النجدة يا سماحة السيد!

لا يسعني إلا أن أبتسم على ثلاثيني وأنا أكتب هذه السطور الغاضبة عن حزب الله في مكتب ترفع فيه صورة عماد مغنية خلف صورة السيد محمد حسين فضل الله.

اقتبست عن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خمسين ثانية من خطاب يشرح فيه انفتاحه على نقاش من يريد مناقشة قضية سلاح الحزب، وذيّلت ذلك الاقتباس في التغريدة إياها ان “حركة مواطنون ومواطنات” (بقيادة شربل نحاس) تطرح الفكرة نفسها ولكن بعض جمهور الحزب يُخوّنها. قلت أيضاً إن المشكلة ان من يدّعون انهم جمهور المقاومة يبدو انهم لا يسمعون القائد واذا سمعوا لا يفقهون واذا فهموا لا يترجمون.

***

منذ عقد من الزمن، جلست انا العشرينية في مكتب حزبي في مركز الحزب السوري القومي الإجتماعي في الروشة، فتحت حاسوبي وكتبت مقالة غاضبة نشرت في ملحق “شباب السفير”: “حزبي وحزب أبي وإرث المرارة”. كانت مقالة اعتراضية على سياسات الحزب القومي كلّفتني إقالة من مسؤولية ثم فصلاً حزبياً.. مشكوراً!

اليوم، أنا لست حزبية ولن أعود يوماً إلى “هناك”. أنا حرة وأفتخر بتجربتي وبماضي أهلي الحزبي، لكن ثمة من يُصر على إحالة كل ما أكتب واُعبّر عنه إستناداً إلى “الهوية القومية”.

ذلك النص حرّرني، في عشرينيتي، من حزبيتي. هذا النص أتمنى أن يُحرّرني، في ثلاثينيتي، من صمت دام طويلاً، ومن اعتراض خبّأته وصرت أشعر معه أن إستمرار الصمت خيانة.

إن الذي حرّكني لأكتب عن حزبي وحزب أبي وإرث المرارة هو نفسه محركي اليوم: حرص على القيم والمبادئ لا الأفراد. حرص على السبب الأساس الذي يجعل واحدة مثلي تختار مواجهة العالم حتى الشهادة؛ لأجل قضية تؤمن بها.

هذا النص ليس عن الحزب القومي الذي لم يعد يعنيني بمعناه الحزبي الضيق بل يعنيني بناسه ومفكريه وشهدائه أبداً وما حييت. هذا النص للحديث عن حزبي الأكبر، وحزب أبي الأكبر، المقاومة الوطنية الكبرى، وإرث المرارة الذي لا أريد أن أورّثه لأبنائي مستقبلاً.

***

سأحدثكم اليوم عن حزب من ثبتوا فينا قوة أن نبقى هنا على هذه الأرض. حملوا رايات صفر مع العلم اللبناني فعبروا بها إلى قلوب كل العرب والمسلمين. كانوا على الجبهات هناك مجد من الله، وسمّوا أنفسهم حزب الله. معهم هم فقط قبلنا أن يصبح لله حزب من هذا الطراز. من هؤلاء الرجال وهذا القائد.

نحن جيل صنع التحرير كما انتصار 2006 ثقة عالية في نفوسنا. إرتفعت قاماتنا نحو السماء. عُدنا إلى الحياة بعدما أماتت هزائم جيل الآباء كل أمل فينا. أنا أتكلم عن حزب يعنيني، فهو كان حزبي وحزب أبي وأمي وحزب شجرتي وترابي ودمي وناسي، حين أعاد للإنسان وللبنان الإعتبار. كان حزبي حين اخترت أن أنزل من قريتي وأعيش في الضاحية الجنوبية وأختار الجامعة اللبنانية (الحدث) من بين كل جامعات لبنان. كان حزبي حين سِرتُ مع السائرين على أوتوستراد السيد هادي يومياً من عام 2006 إلى عام 2008 أستمع إلى كل خطاب في كل مناسبة أو حفل سياسي وعاشورائي. كان حزبي حين نهلت الكتب العقائدية لأفهم صلابة هؤلاء الناس الذين هم أهلي وبلادي وفخري. كان حزبي حين نزلت بالكاميرا والقلم إلى ميادينه في كل مكان.

أما الآن، فلي الحق بقول الآتي: لا يحق لأحد أن يقولبنا كما يشتهي ويرتأي. فإما أن تكون معه أو ضده. لا يحق لأحد أن يسلب منا ما زرعه في نفوسنا أولئك الشهداء من خيرة شباب بلادي.

لي الحق أن أستمع إلى أغنية أو أختلف معك في السياسة، ولك أن تحترم خياراتي كما أحترم خياراتك.

***

أكتب عن حزب الله لأنني فعلاً أخاف؛ أخاف على الحزب وأخاف منه وأخاف من كرهي المتزايد لما يتبدى من ممارسات بعض الحزبيين؛ أخاف أن يصبح حزب الملّة؛ أن يصبح حزب الفئة؛ أن يصبح حزب الإستعلاء؛

مهما علت أصوات هاشتاغات المغردين، وحملات المعترضين وجماعات التخوين، ومهما قلتُ في هذا النص أو في سواه لاحقاً.. وبرغم إقدام مجهولين معلومين على منع الزميل عماد مرمل من استضافتي في “المنار” لأتكلم عن فلسطين، سيبقى هناك جزء من الرأي العام، كلما نطقت يراني “غدي الممانعجية”!

ولعلّ عزاء كل “مثير للجدل” دوماً في عدم إجماع المختلفين سواء على حبه أم في كرهه. ربما لأنه أكثر حريّة ممن يأمنون ألسنة الناس. أنا لست من الصنف الذي يطمح بأن يرضى أحدٌ عنه في يوم ما.

وبعيداً عن “الراجمات الحزبيات ـ الحملات” التي ستنهال عليَّ بعد نشر هذه المقالة، قررت أن أكتب اليوم لأنني أكره الشعور بالخوف. أكره أن يشعر أحد بأنه قادر على إسكاتي. أنهزم وينهزم معي عقلي ونفسي وكياني إذا لم أمارس فعل الحريّة.. فإذا كان ثمن التعبير عن انتقاد سلوك حزبي ما هو مدعاة تخوين، فلا مشكلة عندي بعد الآن، أهلاً وسهلاً بالتخوين.

***

أستدرك لأقول الآتي:

أكتب عن حزب الله لأنني فعلاً أخاف؛

أخاف على الحزب وأخاف منه وأخاف من كرهي المتزايد لما يتبدى من ممارسات بعض الحزبيين؛

أخاف أن يصبح حزب الملّة؛

أن يصبح حزب الفئة؛

أن يصبح حزب الإستعلاء؛

أن تودي الحزبية الفئوية الضيقة برمز عزتنا.. وكيف؟ بشحطة قلم؛

أخاف من صمتي.. ودائماً على قاعدة ترتيب الأولويات؛

أخاف أن يستدعيني “المطاوع” إن حكيت ليذكرني بـ”الأعداء”. هؤلاء سيستفيدون من كلماتك يا غدي في موسم كذا وكذا.. وحتماً كل أيامنا هي “مواسم محظورة” عند “المطاوعين الجدد”!

نعم، أخاف من صمت هنا لأجل الوحدة الوطنية، وهناك للوحدة الشيعية، وللحفاظ على الحليف، ولمراعاة الحليف الرديف أو حليف الحليف. مراعاة وصلت إلى يوم توضع فيه راية نصر الحرب الوجودية نفسها على طاولة أمراء الحروب الطائفية تحت عنوان “هؤلاء حكموك يا لبنان”.. مراعاة وصمت وصمت وخوف وأولويات غيّرت هوية حزبنا الكبير. غيّرت مساحة المحرمات، وأدلجتنا على القبول بكل ما يأتي من فوق. وظيفتنا هي الصمت والولاء والجهوزية التعبوية. وماذا عن حرية أن نفكر بصوت عال؟ أن ننتقد؟ أن نقول لا؟ أن نعترض ونطرح الفكرة البديلة؟

إقرأ على موقع 180  الإنتخابات النيابية الأردنية.. بريدُ رسائل أم تطبيبُ جِراح؟

أخاف.. بل إن أكثر ما أخاف منه، هو أنني بتعابيري هذه الآن، أثير شماتة عدو لعين، أو فرحة خصم شرير، يتربّص بنا منذ عقود: “قلت لكم، إنهم مثل كل حركات المقاومة، يأفل نجمهم حين يبلغون السلطة. بماذا يختلفون عن بعضهم البعض. خذوا نموذج منظمة التحرير مثلاً”؟

من واجبنا أن نُعبّر. أن نُفكر في ظل حفلة الجنون التي تستهلك بلادنا.. إلى حد ضياع الهوية.

أعزي نفسي كما هي حال كثيرين غيري، بعد كل حملة خسيسة نتنة، أن هذه ليست التجربة الحزبية التي عرفناها وتأملنا بها. هؤلاء هم أفراد.. ولكن؛

النجدة يا سماحة السيد، النجدة ممن يحسبون أنفسهم عليك. من الصف الثاني إلى الصف العاشر، ويريدون أن يجتثوا كل ما بنيته فينا منذ 16 عاما.

النجدة يا سيد، من الإعلام الذي فقد خطابه الوطني واستفحلت فيه الفئوية.

لا أعرف اذا كان الكلام هنا ينفع، واذا كان عوضاً من ان نقول “النجدة يا سيد” بات علينا ان نقول: “الله يعينك يا سيد”.

***

نحسب أنفسنا أقوياء، لا تهزنا كلمات المعلقين. نحسب أنفسنا أحراراً، حتى تصل اللحظة الفاصلة. اللحظة التي نرغب فيها أن نُعبّر. وقبل أن يسيل حبر العقل، وقبل التعبير، تمر في البال صورة مثل قراءة المستقبل. سأصبح اليوم عميلة، متآمرة، ستطلق عليّ تهمة “الإقامة الذهبية”، وسوف أتلقى كيلاً من الشتائم من كل العيارات والأصناف، وأحدهم سيعلّق على تسريحة شعري، واحدهم سيهين أصلي وفصلي، وآخر سيسخر من مكان عملي أو شكلي أو يدي او رجلي. كل شيء عرضة للهجوم حين نُعبّر. كل ما في نفوسنا وعقولنا وأجسادنا وكينونتنا عرضة للهتك. لكنهم “مجرد جمهور وهمي”، فلماذا نقيم لهم حساباً؟ حملاتهم هي جزء لا يتجزّأ من ضريبة التعاطي في الشأن العام. هل نبالي؟

نحن لا نعتبر المقاومة فريقا خاصا محتكراً لشخص أو لمذهب أو لحزب. إنه فعل حياة على هذه الأرض، فعل فكر في المجتمع، فعل زرع وحصاد. لا يمكن أن يجبرونا أن نتخلى عنها. لا يمكن أن يخطفوها منا بمجرد أن صوتهم أعلى، وأن الكراهية والتخوين أسهل

تعدى الأمر الدفاع عن الحرية الشخصية. إنه اليوم خطر ينهشنا. خطر أصاب عقولنا بالتصحّر، فما رأينا انتاجا أو ابداعا قانونيا أو اقتصاديا أو سياسيا أو إجتماعيا أو اعلاميا لمواجهة هذا التنين الإفتراضي. ترانا نواجه أفراداً.. وكلّ منا يحمل صليبه ونصيبه من الجلد والهتك. من تفاعل مع 17 تشرين يُهتَك، ومن يريد العلمانية يُهتَك، ومن ينتقد التحالف مع أمل يُهتَك، ومن ينتقد التحالف مع التيار الحر يُهتَك، ومن يتضامن مع ضحايا إنفجار العصر في مرفأ بيروت يُهتك، ومن يعترض على تسمية مرشح في الإنتخابات أو تحالفات يُهتك. إنه موسم الهتك بكل معنى الكلمة.

ممنوع عليك أن تعلّق حتى على الموازنة، أو تُحمّل الحكومة مسؤوليتها. عليك أن تستثني وزراء “المحور”، وإلا بذلك سيطلق عليك حكم مبرم من القاضي الإلكتروني العظيم، وتبدأ حملات قياس منسوب الوطنية في دمك صبحاً وظهراً ومساءً.

بصراحة؛ لقد سئمت من القول بأن ما يجري هو محض سلوك أفراد ولا يُعبر بأي حال من الأحوال عن موقف هذا الحزب أو ذاك. تذهب إلى جبران باسيل، فيقول لك إنني لست مسؤولاً عن ناجي حايك. تذهب إلى محمد رعد، فلا تجد فيه شيئاً واحداً يشبه سامي خضرة. جيد. من يضبط هذه الفوضى في القواعد والخطاب والمنابر؟ من الذي يعبئ العقول ويراكم عند الجمهور؟

***

منذ أكثر من ثلاثة أشهر، كتب صحافي عبارة “أقليات مضمحلة”. فرددت على الفكرة لا على الشخص، ونشرت صورة بالصليب فيها بعض من التهكّم الموجّه، قلت “كلما قالوا أقلية.. أُكبّر صليبي”، وذلك طبعاً للدلالة على الحقيقة المثبتة علمياً وتاريخياً وبيولوجياً وسياسياً ان تعزيز شعور الأقلية يرفع منسوب التعصّب والتقوقع والتمسّك بالإختلاف لأنه بذلك يكون دفاعاً عن وجود وجماعات لا عن مجتمعات.

ماذا كان الرد؟ رد الصحافي بحملة شخصية مهينة له قبل أن تكون مهينة لي، فيها بعض من الإتهام بأنني قواتية، وأيضاً بأنني حائزة على إقامة ذهبية في الإمارات. قلت كلمة في شأن عام، فكالوا لي مضبطة إتهام بالخاص. قلت “معليش”. من المعارضة البحرينية إلى الكلام المفتوح عن السعودية، إلى مناصرة اليمن. من منهم قدّم ما قدمت، فليمنَّ عليّ بتهمة أو كلمة سواء.

خطر الصمت هذا، يجرنا إلى التقيّة السياسيّة. إلى التخويف من الرجم والجلد والهتك.

وفائض القوة المعنوية يشوّه طهر السلاح. وتغطية البازارات السياسية والقبول بها، يغير وظيفة المقاومة.

نحن لا نعتبر المقاومة فريقا خاصا محتكراً لشخص أو لمذهب أو لحزب. إنه فعل حياة على هذه الأرض، فعل فكر في المجتمع، فعل زرع وحصاد. لا يمكن أن يجبرونا أن نتخلى عنها. لا يمكن أن يخطفوها منا بمجرد أن صوتهم أعلى، وأن الكراهية والتخوين أسهل.

لولا الحرية لما كانت الشعوب حية؛

لولا الحرية لما اعتنقنا فلسطين والمقاومة والقضايا والسياسة أصلاً، بل كنا بقينا في عباءات قبلية فئوية رجعية.

سامحنا يا سيد على صراحتنا معك..

Print Friendly, PDF & Email
غدي فرنسيس

صحافية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الإنتخابات النيابية الأردنية.. بريدُ رسائل أم تطبيبُ جِراح؟