قلةٌ هُم المسافرون في ردهات مطار موسكو، تراهم يُسرعون الخطى للوصول الى قلب موسكو، ولا يعلمون أنهم إن كانوا أجانب فسينتظرون.. وربما لساعات.
وبالكثير من التدقيق والتوجس، تتفحص موظفة الأمن الروسية، جوازات سفر زوار موسكو وتأشيرات دخولهم. قلةٌ مَن يعبرون سريعاً، والغالبية تنتظر مع أسئلتها. قلق متبادل بين سلطات أمنية تخشى الاختراقات الخارجية في وقت تتصدى لأخرى داخلية مناهضة للحرب الأوكرانية. قلقٌ يقود مسافرين أحياناً إلى غرف صغيرة تتسع لطاولة وكرسيين. ينتقل التوجس من نظرة موظفات ترسمن ابتسامات غامضة يصعب فهمها على ملامحهن الروسية إلى نظرة أكثر حدة من موظفين يُخفون خلف ملامحهم الروسية الباردة الكثير من الحذر، ويطرحون أسئلتهم بانكليزية مطعمة بلهجة روسية، وليس فيها ما يثير الاستغراب، إلا إن كُنتَ قادما من دولة أوروبية أو غربية!
الخلطة الروسية
في الطريق إلى مركز العاصمة الساحر بأنواره، ستكون محظوظاً إن عثرتَ على طاولة في مطعم “كرتشما” الأوكراني وسط موسكو، لا لطعامه اللذيذ فحسب، وإنما لأنك ستعيش في كنف التاريخ.
يقول مُحدثي، بعد أن طلب لنا طبقين “تشيكين آلكييف” إن الطاولة التي بجانبنا “تتحدث الروسية بلهجة جورجية..”، أراد بتعليقه هذا وبالمكان الذي اختاره للعشاء أن يستحضر الماضي ويؤكد أنه ما زال لروسيا امتداداتها في محيطها الجغرافي، وهذا ما لا يُمكن انكاره، فروسيا بعد سنوات من تفكك الإتحاد السوفياتي فرضت نفسها كأب كبير على كثير من الدول السوفياتية السابقة، لكن الشعور بالاستقلال الكامل والتغريد خارج الفضاء السوفياتي السابق دفع بالبعض إلى شق عصا الطاعة عن الكرملين.
أضف إلى ذلك تفاصيل أخرى تثير حفيظة روسيا الرسمية والشعبية على حد سواء، أبرزها استهداف القومية الروسية في المناطق الشرقية لأوكرانيا ثقافياً من خلال حذف اللغة الروسية كلغة رسمية من الدستور الأوكراني وإجراء تغييرات في المناهج الدراسية، فضلاً عن قرع أجراس كنائس أرثوذكسية أوكرانية منذ عام 2018 بلا إذن من الإدارة الكنسية الروسية، بل بتسهيل من بطريركية القسطنطينية المسكونية في اسطنبول، وهكذا اختلطت الأمور الثقافية والدينية والديموغرافية في خلطة أشبه ما تكون بالسَلطة الروسية الشهيرة.
إنها الحرب..
لكن يبقى الهاجس الأمني هو المحرك الأساسي للهجوم الروسي على أوكرانيا. هاجس ازداد مع تحليق أوكرانيا بعيداً بالتفكير بالانضمام الى حلف شمال الاطلسي والتعاون العسكري مع الدول الغربية والولايات المتحدة الخصم اللدود لروسيا، ويقول خبراء سياسيون روس: “منذ 2014 طالبت موسكو مراراً بحيادية أوكرانيا عسكرياً تحديداً، لكن كييف كانت تتحرك في الإتجاه المعاكس تماماً”.
ويقول محلل سياسي مقرب من دوائر صنع القرار في موسكو إنه لم يكن أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خيار “إلا شن عملية عسكرية توقف تقدم الناتو شرقاً، وتضع النقاط على الحروف أمام سلطات كييف”. إنها “عمليةُ عسكريةٌ خاصةُ” كما تسميها وزارة الدفاع الروسية، لكنها “تسير ببطء”، حسب خبراء روس بينهم إيلينا سوبونينا المستشارة السياسية في مركز الدراسات الدولية. تقول سوبونينا “ربما كان هناك شيء من سوء التقدير استخباراتياً”.
مناهضو الحرب VS مناصرو بوتين
وبرغم إلتفاف معظم الشارع الروسي حول بوتين، ثمة تحركات لنشطاء روس ضد الحرب، “وقد أدت حتى الآن إلى إعتقال أكثر من 15 ألف شخص منذ بداية العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا”، بحسب OVD-Info الروسية المعارضة. تحركات فردية أكثر منها جماعية بعد تقييدها في إطار قانون وقّعه بوتين، يُجرّم بموجبه نشر “أخبار كاذبة” عن الجيش الروسي بعقوبات تصل إلى السجن لمدة تتراوح من 5 إلى 10 سنوات وغرامات مالية باهظة، فما بالك بالتظاهر والاعتصام المُدعّم بقانون آخر يُنظمه!
يقابل ذلك تحركات يومية لداعمي بوتين وجيشه، يرفع المشاركون فيها أعلام روسيا والجيش الروسي ويجولون بسياراتهم في أنحاء العاصمة الروسية، من دون قانون ينظم ذلك هذه المرة!
ما الذي يدغدغ أفكار بوتين، هل يريد إعادة تجربة بطرس الكبير بتطبيع العلاقات الروسية الأوروبية إنطلاقاً من فوهة البندقية، لكن بنمط “بوتيني” يطرح “روسيا” نموذجاً هذه المرة لا “أوروبا والغرب”؟ أم مجرد تصحيح لما قام به أسلافه عندما ضموا القرم وأوديسا و.. إلى مقاطعة أوكرانيا
بين “الهمبرغر” و”الماتريوشكا”!
قبالة واحدة من “ناطحات ستالين” السبع الشقيقات وتحديداً الخامسة المخصصة لوزارة الخارجية الروسية والتي بُنيت بأيدي الأسرى الألمان إبّان الحرب العالمية الثانية بإشراف المهندسين المعماريين، جيلفريتش ومينكوس، جلستُ في مطعم “بلاك ستار” للهمبرغر، في انتظار صحافية روسية. من هذه الطبقات الـ27 بإرتفاع 172 متراً ومنذ العام 1953 يُطل موظفو وزارة الخارجية الروسية على المطعم وعلى شارع “أربات” الموسكوفي السياحي الشهير.
قبل أن تجذبني واجهات المحلات في “أربات”، تقول لي الصحافية الروسية:”إحدى شقيقات هذه الناطحة المخصصة لوزارة الخارجية ترتفع 195 متراً في الجهة المقابلة لنهر موسكو، وهي اليوم فندق “راديسون رويال” لكنها تاريخياً ومنذ بنيت في العام 1957 كثاني أعلى ناطحة تعرف باسم “فندق أوكرانيا”، وهذه مفارقة غريبة، فالصراع السياسي الروسي الأميركي – الغربي المحتدم على الأرض الأوكرانية اليوم، سبقه استثمار أميركي في “فندق أوكرانيا” في قلب موسكو، وللمصادفة مقابل مبنى الحكومة الروسية.
في “أربات”، ثمة مفارقة أخرى، فإضافة إلى الخليط الغريب للمطاعم والزوار، وإلى جانب دمى “ماتريوشكا” أو “بابوشكا” الروسية رمز الأمومة والسلام، تنبري أمامك محال تجارية تبيع مجسمات الدبابات والمدرعات والطائرات الروسية و”تي شرتات” تحمل شعارات الجيش الروسي، وهذا الأمر يرتبط بلحظة الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
القلق في “أربات”
وفي “أربات” كما في مختلف أنحاء موسكو، لا يشعر المواطنون الروس بتبعات الحرب ولا بتأثير العقوبات الغربية المتصاعدة على بلادهم، حتى الآن. نحو 6500 عقوبة تفرض على روسيا لتتصدر بذلك قائمة الدول التي تواجه العقوبات. نحو 250 علامة تجارية عالمية انسحبت من الأسواق الروسية ما تسبب بخسائر للمراكز التجارية تقدر بنحو عشرين بالمئة وبتراجع أعداد المتسوقين بنسبة تزيد عن عشرة بالمئة (في النصف الأول من شهر نيسان/أبريل)، أما ملامح القلق، فتجدها على محيا العديد ممن تلتقيهم في أسواق موسكو التجارية.
برغم ذلك، نجحت الحكومة الروسية في ضبط الأوضاع الإقتصادية والمعيشية بعد أن قفز الدولار واليورو إلى نحو 140 روبلاً. سلسلة قرارات أبرزها تصدير الغاز الروسي بالعملة الروسية الوطنية الروبل للدول غير الصديقة، حسب تصنيف موسكو، أعادت الدولار إلى معدلاته المعتادة بحوالي 80 روبلاً وكذلك بالنسبة لليورو.
صورة نمطية!
لكن مقابل ما يوصف بالنجاح النسبي على المدى القصير لروسيا إقتصادياً، تفرض بعض الصعوبات نفسها على المواطن الروسي، كعدم امكانية الشراء من المتاجر العالمية ببطاقات الفيزا أو الماستر كارد الصادرة عن المصارف الروسية، أو عدم القدرة على تحويل الأموال بسهولة من وإلى الخارج..
باختصار الأمور بين روسيا والخارج باتت صعبة، لكن داخل روسيا لا مشاكل حقيقية حتى الآن وإن كان المسؤولون الروس يعترفون رسمياً بأن تأثير العقوبات على الإقتصاد الروسي سيزداد على المديين المتوسط والطويل، وإن كانوا يضيفون أن هذا التبعات ستطال أيضاً الإقتصاد العالمي لترابط الإثنين معاً.
وعلى صعيد آخر، ثمة إعتراف “بهزيمة موسكو إعلامياً”، يقول صحافي روسي يتقن العربية: “تغطية الحرب في أوكرانيا في معظم الإعلام العربي تبدو إمتداداً لتغطية العملية العسكرية الروسية في سوريا، أي تثبيت الصورة النمطية التي رُسمت للجيش الروسي في ادلب. وشُكلت قبل ذلك في أفغانستان”.
توجيه الاتهامات إلى روسيا بارتكاب مجازر حرب في بوتشا وغيرها والتصعيد الغربي تحديداً على خلفية ذلك يزيد الوضع تعقيداً. تحاول الدول العربية رسمياً أن تكون حيادية، حتى أنها تطرح نفسها كوسيط من خلال مجموعة الاتصال المكونة من ممثلي ست دول وأمين عام جامعة الدول العربية والتي زارت موسكو ووارسو مؤخراً، يضيف الصحافي الروسي: “في أفغانستان، كانت معظم الدول العربية ضد الاتحاد السوفياتي، وفي سوريا وقفت العديد من الدول العربية في الجبهة المقابلة لروسيا، لكن مع تقادم الأزمة السورية، وتوتر العلاقات الروسية الغربية المتصاعد، عاد التقارب ليكون العنوان”.
في حرب العقوبات الإقتصادية الغربية على روسيا، لم تكتفِ معظم الدول العربية بالحياد بل فتحت أبوابها أمام رؤوس أموال رجال الأعمال الروس وموانئها ليخوت الأوليغارشية الروسية، بعد ان طردتهم عواصم ومدن مثل لندن ونيس وكان.
الحرب الناعمة
ماذا عن المشهد الاعلامي؟ يجيب محدثي الروسي “معظم الإعلام الغربي يُركز على استخدام مفردات مثل القصف الوحشي الروسي و”المقاومة الباسلة للشعب الأوكراني”. إنه إغراء الإستعراض والشعبوية في تغطية الحروب ويدفع لنسيان الثلاثية المقدسة للصحافة: المهنية، الموضوعية والحيادية”، يضيف محدثي الروسي.
سعت روسيا لتعزيز حضورها إعلامياً خلال السنوات القليلة الماضية، فطوّرت ووسّعت شبكتها الاعلامية لتشكل وكالات أنباء ومواقع الكترونية وقنوات تلفزيونية، لكن بين نظرية الكذبة الكبرى لغوبلز (وزير الدعاية في ألمانيا النازية) وانتشار “الرواية الأولى” للأحداث والوقائع خاصة عبر وسائل التواصل الإجتماعي لا شك بأن روسيا في وضع لا تحسد عليه إطلاقاً، ليضاف المشهد الإعلامي إلى المشهدين الاقتصادي والسياسي، وربما العسكري، كما يقول البعض.
بين نهرين
قصة روسيا وأوكرانيا، قصة جغرافيا، من نهر موسكو إلى نهر دنيبر، وقصة ديموغرافيا وأيضاً قصة تاريخ. قصة تعود في أحد جذورها إلى أواخر القرن السابع عشر، حين أعجب بطرس الأكبر أو بيوتر ألكسييفيتش رومانوف العظيم بأوروبا، لكنه استبق نقل التجربة الحضارية – الثقافية الأوروبية الى روسيا، والتي جعلت من الروس حليقي الذقون لاحقا، ببناء أسس الأسطول البحري الروسي والاستيلاء على ميناء آزوف، لتصبح القرم والمناطق المجاورة في منتصف القرن الثامن عشر جزءاً من الامبراطورية الروسية في ظل ضعف الدول العثمانية في تلك الفترة، لكن القرم بقيت نقطة ضعف للإمبراطورية الروسية وخلال الحرب الشرقية 1853-1856، هُزم الجيش الروسي هناك ودخلت روسيا في مواجهة مع الغرب على القرم حتى 2014 حين ضمتها روسيا إلى أراضيها ولاحقاً حتى اليوم في إطار الامتداد الجغرافي للمنطقة خاصة اقليم الدونباس.
اليوم يتكرر المشهد، حيث تضرب أوديسا التي بُنيت بأمر من الإمبراطورة الروسية كاترين العظيمة عام 1794، من قبل القطع البحرية الروسية في بحر آزوف، لكن السؤال الأهم هو: ما الذي يدغدغ أفكار بوتين، هل يريد إعادة تجربة بطرس الكبير بتطبيع العلاقات الروسية الأوروبية إنطلاقاً من فوهة البندقية، لكن بنمط “بوتيني” يطرح “روسيا” نموذجاً هذه المرة لا “أوروبا والغرب”؟ أم مجرد تصحيح لما قام به أسلافه عندما ضموا القرم وأوديسا و.. إلى مقاطعة أوكرانيا يوم كانت جزءاً من الإتحاد السوفياتي، باستعادة الأجزاء التاريخية لأرض روسيا، وإعادة أوكرانيا إلى الفلك الروسي؟ أم إعادة سطوة الإتحاد السوفياتي السابق وإنهاء عالم “القطب الواحد”؟