانات والأمراض. ويمكن أن نتحدّث عن علماء الفيزياء والرياضيات الذين أنتجوا أسلحة تساعد في تدمير العالم وقتل أو تهجير الناس. ويمكن أن نتحدّث عن إختصاصيّي الإقتصاد الذين تتسبّب آراءهم ودراساتهم بفقر ومجاعات إلخ. وعلينا أيضاً شكرهم لأنّهم أنتجوا لنا مهدّئات الأعصاب لتعالج حالات التشنّج والضغط الذي نعاني منه نتيجة الأعباء الأخلاقيّة والجسديّة والنفسيّة لما نراه ونحياه.
ليس الهدف هنا بتاتاً الزعم أنّنا لسنا بحاجة إلى الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء والرياضيّات والإقتصاد وعلم التاريخ والسوسيولوجيا و..، أو أنّ كل من يعمل في هذه المجالات يُعدّ فاسداً. نحن بحاجة إلى كلّ هذه العلوم، ونحن بحاجة أيضاً إلى أنسنة أهل هذه العلوم (تحديداً من سها عن باله منهم أنّه إنسان) حتّى لا ينسوا أن واجبهم تجاه نفسهم وتجاه البشر أكبر وأهمّ من واجبهم نحو إختصاصاتهم وعلومهم. وأنّ الثروة ليست بتكديس المال. والجاه ليس بالجوائز. نحن بحاجة إلى قيم لا نتكلّم عنها فقط من أجل المزايدات بل نتأبّطها ونجعلها بوصلة لنا تحفظ لنا إنسانيّتنا وتحمينا من غضب “الآلهة” وتسلّطهم علينا.
لذلك نرجع إلى كلام الإله “كريشنا” الذي لم يجد شيئاً يغري به المحارب “أرْجُنا” ويصرفه عن ما هو فيه من صراع وضياع إلاّ بالترهيب: ماذا سيقول عنه الناس إذا رفض القتال، وماذا سيكون مصيره في السماء. لو كان صحيحاً أنّ هناك من له قدرة على أن يقول للشيء كن فيكون لما طلب إلينا نحن البشر أن نقاتل عنه وبإسمه. ولما كان له من داعٍ حتى يُهدّدنا بالويل والثبور وعواقب الأمور إذا لم نفعل.
في الخلاصة، لكلّ ضعيف نقطة قوّة، وقوّة الإنسان الضعيف في إنسانيّته. إذا حوّل الإنسان نفسه إلى آلة، فقد إنسانيّته. ولو إفترضنا أنه صار كذلك، فإن قوّة الآلة ليست فيها، بل في يد من يستخدمها أو يُبرمجها.