بايدن يتجنب بن سلمان.. “ولي عهد نموذجي” وليس رئيساً!

منى فرحمنى فرح02/04/2022
بينما تؤدي الحرب الأوكرانية إلى اضطراب أسواق الطاقة العالمية، ترفض الرياض زيادة إنتاج نفطها للتخفيف من التداعيات المؤلمة لارتفاع أسعار الوقود. هذا الرفض لمطالب جو بايدن يرتبط بمستقبل شراكة السعودية والولايات المتحدة الأميركية منذ 77 عاماً؛ فهل هناك ما يستحق الحفاظ عليها، من وجهة ولي العهد السعودي، كما تحلل "الفورين أفيرز"؟

كانت علاقة الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية في دوامة هبوط منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر. حتى “الغزل العلني” بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (MBS) لم ينجح في جَسر روابط الثقة والتواصل بين البلدين التي تزعزت بعد سنوات من التوترات حول “الحرب على الإرهاب” التي تقودها الولايات المتحدة، والتدخل الأميركي في العراق، وسعي واشنطن المتقطع لإبرام إتفاق نووي مع إيران، والحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وسجل الرياض في مجال حقوق الإنسان.

مسؤولو السياسة الخارجية الأميركية يتساءلون سرّاً عمَّا إذا كان MBS قد تعلم شيئاً من سنواته الأولى في السلطة، والأحرى أن يسألوا أنفسهم أولاً عمَّا تعلموه هم خلال الفترة الزمنية نفسها. فأداء إدارة بايدن؛ على مدار الخمسة عشر شهراً الماضية؛ تشير إلى أن العديد من صُنَّاع السياسة الأميركية لم يستوعبوا بعد؛ بشكل كامل؛ مدى التغيير في موقف المملكة تجاه واشنطن منذ أن أصبح MBS الحاكم الفعلي للبلاد.

تزامن هذا التحول مع تراجع المصالح السياسية الأميركية في الشرق الأوسط. فالرئيس بايدن يواصل ما بدأته إدارتي ترامب وأوباما (باراك) بخصوص تقليص الالتزام العسكري في المنطقة. وقد سعى القادة السعوديون إلى التكيف من خلال تعزيز مجموعة أكثر تنوعاً من العلاقات الاقتصادية والأمنية العالمية. لكن يبدو أن بايدن كان يتوقع؛ عندما تولى منصبه؛ أنه يستطيع الإعتماد على علاقة تقليدية مع الرياض تقوم على مبيعات الأسلحة والتنسيق الأمني ​​وإنتاج النفط، كما فعل من قبله أجيالٌ من الرؤساء الأميركيين. من جانبه، لم يُخفِ MBS نيته إعطاء الأولوية في أسواق النفط العالمية لمصلحة السعودية وقوى أخرى، غربية وغير غربية، بهدف تعزيز سيطرته على بلاده. وبدلاً من الإصرار على تلقي الفوائد التقليدية للعلاقة الثُنائية، يجب على إدارة بايدن تبني نهجاً أكثر براغماتية، والسعي إلى توسيع العلاقات الثنائية وممارسة نفوذها بأساليب جديدة.

مراوغة بلاغية

بعد انتهاء ولاية ترامب، تغير خطاب السعودية وسياستها الخارجية بشكل كبير. ففي القمة الخليجية التي عُقدت في مدينة “العُلا” (شمال غرب الرياض) في كانون الثاني/يناير 2021، بدأت الرياض عملية مصالحة مع قطر؛ وتقاربت مع عُمان والكويت؛ وابتعدت عن مواقف جارتها المتشددة-الإمارات. كما كثَّفت من مشاركتها مع العراق، وعززت جهودها لاستعادة العلاقات الدافئة مع الحلفاء التقليديين مثل مصر والأردن والمغرب وباكستان. وواصل MBS مشروعاً عمره سنوات لتوثيق الروابط والشراكات مع الصين وروسيا.

صُنَّاع السياسة الأميركية لم يستوعبوا بعد مدى التغيير في موقف المملكة تجاه واشنطن منذ أن أصبح MBS الحاكم الفعلي للبلاد

صحيح أن خطاب المملكة لم يتغير كثيراً تجاه الجهات الفاعلة المدعومة من إيران في المنطقة، لكنها في الممارسة العملية تبنَّت نهجاً أكثر مرونة تجاه الجمهورية الإسلامية، ذلك أن إدارة بايدن تنتهج الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية بدلاً من حملة “الضغط الأقصى” التي كان ينتهجها ترامب. ففي عام 2021، اعترفت الرياض علناً بأنها تجري محادثات مع طهران بهدف التهدئة، وأعربت عن دعمها الحذر للإتفاق النووي لعام 2015. كذلك تراجعت عن آمالها في تحقيق نصر عسكري في اليمن. حتى في ما يتعلق بلبنان، الذي كان القادة السعوديون قد شطبوه بالكامل من حساباتهم بإعتباره خاضعاً للسيطرة الإيرانية، وافق MBS مؤخراً على التعاون (الإنساني) مع فرنسا من أجل نزع فتيل أزمة اقتصادية تشل البلاد منذ سنوات.

في الداخل السعودي، تظل السيطرة السياسية لها الأولوية القصوى بالنسبة لـMBS. صحيح أنه أطلق سراح عدد من السجناء السياسيين، ويُشاع أنه يتخذ نهجاً أكثر ليونة تجاه أفراد العائلة المالكة المعارضين، لكنه لا يزال يمارس القمع والتهديد، كما يتضح من قرار الإعدام الجماعي الذي نُفذ في 12 آذار/مارس بحق 81 سجيناً بتهم الإرهاب، نصفهم تقريباً من الأقلية الشيعية. أضف إلى ذلك، الإجراءات المُشددة التي تمارسها الحكومة السعودية ضد كل ما يتعارض مع خطها الرسمي.

وبرغم تزايد القمع السياسي، رحب العديد من المواطنين السعوديين بـ”التحسينات” التي طرأت على حياتهم اليومية. صحيح أن البعض اعتبر “رؤية 2030” مجرد مشروع باطل، لكن المبادرة خفَّفت؛ نوعاً ما؛ القيود الحكومية على الحريات الاجتماعية، وحسّنت من كفاءة العديد من الخدمات، ومنحت المرأة بعض الحقوق القانونية والاقتصادية والتعليمية، وأدخلت تحسينات صغيرة ولكن ثابتة في الاقتصاد غير النفطي.

وهناك اتجاه آخر ملحوظ: في السنوات الأخيرة، بادر صُنَّاع القرار السعودي لإصلاح مكانة الدين في المجال العام بعدما كان تحت سيطرة المتشددين، وتقليص دور السلطة الدينية في ترسيخ حكم العائلة المالكة. سعت الحكومة إلى تسويق “رؤية 2030” الخاصة بولي العهد بأوصاف مبالغ فيها، واعتبارها مصدر جديد للشرعية، وشهادة على “عبقرية MBS”.. وهلَّلت لمشاريع “ضخمة”، و”أحداث كُبرى”، و”إنطلاقة تاريخية”.. ومع ذلك، يمكن لهذه التحسينات “البسيطة” أن تقع بدورها فريسة في سبيل أن يبقى النظام مسيطراً بالكامل على المعلومات والأسواق.

مقابل حُفنة من الامتيازات

في المقابل، استغل بايدن وإدارته فكرة إعادة ضبط العلاقات الثُنائية لمعالجة تداعيات السياسة الخارجية التي اتبعها ولي العهد السعودي خلال سنواته الأولى في الحكم. إن مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي (خلصت المخابرات الأميركية إلى أن تصفيته تمت بأوامر مباشرة من بن سلمان)، وتعرض نُشطاء حقوقيين للتعذيب داخل السجون، جعل من MBS عبئاً سياسياً على القادة الأميركيين. وكل حديث عن الأهمية الإستراتيجية للمملكة لا يُبطل هذا الضرر. لقد أدى مقتل خاشقجي إلى مضاعفة القلق العام بشأن الحملة العسكرية التي تقودها السعودية ضد اليمن منذ 7 سنوات، ووضعت صفقات بيع الأسلحة للرياض تحت رقابة دائمة من قبل وسائل الإعلام الأميركية، وظهرت “لوبيات” داخل الكونغرس لوقف هذه الصفقات. فمن خلال الوصف الذي استخدمه خلال حملته الانتخابية، بأن السعودية “دولة منبوذة”، والإجراءات المبكرة التي اتخذها لمعاقبة حاشية ولي العهد، لقد استطاع بايدن إظهار إلتزامه بسياسة خارجية قائمة على القيم (تناقض حاد مع السياسة التي اتبعها سلفه ترامب).

إدارة بايدن تتجنب MBS، وتتعامل معه كـ”ولي عهد نموذجي” يعمل في وظيفة يومية في إحدى الوزارات الرئيسية.. ويمكن استبعاده من أي مناقشات ثُنائية تتم بين رئيسي الدولتين

في الوقت نفسه، زادت شكوك السعودية تجاه الإلتزامات الأميركية بأمن المملكة (والنظام السعودي)، وذلك لأسباب عدّة أهمها أولويات سياسة إدارة بايدن في المنطقة، وعلى رأسها إنهاء التدخل الأميركي المباشر في اليمن وإعادة تأسيس اتفاق نووي مع إيران. إحلال إيران ووكلائها مكان الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في السياسة الخارجية الأميركية صار مصدر رئيسي للغضب السعودي، وأصبحت “عقيدة أوباما”؛ المتمثلة في تقليص الالتزامات العسكرية تجاه الشُركاء القُدامى؛ هدفاً لانتقادات شديدة في خطاب السياسة الخارجية السعودية. صحيح أن إدارة ترامب كافأت النوايا السعودية الحسنة (وصفقات الأسلحة) بتوجيه كلام قاسٍ لإيران وفرض عقوبات مشدَّدة عليها وتهديدها بعمل عسكري ضدها وضد حلفائها، لكنها في الوقت نفسه رفضت الدفاع عن مصالح السعودية عندما تعرضت منشآتها النفطية لهجمات صاروخية مدعومة من إيران.

إقرأ على موقع 180  تركيا "الإستباقية" في ليبيا.. مواجهات بالجملة والمفرق!

وبدلاً من رسم مسار جديد للعلاقة، اعتمدت إدارة بايدن على قواعد لعب مألوفة: ضمان إستعداد المملكة لشراء الأسلحة الأميركية (واستبعاد أي ثمن لانتهاكات حقوق الإنسان السعودية) في مقابل التنسيق الأمني ​​وامتيازات سياسية أخرى. مسؤولو السياسة في الشرق الأوسط في إدارة بايدن يؤمنون بأهمية الشراكة مع السعودية، ويقبلون بحقيقة أن قدرتهم على تشكيل سلوك النظام السعودي لها حدود. وبناء على ذلك، أفسحت المناقشات حول القيم في العلاقة الأميركية السعودية المجال أمام الخطاب المألوف للشراكة التي تُعتبر “حيوية”، على حد تعبير أنتوني بلينكين.

إن أوضح دليل على أن التغيير يعم المملكة هو تولي محمد بن سلمان عملية صنع القرار في السعودية. ومع ذلك اختارت إدارة بايدن أن تتجنبه، والتظاهر بأنه ولي عهد “نموذجي” يعمل فقط في وظيفة يومية في إحدى الوزارات الرئيسية في المملكة، وأنه من الذين يمكن استبعادهم من أي مناقشات ثُنائية تتم بين رئيسي الدولتين. هذه الإستراتيجية شكلت إساءة قصيرة الأجل فقط لـ MBS، ولم تغير من حقيقة أن الإدارة الأميركية مهتمة بمعالجة الانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان في السعودية.

إن تجنب بن سلمان هو ببساطة رد فعل، ينعكس في مجالات أخرى من نهج الإدارة الأميركية في علاقتها مع الرياض. ولأنها غير قادرة، أو غير راغبة في تأمين تشريع للطاقة الخضراء التي من شأنها أن تُقلل من اعتماد الولايات المتحدة على الوقود الأحفوري، اكتفت إدارة بايدن بتوجيه إنتقادات بشكل دوري إلى السعودية بسبب عدم رغبتها في زيادة إنتاج النفط. وهذا من شأنه أن يؤدي فقط إلى زيادة شعور الرياض بأهميتها في أسواق النفط العالمية، حيث يُقال إن القادة السعوديين يطالبون بايدن بتنازلات لا يمكن الدفاع عنها سياسياً؛ مثل زيادة الدعم لحرب المملكة في اليمن، ومنح الحصانة القانونية لـ MBS في الولايات المتحدة، والتعاون في المجال النووي؛ مقابل زيادات في الإنتاج يمكن أن تعوّض ارتفاع الأسعار. لقد دخلت إدارة بايدن في لعبة تحدي مع شريك أمني رمزي: محاولة تأمين زيادة إنتاج النفط مقابل حد أدنى من الامتيازات.

تجديد العلاقة

لا يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل مع السعودية كأمر مضمون. لقد قلَّلت الإدارات الأميركية المتعاقبة من تأثير السياسات الأميركية ما بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر تجاه دول الشرق الأوسط على مكانتها في الرياض. فالغزو الأميركي للعراق عام 2003، ودور واشنطن في الانتفاضات العربية (2010-2011)، والاتفاق النووي الإيراني (2015)، وعدم الرد على الهجمات التي طالت منشآت سعودية وإماراتية.. كلها ذكريات وأحداث أصبحت بمثابة نقاط مرجعية بالنسبة لصُنَّاع القرار في الرياض اليوم، وحلَّت مكان الصور الأيقونية للقوات الأميركية يوم تحرير الكويت (1991) والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع الملك السعودي عبد العزيز بن سعود على ظهر السفينة “يو. إس. إس. كوينسي” في عام 1945. إدارة بايدن تُدرك جيداً هذا التغيير، وهي الآن تُعطي الأولوية لجعل السعودية تقبل بتجديد الاتفاق النووي مع إيران، وتتبنى موقفاً وسطياً بخصوص حربها على اليمن، وغض النظر قدر المُستطاع عن ماضي سلوكيات ولي العهد. بدوره، سيستمر بن سلمان في المخاطرة بحسن نية الولايات المتحدة بهدف تحقيق أولويات سياسته الخاصة، مدفوعاً بثقته من أن احتياطيات بلاده النفطية وثروتها ستردع كل رد فعل رسمي أميركي وغربي. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحدي العلني للدعوات الأميركية والغربية لزيادة الإنتاج يلعب دوراً جيداً في الداخل السعودي، من خلال تسليط الضوء على مكانة المملكة كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي.

وبدلاً من الاستجابة لإشارات الإستياء التي تبديها الرياض، يجب على صُنَّاع السياسة الأميركية أن ينظروا إلى مصالح المملكة على المدى الطويل لتحديد نقاط النفوذ. تتشابك مصالح السعودية بشدة مع طموحات MBS الشخصية لرؤية 2030. لذلك سوف تتكيف الرياض أو تبحث عن مصادر أخرى للتسلح وجذب الاستثمارات والتكنولوجيا كلما أغلقتها واشنطن أو امتنعت الشركات الأميركية عن الاستثمار. في الوقت الحالي، لا تزال واشنطن المصدر الرئيسي الذي يمد الرياض بمختلف أنواع الأسلحة التي تحتاجها (أكثر من 80% من الواردات مقابل أقل من 0.1% من روسيا). ومن الصعب أن تنتقل المملكة إلى مورد آخر للأسلحة، وهي التي؛ منذ عقود طويلة؛ اعتمدت في بناء قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على الذخائر الأميركية حصراً.

من الواضح أن الرياض استثمرت في بناء الأدوات الدبلوماسية لتشكيل العلاقات المستقبلية مع واشنطن، أكثر بكثير مما فعلت الأخيرة (..).  حتى في الوقت الذي أثارت فيه الجهود السعودية الدهشة في واشنطن، فشلت إدارة بايدن في تعيين سفير لها في الرياض. إن تجنب بايدن لمحمد بن سلمان يعكس استياء الجمهور الغربي من سلوك ولي العهد، ومع ذلك لم تسع أي سياسات أميركية لتعويض هذا الموقف من خلال إظهار اهتمام حقيقي بالسعوديين العاديين. تعزز هذه الإخفاقات الرسالة القائلة بأن واشنطن لا تهتم بالسكان العرب المسلمين إلا عندما يشكلون تهديداً لمصالحها.

إن المواجهة الحالية حول إنتاج النفط تقدم لصُنَّاع السياسة الأميركية فرصة لإعادة التفكير في المسار المستقبلي للعلاقة الثنائية مع الرياض. لقد فهم محمد بن سلمان ومستشاروه أن الالتزامات الأمنية الأميركية المتناقصة تمنح المملكة مساحة أكبر للعمل بشكل مستقل عن واشنطن ومن دون إثارة الكثير من ردود الفعل غير المرغوب فيها. وبدلاً من مجرد زيادة صفقات الأسلحة إلى المملكة، يمكن لإدارة بايدن رسم مسار جديد للعلاقة تستطيع من خلاله الإستفادة من مخاوف المملكة بشأن الوضع في إنتزاع تنازلات سياسية وتحديد تعويض مقبول للطرفين عن أي خسائر اقتصادية وإستراتيجية للمملكة إذا وافقت على زيادة الإنتاج. أو يمكنهم الإستمرار في مسارهم الحالي، مع احتمال أن قدرة الولايات المتحدة على إعادة تشكيل العلاقة الثنائية قد تتدهور أكثر وأكثر خلال شهر واحد.

– النص بالإنكليزية على موقع “الفورين افيرز

(*) إعداد ياسمين فاروق، الباحثة في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”. وأندرو ليبر، طالب رسالة دكتوراه في جامعة هارفارد.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مأزق الوعي بالعروبة والشرعية.. والدولة الحديثة (2)