الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الاتفاق بـ”التاريخي” و”غير المسبوق”، في إشارة إلى عدم قدرة الإدارات الأميركية السابقة على التوصل إلى اتفاق مماثل مع الصين، يجعل ميزان التبادل التجاري في صالح الولايات المتحدة، كما ينص الاتفاق المرحلي الموقع مؤخراً.
تكمن أهمية الاتفاق، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في أن الصين ستستورد منتجات زراعية أميركية بقيمة 200 مليار دولار خلال العامين المقبلين، تضاف إلى 187 مليار دولار سجلتها مشتريات الصين من الولايات المتحدة عام 2017، بالإضافة إلى توسيع الشركات الصينية لاستيرادها مختلف البضائع والسلع والخدمات الأميركية بحوالي 140 مليار دولار، وفقاً لمقتضيات السوق واحتياجاته.
كما يتضمن الاتفاق تعهد الصين باستيراد حصة كبيرة من الغاز والنفط الأميركيين تقدر بنحو 55 مليار دولار أميركي، وذلك في مقابل رفع تدريجي للعقوبات والرسوم والجمارك الأميركية التي فُرضت عليها خلال العامين الماضيين للإرغامها على الذهاب إلى مفاوضات بين أكبر اقتصاد مُصنع وبين أكبر اقتصاد استهلاكي في العالم.
وكانت إدارة ترامب بدأت في فرض إجراءات اقتصادية تصعيدية تراوحت بين زيادة الرسوم الجمركية والعقوبات على البضائع والخدمات الصينية منذ آذار/مارس عام 2018، وقد ردت عليها الصين بحظر استيراد منتجات وبضائع أميركية، وبخاصة المنتجات الزراعية، ما أدى إلى تعطيل تداول ما قيمته حوالي 650 مليار دولار أميركي من البضائع والسلع والخدمات بين البلدين، وتضرر عشرات الشركات الكبرى في مختلف المجالات جراء هذه الحرب الاقتصادية، التي كان لها أثر في إبطاء النمو الاقتصادي لكل من واشنطن وبكين، في ظل تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، ووسط تحذيرات من احتمال الدخول في موجة جديدة من الكساد ابتداءاً من العام الحالي.
نصف خطوة لتهدئة مؤقته
الدواعي والأسباب الاقتصادية للتصعيد والتهدئة بين البلدين خلال العامين الماضيين وحتى توقيع الاتفاق المرحلي قبل أيام، عديدة ومتشابكة، أبرزها ميل الميزان التجاري لصالح الصين بحوالي 380 مليار دولار، بجانب حركة انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات الأميركية إلى هناك، حيث العمالة الرخيصة والمحفزات الاقتصادية التي تجعل معظم المنتجات الأميركية فائقة الدقة والتصنيع تخرج من مصانع مقامة في الصين.
يضاف إلى ما سبق اعتماد الصين على السوق الأميركية لتصريف بضائعها بشكل رئيسي حيث معدلات الاستهلاك الأعلى على مستوى العالم، ما اعتبر بمثابة ميزة فارقة جعلت للولايات المتحدة اليد العليا في الحرب الاقتصادية، لكون الصين لا تتمتع بسوق استهلاكية داخلية توازن أو حتى تقترب من السوق الأميركية.
ما سبق جعل عنصر المبادرة من نصيب واشنطن وجعل بكين في خانة رد الفعل، إلا أن ذلك يأتي أيضاً كانعكاس للانقسام الداخلي الأميركي بمستوياته الاقتصادية والسياسية في مجابهة سياسات دونالد ترامب المختلفة، ولا سيما الاقتصادية منها، وعلى رأسها ما يتعلق بالصين، فاعتراضات وتحفظات قطاعات سياسية واقتصادية أميركية على السياسات الاقتصادية للرئيس الاميركي لا تنبع فقط من أنها تلحق الضرر بالاقتصاد الأميركي مثلما تضر الاقتصادي الصيني، ولكنها تأتي أيضاً من مناخ المنافسة بين القطاعات الاقتصادية الأميركية، وتحديداً قطاع الاقتصاد التقني والرقمي المعتمد على التصنيع في الصين -مثل شركة “أبل”- كونه القطاع الأكثر نمواً في السنوات الأخيرة على حساب قطاع الزراعة الذي يمثل العاملون فيه القلب الصلب لناخبي ترامب، وارتباط نمو وانكماش نشاط أي منهما مرتبط بشكل أساسي بالاقتصاد المالي المهيمن على الاقتصاد الأميركي والعالمي حالياً.
عوّلت الصين على استغلال الخلاف الداخلي الأميركي وتطوراته السياسية والاقتصادية كسقف لتصعيد ترامب ضدها خلال العامين الماضيين
انطلاقاً من ذلك، عوّلت الصين في ردود أفعالها على استغلال هذا الخلاف الداخلي الأميركي وتطوراته السياسية والاقتصادية كسقف لتصعيد ترامب ضدها خلال العامين الماضيين، ومن ثم استيعابه ضمن استراتيجيتها في تقليص الخسائر والتحكم بها، كبديل عن تصعيد الحرب الاقتصادية التي لا يوجد فيها رابح على المدى المنظور، لا سيما أن هذا المنط من الحروب لا يسمح لأي من أطرافه أن يلحق الضرر بالآخر من دون الإضرار بنفسه في الوقت ذاته.
من هنا تنظر الصين إلى الاتفاق التجاري بأنه محدود الصلاحية ومداه الزمني قصير لاعتبارات داخلية أميركية في الأساس لا تتوقف عند تنفيذ الجانب الأميركي لموجباته، والمتمثلة في رفع الإجراءات العقابيةو الجمركية التي فرضت على ما قيمته نحو 400 مليار دولار من البضائع الصينية على مدار العامين الماضيين، ولكن تمتد إلى ما سيفضي إليه الاستقطاب الداخلي الأميركي، الذي بلغ ذروته بمحاكمة عزل ترامب.
الاستقطاب الداخلي والأبعاد الانتخابية للاتفاق
على النقيض من نظر الصينيين إلى الاتفاق الأخير على أنه محدود الأثر والنطاق، وهو ما تمثل في غياب الرئيس الصيني تشي جينبينغ، عن مراسم التوقيع، فإن ترحيب الرئيس الأميركي واحتفاءه الكبير بالاتفاق ووصفه بالتاريخي على منبر اتحاد المزارعين الأميركيين، يشي بأبعاد سياسية انتخابية خلف التوقيت والشكل، وذلك مع بدء إجراءات عزل ترامب قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية.
ما سبق جعل الإدارة الأميركية مرهونة بسقف زمني في تصعيدها ضد بكين، منبعه بالأساس ضرورة التوصل إلى اتفاق قبيل الانتخابات الرئاسية، لتخفيف وطأة رد الفعل الصيني على قطاع الزراعة الأميركي الذي تضرر من الحرب الاقتصادية بشكل بالغ، وبالتالي فإن اتفاقاً “واعداً”، وبهذا الحجم الذي يبلغ 200 مليار دولار في القطاع الزراعي، يشكل عامل جذب وضماناً لأصوات المزارعين الأميركيين الذين تشكل ولاياتهم الجانب الأكبر من قاعدة ترامب والحزب الجمهوري الانتخابية.
الاتفاق عامل جذب لأصوات المزارعين الأميركيين الذين تشكل ولاياتهم الجانب الأكبر من قاعدة ترامب الانتخابية
على الجهة المقابلة، فإن الديموقراطيين وعلى رأسهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، رأوا أن لا ضمانات على التزام الصين بتنفيذ تعهداتها في الاتفاق الأخير؛ اذ أشار بيان أصدرته بيلوسي ووقع عليه أعضاء مجلس النواب من الحزب الديموقراطي أن استراتيجية ترامب تجاه الصين ألحقت ضرراً بالغاً بمختلف القطاعات الاقتصادية الأميركية وخاصة قطاع الزراعة على المدى الطويل.
وتبع ذلك خطاب مفتوح من زعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، وجهه إلى ترامب، أشار فيه إلى أن الاتفاق الأخير لا يشكل ضمانة لإصلاح السياسة الاقتصادية الصينية تجاه الولايات المتحدة خاصة مع تشديد الجانب الصيني على أن تنفيذ الاتفاق الأخير سيكون وفق آليات العرض والطلب ومبادئ السوق التي تجعل التزام بكين باستيراد منتجات زراعية أميركية بـ200 مليار دولار خلال العامين القادمين أمراً مشكوكاً فيه.
وطبقاً لهذا السياق الانتخابي، فإن نمط استفادة ترامب من التصعيد مع الصين والحصول على حد أدنى في اتفاق مؤقت يستفيد منه انتخابياً لا يضمن فقط أصوات ناخبيه من المزارعين مثلما فعل إبان الانتخابات الماضية بخطاب دعائي مناهض للصين، ولكنه يجبر بشكل او بآخر هؤلاء الناخبين على التصويت لولاية ثانية كونه هو الضمانة الوحيدة لتنفيذ الصين وعودها بضخ 200 مليار دولار في القطاع الزراعي الأميركي المتأزم.
وكخلاصة عامة، فإن أفق وصلاحية الاتفاق المرحلي الأخير بين واشنطن وبكين يبقى رهناً بمجريات الأمور في الداخل الأميركي خلال عام الانتخابات، وهو يُصدَّر بصيغته الحالية على أنه إنجاز سياسي داخلي وخارجي لترامب، وذلك على الرغم من التحفظات الأميركية عليه، والتشكيك بجدواه من مختلف الأطياف السياسية والاقتصادية، وكذلك التزام الصين بتنفيذه، مع العلم بأن بكين، وعلى عكس واشنطن، ترهن ذلك بمطالب سياسية تتجاوز ما اتفق عليه اقتصادياً، وعلى رأسه دفع الولايات المتحدة للاعتراف بسياسة “صين واحدة” الخاصة بقضية تايوان. وهو ما يعكس مناخاً من عدم الثقة لا يوفر مناخاً من التهدئة ولكن مجرد طقس مؤقت.