“من شارع الهرم إلى..” تبرئة الخليج العربي!

يأخذنا مسلسل "من شارع الهرم إلى..." عبر إخراجه البديع ونصه الذي يحاكي هموم عصرنا، وأداء ممثليه العذب إلى نزهة في نفوسنا، غير أنه يغض الطرف عن مناقشة إشكالية الشعوب من منطلق عروبي، كما أنه ينتقد طريقة التدين الحالية، وهو أمر يثلج صدور التقدميين، لكن السؤال الأهم، ما هي طريقة التدين الجديدة التي ستملأ الفراغ، وعلى أي مشروع سياسي ستقوم؟

“من شارع الهرم إلى…” مسلسل من إنتاج قناة MBC السعودية، وغالبية ممثليه من الكويت؛ الدولة التي نشأنا على دعمها للثقافة والفكر والتي كانت المراح الثقافي لمشروع جمال عبد الناصر رحمه الله في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما شاركت في التمثيل النجمة السورية روعة السعدي، إضافة إلى الممثلة المصرية المقيمة في الكويت نور الغندور. أما المخرج السوري المثنى صبح، تلميذ المخرج السوري حاتم علي رحمه الله، فلم يخذل أشواقنا في هذا الرمضان، ونحن نستشعر غياب حاتم علي للسنة الثانية على التوالي، فقد قدّم لنا من خلال هذا المسلسل وجبة انسانية اجتماعية عالية – وهذا حال الحس العالي في الدراما السورية التي نشأنا عليها وتعلمنا منها الكثير، فناً وتاريخاً وثقافة. هذه وغيرها لا تحول دون مقاربة نقدية لهذا العمل الدرامي.

***

ثمة “سلبيات سورية”، لا يمكن لعاقل إنكارها، لعلها تضاعفت مع أزمة اللجوء التي كان السوريون فيها ضحايا حقيقيين وليسوا مجرمين. وإذ أشار المسلسل إلى تلك السلبيات، فإنه نسي أو تناسى أن يذكر أسباب الأزمة السورية وظلالها القاسية، والثمن الذي دفعه الشعب السوري لأجل حرب ما كان سيقطف ثمارها عربيٌ واحد، حتى أولئك الذين كانوا فاعلين فيها من عرب الخليج.

كذلك ثمة سلبيات خليجية نشأت وترسخت في الخمسين سنة الأخيرة بسبب طفرة النفط، وتنامي الفكر الاستهلاكي هناك، وهذا ما أشار إليه المسلسل بالنقد بشكل أو بآخر. ليس خافياً أن كل شعب لديه خصاله السلبية والإيجابية، ويمكن تناولها بطريقة راقية.

للأسف؛ “من شارع الهرم إلى…” قدّم شخوصاً ومشاكل منزوعة الجذور. والسؤال هل يمكن لقناة MBC في قادم الأيام أن تقدم لنا عملاً درامياً متكاملاً يبحث في جذور الأزمة السورية؟ وهل ستدفع قرشاً واحداً لعمل يتحدث عن الأزمة السورية، ويروي قصتها للشعوب العربية بتجرد وأمانة؟

لنأخذ نموذج الأديب الأردني تيسير السبول. في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات الماضية، كتب السبول روايته “أنت منذ اليوم”، وقد شرّح فيها، وهو شرق أردني، المخيم الفلسطيني إلى جانب الواقع السياسي الأردني، وذكر سلبية حقيقية أفرزها اللجوء، وهي استخدام لاجئ فلسطيني وزوجته ابنتهما كي تقيم علاقة مع شاب يسكن في غرفة إضافية في بيتهم، طمعاً في أن يستمر الشاب في استئجار البيت وأن يمنحهم مالاً إضافياً.

 في حينه، لم ينتقد أحد السبول، ولا اتهمه بأنه شرق أردني يشوّه سمعة الفلسطينيين، لسببين، الأول؛ أن السبول ناقش القضية من منطلق قومي عروبي، بل إن كل سطر في الرواية كان ينضح بالهم الحقيقي المتمثل في نهضة العرب. والسبول أديب مشهود له بوطنيته وعروبته، فما كان لفلسطيني في الأردن أن يعتقد أنه أقرب لفلسطين منه، والسبب الثاني، أن السبول ناقش القضية، لا ليبرئ شعباً على حساب شعب آخر، بل ليؤشر إلى الاحتلال، ويدعو الناس لتغيير أنفسهم أولاً والنهضة بها، فكانت روايته أيقونة أردنية يحترمها الفلسطيني قبل الأردني.

لنسأل أنفسنا، ونحن نتابع “من شارع الهرم إلى…” هل غلّب هذا المسلسل المصلحة العربية؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أولاً أن نُجيب على سؤال مهم، وهو أننا رأينا الشابة السورية “غزوة”، وللاسم دلالته الكبيرة في العمل، وقد تمكنت من خطف زوج كويتي من أسرته، وهذا الزوج متدين بطريقة لا تحترم المرأة، وهو أسلوب تدين شاع بين الشعوب العربية في الأربعين سنة الماضية، لكننا لم نرَ الأزمة السورية، وكأن “غزوة” واللاجئين سقطوا من السماء بسبب حرب ما، وكأنه لم تكن هنالك مساع لسلبهم وطنهم، عبر استخدام الدين المتطرف – الذي يحاربه المسلسل اليوم – ضد النظام السوري!

للأسف؛ “من شارع الهرم إلى…” قدّم شخوصاً ومشاكل منزوعة الجذور. والسؤال هل يمكن لقناة MBC في قادم الأيام أن تقدم لنا عملاً درامياً متكاملاً يبحث في جذور الأزمة السورية؟ وهل ستدفع قرشاً واحداً لعمل يتحدث عن الأزمة السورية، ويروي قصتها للشعوب العربية بتجرد وأمانة؟

***

من أبرز الأفكار التي تطرق إليها “من شارع الهرم إلى…” طريقة التدين الحالية. من أين جاءت؟

كان رجال الدين، قبل طفرة النفط في بلادنا، رجالاً ودودين بمعظمهم، وكانوا هم الأقرب للناس والمظلومين، وكانوا بفعل إدراكهم للقواعد العقلية والمنطقية في الفقه، أكثر ميلاً إلى العدل.

ألم يسأل الناس أنفسهم، كيف انتقلنا من دين يقول فيه النبي الكريم “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” ويقول فيه النبي الكريم أيضا “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبَّ لنفسه”، إلى دين، يجعل الأولوية في معاداة أنوثة المرأة، بدلا من التقوى، إلى دين يعدك بقصر في الجنة إذا انت رددت “سبحان الله” أو غيرها من العبارات الدينية ألف مرة، وكأن ثمة إرادة بأن ننتقل من دين الروح إلى دين المادة.. ألم يسأل الناس أنفسهم، متى بدأ الناس يبررون أذى الآخرين بالقاعدة الفقهية “الضرورات تبيح المحظورات”؟

إقرأ على موقع 180  ما تحتاجه نُخبُ المنطقة.. وتحدي البنى السياسية والتنمية

لقد وقعنا ضحية تدين رأسمالي، قريب من المادة وبعيد عن الروح، منذ طفرة النفط وسيطرة الفكر الليبرالي ثم النيوليبرالي على منطق دول وشعوب كثيرة بينها دولنا العربية.

يعتقد الناس أن الدين واحد، والحقيقة، أن الفكر الديني يتغير ويتقلب وفق المشاريع السياسية المتغيرة، فالدين المادي الذي يرى المرأة عورة ومجرمة بأنوثتها ويبيح تعدد الزوجات ويولي أهمية للعبادات على حساب الروح، إنما هو شكل تدين استهلاكي، لا يشبه شكل التدين الذي اتبعه الآباء أو الذي اتبعه الناس في عصور نهضتنا.. وإن انقلاب دول الخليج اليوم على شكل التدين هذا، الذي تم استخدامه سيفاً ضد سوريا عبر الجماعات الدينية المتطرفة، وقبل ذلك استُخدم سيفاً ضد الاتحاد السوفييتي السابق، يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة، حول المشروع السياسي القادم الذي سيقوم عليه شكل التدين الجديد.

***

هل هو التدين الابراهيمي؟

يجب ألا ننجرف خلف الحماسة ونحن نرى أبطال العمل الدرامي يعرّون شكل التدين الذي رفضناه طويلاً، إذ أن أي شكل تدين أو اعتقاد ما لا بد وأن يقوم على مشروع سياسي.

قام الفكر الديني المتحضر في زمن الرئيس المصري جمال عبد الناصر رحمه الله، على مشروع تحرر وطني، أساسه القومية العربية، جاعلاً من الاشتراكية إجابة على أسئلة الاقتصاد عبر تأميم مؤسسات الدولة الحيوية، الأمر الذي استدعى التخفيف من مظاهر التدين لصالح تحرر الأفراد في إطار وحدة الشعب.

حينذاك ونتيجة تحالفها مع الولايات المتحدة، اتخذت دول الخليج العربي من التدين الرافض للحرية الفردية والداعي لقمع المرأة جسدياً عبر الحجاب، وسيلة لتكفير القوميين والشيوعيين، ما أدى إلى إنتاج شكل التدين الذي يحاربه اليوم مسلسل “من شارع الهرم إلى ….”. وهذا يطرح تساؤلاً حقيقياً حول الهدف من الانقلاب على شكل التدين الذي أفرزته أنظمة عربية أبرزها دول الخليج نتيجة تحالفها مع الولايات المتحدة طوال ما يزيد على الستين عاماً.

هذا التساؤل يطرح إجابتين:

الأولى؛ أن يكون الخليج العربي في مرحلة التمهيد للدين الابراهيمي الذي ينسجم مع اتفاقات ابراهيم التي وقعتها الامارات و”إسرائيل” عام 2020، وهذا يستدعي إزالة الحواجز الشكلية (الحجاب وغيرها) بين أبناء الديانات الثلاث للوصول إلى شكل تدين مشترك.

وفي حال كان هذا هو الهدف، فلا بد أن يكون مرفوضاً تماماً، لأن التسامح الديني هنا سيكون كلمة حق يراد بها “ذُل”.

الثانية؛ بما أننا أمام عالم متعدد الأقطاب، فلا بد أن شكل التدين القائم على التناسق مع الفكر الليبرالي والنيوليبرالي بات منتهي الصلاحية، وإن مشروع العالم متعدد الأقطاب، يدفع بإتجاه أن يسعى كل شعب إلى تشكيل ثقافته استناداً إلى تاريخه وخصوصيته.

وفي حال كان هذا الهدف، فلا بد أن تسبقه مواجهة حقيقية للذات، ومنشأ التدين السابق ومحاكمته أولاً.. وهذا ما لم نره في المسلسل، بل رأيناه وكأنه يبرئ العرب من الفكر الديني الذي نشأ للأسف جراء تحالف دول عربية مع أميركا في مواجهة الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة، أما الشعوب العربية مجتمعة فقد كانت بريئة من انتاج شكل التدين هذا، الذي لم ينشأ بصورة طبيعية في كنفها، بل إنها كانت ضحيته.

Print Friendly, PDF & Email
رانية الجعبري

صحافية وقاصة من الأردن

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  داعش يهدد "القاعدة" والرعاة الاقليميين لـ "الاخوان" .. ولكن!