مقهى ريش.. شاهدٌ على زمن جميل

علاقتنا الإنسانية والثقافية بالقاهرة مرتبطة بشكل وثيق بالفن من سينما وغناء وموسيقى حتى من قبل أن نزورها.. علاقتنا الإجتماعية، كما ذاكرتنا، ترتبط بالمقاهي والشوارع والناس والأماكن التي نرتادها.

هي زيارتي الثانية إلى القاهرة. تغيّرت المدينة وتغيرتُ أنا. يقول هيراقليطس إنك لا تستطيع أن تضع رجليك في ماء النهر نفسها مرتين. الماء تتغير، وأنت كذلك.

لم تكن مجرد زيارة عائلية فحسب، لعقد قران يارا إبنة أختي وحسام حداد حفيد الشاعر فؤاد حداد. خمسة أيام في قاهرة المعز في كنف عائلة الشاعر المصري اللبناني الأصل فؤاد حداد لا يمكن إيجازها في نص واحد.

قوة الحب أعادت الحفيد حسام حداد إلى جذوره في بلدته الجبلية عبيه. تنشق عبير الصنوبر. “سرق” شريكته ثم تعمّد حُبهما بزفاف بسيط عامر بالفرح على ضفاف النيل.

للحب قوة قاهرة جداً.

وهذه قاهرة المعز التي صارت عاصمة مصر بعدما كانت الإسكندرية تلعب هذا الدور في غابر الأزمان. صار في الوجدان مقام للقاهرة، وفي المُعاش التصاق حميم بتفاصيل حياة مدينة كل العرب.

تحط بك الطائرة في مطار القاهرة، فتجد نفسك تترغل بتلك اللهجة المُحببة ولو بلسان مزورٍ محترفٍ لكي ترد التحية بمثلها: أهلاً يافندم. إزيك يا باشا، نورتو مصر..

بودي أن أفهم من أين تأتي كل هذه الطاقة على لطيف الكلام وجميل السلام وحلاوة اللسان. شعب مبرمج على تأدية التحية “سلام مربع للجدعان”.

كافيه ريش في ميدان طلعت حرب فسحة تُؤرخ لماضي القاهرة السياسي ـ الثقافي ـ الإجتماعي. حول إحدى طاولات المقهى جلس نجيب محفوظ. هنا غنت أم كلثوم للمرة الأولى أمام جمهور، وهنا كتب نجيب سرور “بروتوكلات حكماء ريش”…

أول من تقابلهم هم “سواقين التكاسي”. بإمكانك أن تنادي أحدهم “محمد” وحتماً ستصيب، لأن حاملي هذا الإسم نسبتهم 99 بالمئة.

بالمقابل، أنت الراكب “الباشا”. الراكبة “الملكة”، أو أي لقب مثل بيه وهانم وخانم وست الستات، حتى بإمكانه منحكِ لقب ملكة جمال، لأنك تأتين من “لبنان الحلوة” (وليس الحلو). لبنان نُحبّها “قوي قوي”.

– كورونا عاملة إيه في مصر؟

“لا، أصل إحنا ما عندناش كورونا، إحنا بناكل ثوم وبصل حضرتك يا هانم”، يجيب السائق بثقة العارف والعالم والطبيب.

سردية صغيرة عن غلاء الأسعار “المولعة” لكي لا تشعر بالغربة عن لبنان. إذن عليك زيادة جرعة البقشيش، وهذه بديهية التعامل مع “الغلابى” ولو كنت واحداً منهم!

ومصر البالغ عدد سكانها نحو 110 مليون نسمة يسكن منهم عشرة ملايين و”حبة زيادة” في القاهرة وحدها. لا ينام معظمهم ليلاً ويستيقظون عند الظهيرة، فالمدينة المكتظة لها إيقاعها المختلف عن باقي العواصم، وأنا التي أستيقظ فجراً لم يكن بإمكاني استثمار يومي من أوله في حي الزمالك العريق الذي أقيم فيه.

كان الإجتماع العائلي يضم بالإضافة إلى إبني وزوجته وإبن أختي وزوجته، عمي الآتي من أميركا وزوجته الأميركية وعمتي القادمة من السويد وزوجها السويدي. هذه الباقة اللبنانية ـ الأجنبية زادت منسوب التحلق من حولنا، وهات يا عروض خدمات لا تنتهي، ومن كل حدب وصوب!

أكثر الأماكن رهبة وجذباً في مصر هي أهرامات الجيزة. هناك تعتريك رجفة التاريخ وتدرك ضآلتك، قبل أن يهزك فجأة صمت أبو الهول ويُذكّرك بصومه الأبدي عن الكلام. سكوته من ذهب وكل كلام وإسهاب ولغو مجرد هباء.

“أنتِ في مصر.. إذهبي إلى كافيه ريش”، تقول لي صديقة سورية تعرف جيداً هذه المدينة وأنا أثق بإختياراتها عادة. إعتذرت من أصدقائي المصريين الذين تهافتوا بود شديد إلى دعوتي، بسبب ضيق وقتي. ألتزم بالنصح. إلى مقهى ريش كانت الوجهة الأولى.

عند ميدان طلعت حرب بوسط البلد أصل انا وعمتي التي تقول لي “سوف تتعرفين إلى السيدة إنتصار”. مناضلة نموذجية، تأخذنا إلى شوارع موازية، نتعرف فيها إلى حيوات آخرين. تسرد لنا إنتصار في ساعة من الزمن ما حصل أثناء الثورة كأنه حصل بالأمس. الواقع صعب مع موت العديد من الرفاق الجدد والقدامى، فتحية العسال، أحمد فؤاد نجم، وتعد باقي الرفاق، دمعة من القلب.. لكنها ـ برغم ذلك ـ تبقى متفائلة “لا بد من تغيير ما، هكذا يقول لنا التاريخ، هذه الحرب الكونية تُعلمنا الإعتماد على حماية النيل وزراعة القمح وبالتالي أن نكتفي ذاتياً”.

كان لا بد أن نُعرّج على كافيه ريش في ميدان طلعت حرب. فسحة تُؤرخ لماضي القاهرة السياسي ـ الثقافي ـ الإجتماعي. حول إحدى طاولات المقهى جلس نجيب محفوظ. هنا غنت أم كلثوم للمرة الأولى أمام جمهور، وهنا كتب نجيب سرور “بروتوكلات حكماء ريش”. من هنا خرجت مظاهرة تقدمها يوسف إدريس تنديداً باغتيال غسان كنفاني على يد “الموساد” الإسرائيلي في بيروت. هنا ولدت فكرة بيان توفيق الحكيم الشهير الموجه لأنور السادات وحظي بتوقيع أكثر من مئة مثقف دفاعاً عن حرية الرأى والفكر. هنا طُبعت منشورات ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول. ومن هنا انطلقت واحدة من أكبر حركات الجهاز السري للثورة. من هنا كان الشاعر أمل دنقل يقف في قلب المقهى يقرأ قصيدته “الكعكة الحجرية” على مرتاديه كأنه في محفل للشعر. هنا جلس الفيتوري والبياتي وصلاح جاهين ويوسف إدريس وحافظ إبراهيم وغيرهم..

إقرأ على موقع 180  مقتل البغدادي.. "الخليفة" في بازار الانتصارات

هنا إستراح صدام حسين حين كان طالباً على أحد مقاعد جامعة القاهرة. الكراسي إياها تعرف جمال عبد الناصر وانور السادات كما العديد من الشخصيات المصرية والعربية والعالمية. فسحة ليست تاريخاً وحسب. إنها حاضر. هنا كان “ثوار مصر” في بداية ثورة يناير يُدبجون مقالاتهم وتحتدم مناقشاتهم ويحتمون عندما يتعرضون للغاز والرصاص المطاط أو يحتاجون “شربة مي” أو تأدية حاجة ما.

برغم تاريخه الحافل، بدا مقهى ريش كئيباً جداً كإمرأة مُسنّة تجلس لتتذكر ماضيها، وقد غزا الشيب جذور شعرها بعدما سالت الصبغة على الأطراف.

لا شيء يُعيدنا إلى الماضي الجميل سوى تلك الصور تُزين جدران المقهى بصالتيه الممتدتين طولياً بعمق ستة أمتار أو أكثر بقليل، وفي صلبها صالون ريش الثقافي.

كان ملفتاً للإنتباه وضع صورة القديس مار شربل، فقلت لا بد أن يكون المالك قبطياً (يقول البعض إن مؤسسيه من اليهود المصريين). العودة إلى التاريخ تبرز هويات أجنبية لأوائل مالكيه (بدءاً من 1908)، قبل أن يشتريه المالك المصري الأول مجدي عبد الملاك ميخائيل في العام 1960، ويديره اليوم حفيده الذي أهدته الفنانة التشكيلية ميسون صقر كتابها “مقهى ريش، عين على مصر”.

لا شيء في الحاضر يشبه الماضي. بضعة سواح أجانب ونحن نحتسي القهوة، لا طعم محدداً لها، ولكنك تسقط في سحر غامض يأسرك في تخيل الماضي من خلال الصور التي تمعن النظر إليك بثبات مذهل.

تبادر إلى ذهني مجد مقاهي بيروت في الستينيات والسبعينيات الماضية ودورها الحاضن لكل المثقفين الهاربين من أنظمة القمع والمنفيين بسبب إعتناقهم أفكاراً تحارب الإستبداد والقمع، ثم كيف تحوّلت هذه المقاهي في الزمن النيولبيرالي إلى متاجر ومطاعم “فاست فود”، متماهية مع الجو المهيمن على حياتنا اليومية الهاوية

من المؤكد أن المقهى بحاضره وتاريخه إنما يتماهى مع لحظة المدينة التي نشأ وتطور فيها. القاهرة الخديوية التي أوجدها الخديوي إسماعيل وهي مساحة في قلب القاهرة تبدأ من كوبري قصر النيل، حتى منطقة العتبة، وتتميز بعصريتها وحداثتها، كما أن حفلات ريش الغنائية على سبيل المثال وعروضه المسرحية كانت علامة على انحياز مصري للفنون حيث تبارى فيه أشهر المغنين والمسرحيين المصريين في ذلك الوقت وعلى رأسهم نجيب الريحاني. بالمقابل، كان الطابع الغربي هو سمة ما يُقدم فنياً في مقهى جروبي على بعد أقدام منه في الميدان نفسه.

إستطاع مقهى ريش بهويته التعددية وبتمازج الفنون – بحسب الكاتب الصحفي كامل زهيري – “أن ينشئ تياراً ثقافياً يقوم على التكامل بين الفنون سواء الموسيقى أو التصوير أو الرسم أو النحت أو الأدب”، وهو ما يؤكده أيضاً الروائي الكبير محمد البساطي بقوله “حالة مقهى ريش بكل تنوعها وتموجها تؤكد إحدى السمات المهمة في وجدان المصريين، فمن الواضح في مصر أن الاهتمامات تتوارث بما فيها الأماكن”، بل ذهب أبعد من ذلك في القول “هناك بعض الموروثات التي تصبح جزءاً من التقاليد والفولكلور، ومنها مقهى ريش”.

بعد أن تعمقتُ قليلاً في قراءة تاريخ هذا المقهى، تبادر إلى ذهني مجد مقاهي بيروت في الستينيات والسبعينيات الماضية ودورها الحاضن لكل المثقفين الهاربين من أنظمة القمع والمنفيين بسبب إعتناقهم أفكاراً تحارب الإستبداد والقمع، ثم كيف تحوّلت هذه المقاهي في الزمن النيولبيرالي إلى متاجر ومطاعم “فاست فود”، متماهية مع الجو المهيمن على حياتنا اليومية الهاوية. حتماً لا يمكن إخفاء الحسرة.

نخرج من مقهى ريش ونُعرّج على النيل. نهرٌ يحتضن بلداً وشعباً وعاصمة. وللجلسة على النيل مذاقها المختلف، ليست بغريبة ولا بعجيبة، فالنهر يختصر الوقت والحدث ويصرفهما بتؤدة. كان أحد المثقفين يجلس يومياً ولساعات مُحددة في مقهى مطل على نهر النيل بفندق سميراميس، وعندما يسأله البعض عن سر شروده كان يجيبهم “فقط أريد الإطمئنان إلى أن النيل يجري بخير”.

في مصر لا وجود للعجلة في قاموس يومياتك. كل شيء يمتد ويطول كما النيل المترامي أمامك، ولا تزال شمس القاهرة في هذه الأيام الربيعية، وحدها تعكس من أمام النيل ذكرى طيبة من بلد الإهرامات إحدى عجائب الدنيا السبع.

تتأمل النهر وسيرة شعب يقاوم المأساة بـ”الهزار” والضحك.

تخفي رحلتك القاهرية أسئلة كثيرة يختصرها قول الشاعر فؤاد حداد في إحدى قصائده الجميلة:

“يا مصري يا سيد وأبوك درويش

النيل بيجري والا ما بيجريش

النيل بيجري والعجل بيدور

والفجر طالع بالصنايعية

ومصر لازم تبقى مصرية

وكل كلمة تقولها أغنية

وكل أمنية وأمل دستور”.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  «شباب الثورة" و"عواجيز يناير».. صراع أجيال مبكر!