إنتخابات لبنان.. “الأنا” تُطيح فرصة التغيير

عندما يحين موعد الإقتراع صبيحة الخامس عشر من أيار/ مايو المقبل لإنتخاب برلمان لبناني جديد، يكون الحراك الشعبي التشريني قد طوى سنتين وسبعة أشهر من عمره. مساحة زمنية كان يُمكن أن تُشكّل فرصة ذهبية لتغيير جوهري ينتشل البلاد من مستنقع السياسة الآسن، لكنها كانت فرصة مهدورة.

في بال لبنانيين كُثر يُلح سؤال؛ ما نحن فاعلون يوم الإنتخاب؟ هو واجب وطني صحيح، إنما دون القيام به هواجس تفرضها طبيعة قانون الإنتخاب المعمول به حالياً. قانون يفرض التصويت للائحة بكاملها ولا يتيح تشكيل خيارات متفلتة من القالب الجاهز، كما كان الحال وفق قانون الستين برغم مساوئه الكثيرة.

معطى آخر يُولّد خيبة لدى شريحة واسعة من الناخبين، هو المآل الذي إنتهت اليه لوائح قوى التغيير والمعارضة في كل لبنان.

في إستطلاع للرأي أجراه مدير مكتب الإحصاء والتوثيق الخبير الإنتخابي كمال فغالي في كانون الثاني/ يناير الماضي، تبين أن نحو 45 بالمائة من الذين شاركوا بشكل شبه دائم في فعاليات إنتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنوا أنهم يؤيدون تحالفاً واسعاً بين قوى المعارضة والتغيير في الإنتخابات النيابية المقبلة. أوصت الدراسة الإنتخابية لفغالي بخلق موجة إنتخابية لمصلحة قوى التغيير عبر إنشاء جبهة وطنية عريضة لإسقاط المنظومة الحاكمة، وبخوض الإنتخابات عبر لائحة موحدة (128 وجهاً) وبرنامج سياسي وإقتصادي وإجتماعي موحد.

إلى أين إنتهى المطاف؟

إنتهى الواقع إلى تشرذم عبّرت عنه كثرة لوائح هذه القوى في الدوائر الإنتخابية كافة، في مقابل تماسك قوى السلطة التي أبرمت “عقود متعة” لتمرير الإستحقاق (32 لائحة لقوى السلطة بكامل مكوناتها و71 لائحة للمجتمع المدني وباقي المعترضين، وفق الخبير الإنتخابي في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين).

شمس الدين: 32 لائحة لقوى السلطة بكامل مكوناتها و71 لائحة للمجتمع المدني وباقي المعترضين

أظهر المجتمع المدني نفسه عاجزاً عن تحقيق الحد الأدنى من تطلعات المواطنين الذين خفقت قلوبهم وصدّحت حناجرهم في الأيام والأسابيع الأولى من الحراك الشعبي قبل عامين ونصف. فوّت هؤلاء فرصة ذهبية بالمعنى الحرفي للكلمة. يقول كمال فغالي لموقع 180 بوست إنه “لو تحقق هدف توحيد صفوف قوى التغيير والمعارضة لكان بمقدورها حصد 70 مقعداً في الندوة البرلمانية من أصل 128”. أما الآن، فإن أفضل السيناريوهات التي تتوافق عليها إستطلاعات رأي عديدة تشير إلى حصول هؤلاء على 12 مقعداً بالحد الأقصى، بينها لأحزاب وشخصيات غادرت صفوف السلطة غداة لحظة إنفجار مرفأ بيروت والتحقت بالمعارضة؛ (حزب الكتائب 3 مقاعد، مقعد أو مقعدان لميشال معوض، مقعد أو مقعدان لنعمت أفرام، مقعد أو إثنان لبولا يعقوبيان، مقعد لمجموعة “شمالنا” إلخ..).

أي تغيير ينتظره اللبنانيون؟

لقد ظهرت ملامح تشتت المجتمع المدني في الواقع منذ بداية الحراك، لكن الفرز الفعلي حصل منذ سنة ونيف. هنا ينقسم أهل الحراك في معسكرين؛ “مجموعة إستطاعت أن تفاوض برغم الإختلاف لتوحيد الجهود (الإنضمام الى لوائح قوى المعارضة)، وأخرى آثرت خيار الإبتعاد”، كما يقول مارك ضو الناشط في مجموعة “تقدم” والمرشح في دائرة عاليه ضمن لائحة “توحدنا للتغيير”. يقول ضو لموقع 180 بوست إن “مجموعات الحراك لم تنقسم لأنها في الأساس غير موحدة”.

في الجهة المقابلة، يروي ناشط في إحدى مجموعات الحراك الأساسية سياق هذا الإفتراق: “هناك من بدأ يُعد العدة قبل أكثر من عام لكبح زخم التغيير الذي أنتجته إنتفاضة 17 تشرين، في إتجاه خلق واقع يسهل معه شق صفوف الحراك. فعقب تفجير 4 آب/أغسطس 2020 وإستقالة عدد من النواب، وعلى رأسهم رئيس حزب الكتائب سامي الجميل وإخراج أنفسهم من تصنيف “كلن يعني كلن”، بدأ التمهيد الفعلي لضمّهم إلى قوى التغيير تحت شعار “أوسع مروحة” لمواجهة السلطة، وتبدى مناخ في الإتجاه ذاته من أجل إخراج القوات اللبنانية من خانة فريق السلطة الحاكم”.

فغالي: للأوراق البيضاء قيمة انتخابية تعبّر عن رأي اصحابها، وهي غير الأوراق الملغاة بسبب أخطاء في عملية الاقتراع

تألفّت “جبهة المعارضة اللبنانية” بدعم مباشر من مجموعة “كلّنا إرادة”، في شتاء العام 2020، وضمّت بالإضافة إلى حزب الكتائب وحركة الاستقلال (ميشال معوض) كلاً من حزب تقدّم (مارك ضو) ولقاء تشرين (زياد عبد الصمد) وخط أحمر (وضّاح الصادق) بالإضافة إلى “عامية 17 تشرين” الذي ظل انتماؤها متذبذباً بسبب رفض أعضائها الانضمام، “فكان القرار من قبل بعض قياداتها بالعمل ضمن الجبهة من دون الإعلان الرسمي عن ذلك”، يقول الناشط الذي رفض ذكر إسمه من إحدى مجموعات الحراك.

الظهور الأول لهذه “الجبهة” أتى على ظهر إنتخابات نقابة المهندسين. “يومها قدّم سامي الجميل نفسه على أنه شريك أساسي في هذه الانتخابات. أتى تصريحه بعد المرحلة الاولى من الانتخابات مما خلق بلبلة كبيرة في صفوف مجموعات الثورة التي بدأت بالتشكيك ببعضها البعض”. بالتوازي، سعى حزب الكتلة الوطنية إلى إنشاء جبهة مقابلة تحت عنوان “نداء 13 نيسان” أراد من خلالها جمع المجوعات الرافضة للتحالف مع الكتائب، لكن نيّة الكتلة الدفينة كانت التحالف مع الكتائب تدريجياً. وبما أن خطتها لم تنجح، عملت الكتلة على عرقلة قيام “جبهة 13 نيسان”، وسحبت منها مجموعتي “منتشرين” و”تحالف وطني” لتشكيل ما سمّيَ بالمجموعات السبع (G7).

من ينظر إلى ما رسا عليه واقع اللوائح بعد إقفال باب تشكيلها منتصف ليل الاثنين 4 نيسان/أبريل الحالي، يمكنه أن يستنتج الآتي:

أولاً؛ وجود جميع مرشحي “جبهة المعارضة” وشركائهم على اللوائح: الكتلة الوطنية، تقدم، خط أحمر، عامية 17 تشرين.

ثانياً؛ خروج مجموعات أساسية من المعركة الانتخابية؛ أبرزها مجموعة “لحقّي” التي إنسحب مرشحوها كافة من السباق الإنتخابي، وهي مجموعة كان معوّلاً عليها أن تكون رأس حربة في إحدى أكبر دوائر لبنان الإنتخابية (الشوف – عاليه 13 مقعداً). هذا فضلاً عن إنسحاب مرشحي “لنا”؛ من بيروت الثانية وطرابلس، وإقتصار مشاركة “المرصد” على مرشّحين اثنين فقط بعد أن كان متوقعاً أن ترشّح أكثر من سبعة أشخاص في دوائر مختلفة، ومحاولة إقصاء “مدينتي” (بيروت مدينتي سابقاً) من الإنتخابات حتى اللحظة الأخيرة إلى أن قررت أخيراً خوضها بلائحتين منفردتين في كل من بيروت الأولى وبيروت الثانية.

زينة مهنا: الأساس هو الإتصال بالجماهير، والعمل على التنمية في المناطق، وإمتلاك المعرفة لتطبيق التغيير والمشاركة السياسية ووجود روح الفريق لا الفردية السائدة حالياً

ثالثاً؛ الدوائر التي لا يوجد تأثير فيها لـ”جبهة المعارضة” هي الدوائر التي خرجت بائتلافات تمثيلية مقبولة مثل البقاع الغربي ـ راشيا، بعلبك ـ الهرمل، صيدا ـ جزين، صور- الزهراني وعكار. اما “شمالنا” فشكل توازن الحد الادنى بين التغييرين والمعارضين.

إقرأ على موقع 180  أن تُناضل ضد الإمبريالية.. وتُشكِّل وعيك الثقافي!

رابعاً؛ ثمة إتهامات يوجهها ناشطون في المجموعات المستبعدة أو المنكفئة، إلى مجموعة “كلنا إرادة” بأنها “موّلت جبهة المعارضة لتنظيم الحفل الكبير الذي جرى في 12 آذار/مارس الماضي تحت عنوان “وحدتنا بداية التغيير” وذلك من أجل الترويج لشعار “صوت واحد.. لائحة واحدة”، كما موّلت ظهور مرشّحي المعارضة بكثافة في وسائل الإعلام دون سواهم، ولم يكن ذلك إلّا وسيلة لإقصاء كفاءات ومجموعات تمثيلية لم تقبل التحالف مع سامي الجميل وميشال معوّض”، على حد قول أحد الناشطين في مجموعة “لحقي”.

إزاء هذه المعطيات، يرقى أداء بعض المجموعات إلى مستوى الفضيحة بكل معنى الكلمة. ويزيد الطين بلة أداء مجموعات مثل “مواطنون ومواطنات” بقيادة شربل نحاس. أداء جعل أحد قادة المجموعات يُردد أن حزب الله ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ “قدّم 13 مرشحا للإنتخابات بينما قدّم نحاس 52 مرشحاً في جميع الدوائر”!

من كان يشارك في إجتماعات المجموعات منذ إندلاع شرارة الإنتفاضة الشعبية، يعرف تماماً غياب الرؤية الشاملة لإحداث التغيير. كان الصراخ يعلو ومعه تتسيد الأنا. لقد إختلفوا حتى على أسماء المرشحين الى الانتخابات ضمن المجموعة الواحدة.

في توصيفه لطبيعة هذا التنافر، يتحدث الناشط في “مدينتي” طارق عمار عن عامل جوهري “هو الإختلاف في توصيف طبيعة الأزمة، وطرح شعارات لا تلامس معاناة الناس فعلاً”. أما مارك ضو، فيرى أن الأساس “هو الإختلاف بين المقاربات والحلول، بين إعتماد مقاربات جذرية أو إصلاحية، تقديم الإقتصادي على السيادي أو العكس”.

  • طارق عمار: هناك من يطرح شعارات لا تلامس معاناة الناس
  • مارك ضو: مختلفون حول تقديم الإقتصادي على السياسي أو العكس

تكاد أطياف المجتمع المدني تتوافق على أن مسألة حزب الله هي أحد أوجه الأزمة في لبنان. لكن جنح الكثير منهم نحو إختزال الأزمة بوجود الحزب وسلاحه، وتغاضوا عن طبيعة النظام الطائفي، وعثراته الإقتصادية المتمادية منذ نشوء الكيان قبل مائة سنة. بينما أولويات الناس في مكان آخر، وفق ما يظهره إستطلاع كمال فغالي الإنتخابي الذي كشف عن تغيير جذري في إهتمامات الناخبين مقارنة بالفترات الإنتخابية الممتدة بين 1992- 2018.

وفق الإستطلاع، نحو 64 بالمئة من المستفتين تصدرت إهتماماتهم القضايا المعيشية (الصحة، التضخم، إنهيار قيمة العملة، الودائع المصرفية، الغذاء، الطاقة، أسعار النقل والمحروقات، التعليم..)، أما سلاح حزب الله فقد شكل مشكلة لدى 7.6 بالمئة من المستفتين”، يقول كمال فغالي (راجع جدول الدراسة المرفق).

بهذا المعنى، تعلق أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية في بيروت زينة مهنا على نظرية أن “النخب تصنع الثورات وتحدد الأولويات وتقود الجماهير” بالقول لموقع 180 بوست إن الأساس هو الإتصال بهذه الجماهير، والعمل على التنمية في المناطق، وإمتلاك المعرفة لتطبيق التغيير والمشاركة السياسية (political participation)، ووجود روح الفريق لا الفردية السائدة حالياً”.

بيد أن حسابات الحقل هذه لم تطابق حسابات البيدر. وما شهدناه عملياً على مدى عامين ونصف كان “أنا أو لا أحد” وتقدم نظرية “لا قائد.. أنا القائد” التي أدخلت الحراك في نفق الفوضى، والإستعاضة عن الإتصال بالناس بالحملات على وسائل التواصل الإجتماعي، أو بالتواجد في تحركات الشارع وعلى الشاشات، وطرح شعارات طليعية إنما غير ملحة (المثلية، النسوية، المساواة بين الرجال والنساء).

قد يقول قائل إن ما جرى ويجري مرسوم ومخطط له. بعيداً عن نظرية المؤامرة والإتهامات الجاهزة التي تطلقها أحزاب وقوى السلطة المتضررة من الحراك وناسه، يستعيد ناشطون في مجالسهم الخاصة بكثير من الريبة والشك، ما جرى منذ الأيام الأولى لإنتفاضة تشرين. هناك شيء كان جاهزاً، إما كان ينتظر لحظة الشرارة وإما ركب الموجة، يقولون. يتذكرون كيف رُكّبت الخيم بكامل تجهيزاتها في ساحات الحراك خلال أيام قليلة. كانت خطوة فوضوية بمعنى أنها لم تكن نتيجة قرار مركزي للثوار، لكنها منظمة بوجودها وبإمكاناتها. يومها كثر الحديث عن الثورات الملونة وتكتيكات العمل اللاعنفي (المعروفة بـ 198 of non-violent action) وهي أساليب جاهزة تستخدم في التحركات حول العالم وشهدنا تطبيقات لها على الأرض (بيانات رسمية، خطابات إعتراض، إعلانات، شعارات ورسوم كاريكاتورية، الصحف والمجلات، عرض الأعلام والرموز، إحتجاجات الطرقات، تدمير الممتلكات الخاصة، مطاردة المسؤولين والإستهزاء بهم إلخ..). اليوم يتحدث هؤلاء الناشطون عن عمليات تحجيم يتعرض لها من لا يمتلك إمكانات مالية ولا ينضوي في “اللوبي” المتصدر اللوائح الى جانب قوى “المعارضة المقنَّعة”.

ومع إنشغال كل المجموعات بالإستحقاق الإنتخابي إنخراطاً أو إنكفاءاً ثمة من يسأل؛ لماذا يغيب الناس عن الساحات في أصعب الأوقات؟ لماذا يعمد الفقير الى العنف لتأمين دوائه أو حليب أطفاله؟ لماذا يصبح خارجاً عن القانون بسرقته أسلاك الكهرباء وأغطية الصرف الصحي لتأمين قوته؟ ربما هذا يفسر الطلاق بين الجماهير في أرياف لبنان ومدنه وبين من تصدروا منابر لحظة الثورة التي إنفجرت أملاً وإنتهت خيبة بلا حدود.

ماذا بعد 15 أيار/مايو؟

المسار الديموقراطي الفعلي “ما زال طويلاً”، كما تقول د. زينة مهنا. “يحتاج إلى تربية في المدراس. ممارسة في البيوت. بناء المواطنة ومؤسسات الدولة التي يتساوى فيها الجميع تحت القانون، وبناء قدرات العمل الجماعي. إعتماد الإيثار Altruism، أي حب الغير، وإرادة الخير، وتفضيله على النفس”. فهل من يسمع؟

هل نذهب إلى صناديق الإقتراع ونصوّت للائحة معينة أم بورقة بيضاء أم نقاطع الإنتخابات؟

يطرح كثيرون السؤال على أنفسهم. يجيب الخبير الإنتخابي كمال فغالي بالقول إن آلية احتساب نتائج الإنتخابات النيابية 2018 “تكشف خطأ فادحاً يدلّ على اخفاق القيّمين على العملية الانتخابية في استيعاب الصيغة النسبية وغايتها، لا سيما في احتساب الأوراق البيضاء والتصويت للوائح دون صوت تفضيلي للمرشحين”. ويشير إلى أنه للأوراق البيضاء قيمة انتخابية تعبّر عن رأي اصحابها، وهي غير الأوراق الملغاة بسبب أخطاء في عملية الاقتراع، وقد تطلّب إلزام احترام الأوراق البيضاء سعياً حثيثاً في أكثر من دولة، منها سويسرا التي بدأت باحتسابها عام 2003 بينما لم تأخذ بها فرنسا إلا عام 2014.

(*) الجداول التي تضمنها التقرير هي جزء من دراسة أجراها كمال فغالي في كانون الثاني/يناير 2022.

 

Print Friendly, PDF & Email
جمانة بعلبكي

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عقوبات واشنطن بحق حسن مقلد.. أبعد من الشخص نفسه