لافتة الأوديسي: بحثاً عن الهوية.. الأوكـ/روسية

كما استفاق الكثيرون على تحليلات لفتت إنتباههم إلى أن الصراع الروسي-الأوكراني لم يبدأ في شباط/فبراير 2022، بل في شباط/فبراير 2014، يبدو أن البحث يجب أن يمتد إلى ما هو أبعد في الزمن وأعمق في التحليل.

بداية، اسمح لي عزيزي القارىء بالتجرؤ على صك مصطلح جديد يعبّر عن حالة البحث الصراعي عن الهوية في العديد من مدن أوكرانيا. سأطلق عليها الهوية “الأوكـ/روسية”. بحث متواضع عن هوية شعب، يستخدم كبيدق، في رقعة جغرافية أوروبية، يرأسه دمية متحركة، (تُحرّك) ضد ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم.

حتى نستقي الإجابة، سنندمج في لقطة تقريبية، التقطت عام 2014، للافتة يحملها مواطن أوديسي روسي الأصل (أوكراني حتى الآن على الأقل)، وسط مسيرة (تظاهرة) تدعو لاستفتاء على الاستقلال، تناهض الفاشية، والأهم.. أنها مسيرة بحث عن هوية.

ترى ماذا كان يعني هذا المتظاهر الأوكراني (حتى الآن) السائر في مظاهرة بمدينة أوديسا جنوب أوكرانيا، في مثل هذه الأيام من شهر نيسان/أبريل 2014، حاملاً لافتة تقول:

“أوديسا هي مدينة فورونتسوف وبوشكين، وليس بانديرا والمدنسين الآخرين! أفيقي يا أوديسا!”

***

هل يبدو لك ذلك كلاماً سطحياً يمكن تجاهله والقفز من فوقه بالنظر إلى لافتات تحمل عبارات أعم، ولكنها مريحة لأنها أوضح وأسهل للفهم دون بحث، من عينة “نعم للاستفتاء” أو “اللعنة عليك يا أمريكا”.

هذا الكلام العمومي لا يرضي عقول قوم مدققين. دعونا نفتش إذن في عقل ولافتة هذا المواطن الأوكـ/روسي، لربما نجد في الكلمات والأسماء التي نقشت على لافتته ما يساعدنا في فهم ما يبحث عنه.

المارشال والشاعر

ميخائيل سيميونوفيتش فورونتسوف، هو مارشال عسكري روسي ولد في سان بطرسبرج نهايات القرن 18، وتوفي في 1856 بمدينة أوديسا، في محافظة خيرسون، الواقعة ضمن نطاق الإمبراطورية الروسية في وقتها (جنوب أوكرانيا الآن.. أو حتى الآن).

فورونتسوف هو قائد عسكري ذو تاريخ بطولي من وجهة النظر الروسية في الحروب النابليونية، على رأسها معركة بورودينو 1812، في إطار الغزو الفرنسي لروسيا. وكذلك الحرب الروسية-الجركسية أو كما تسمى حرب القوقاز. حاصل على أرفع الأوسمة العسكرية من الجيش الإمبراطوري الروسي لإسهاماته في العديد من المعارك التي خدم فيها بلاده بتوسعة حدودها والقضاء على أعدائها. يقف تمثاله القائم بميدان سوبور بأوديسا شاهداً على عمق أثره في الهوية الـ.. ماذا نقول هنا.. الأوكـ/روسية! لكن أياً كان ما نقصده، هذا ما قصده المتظاهر الأوديسي بالاسم الأول على لافتته الملفتة.

بوشكين.. الشاعر العظيم

بينما الإسم الثاني يشير إلى ألكسندر سيرجييفيتش بوشكين، أعظم شاعر روسي ومؤسس الأدب الروسي الحديث. شاعر رسمت ريشته أحرف أشهر قصيدة حب في التاريخ الروسي المسماة “إلى ***” المهداة لزوجته “آنا كيرن”. وهي ذات الريشة التي تسببت في إثارة قلق السلطة الامبراطورية وعلى رأسها ألكسندر الأول، بكتابة أحرف قصيدة “نشيد إلى الحرية” Ode To Freedom. مما أدى إلى نفيه من سان بطرسبرح، فاستقر به المنفى في مدينة أوديسا لمدة 13 شهراً فقط. لكن شهوره المعدودة بالمدينة كانت كافية بأن تحتضن أوديسا تمثالاً نصفياً برونزياً لبوشكين في بوليفار بريمورسكي منذ 1959، وكذلك متحفاً باسمه كجزء من “متحف أوديسا الأثري” القائم بشارع لانزيرونوفسكايا.

هذه هي روح الهوية الإيجابية التي يرى الروسي فيها نفسه وهو الذي استقرت الحياة بأسلافه في منطقة التخوم الروسية “أوكرانيا”.

إرث بانديرا

وهنا يأتي الدور على من يتبرأ منه ومن أمثاله حامل اللافتة الأوديسي.

ستيبان أندرييوفيتش بانديرا، سياسي “أوكراني”، المفكر الأبرز للقومية الأوكرانية، والمنظر الأشهر لنشاطات الذراع العسكري لـ “تنظيم القوميين الأوكرانيين” OUN أي Organization of Ukrainian Nationalists، المنظمة اليمينية المتطرفة، التي شُبهت بالفاشية وتعاونت مع النارية، وكان هدفها المعلن هو الدفاع عن استقلال أوكرانيا (التخوم)، ضد كل من يهدده، سواء أكانت المملكة الرومانية من الجنوب، بولندا أو تشيكوسلوفاكيا من الغرب، وبالطبع الاتحاد السوفييتي من الشرق.

بانديرا، ولد في جاليسيا عام 1909، وتوفي في ميونيخ بألمانيا الغربية عام 1959، كيف قادته حياته من هذه النقطة إلى تلك، هي قصة دالة.

مملكة جاليسيا ولودوميريا تفككت بنهاية الحرب العالمية الأولى، وتحولت بعد فترة استقلال “أوكرانية” قصيرة، إلى مقاطعة في شرق جمهورية بولندا. وهذه هي الفترة التي اشتغل فيها فتيل العمل السياسي والنضال من أجل استقلال أوكرانيا في عقل بانديرا. وأثناء دراسته بجامعة لفيف التطبيقية الوطنية، قام بتكوين تنظيمات القوميين الأوكرانيين، التي خططت ونفذت عملية اغتيال وزير داخلية بولندا، فحكم عليه بالإعدام، وبعدها تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد. لكن تم إطلاق سراحه بعد 5 سنوات، حين وقع الغزو الألماني-الروسي لبولندا.

وفي ميكيافيلية بحتة، استغل بانديرا وجود بعض الدوائر المؤيدة لاستقلال أوكرانيا في الجيش النازي الألماني، وانتظر لحظة قررت فيها ألمانيا غزو الاتحاد السوفييتي (عملية باربروسا) بعد سقوط تحالفهم المؤقت، وقام بإعلان تأسيس الدولة الأوكرانية عام 1941. وهو ما عاقبته ألمانيا عليه بإرساله إلى أحد معسكرات الاعتقال النازية.

إقرأ على موقع 180  إيران والولايات المتحدة.. إستحالة التطبيع

وحين وجدت ألمانيا نفسها في موقف عسكري متداع في مواجهة تقدم قوات الحلفاء، قررت إطلاق سراح بانديرا، عله يكون عاملاً فاعلاً في إشغال وإيقاف تقدم القوات السوفييتية نحو ألمانيا. فاستعاد تنظيم نشاطاته التحريرية الأوكرانية، مضيفاً عنصر العمل ضد الفكر الشيوعي إلى عمله لاستقلال القومية الأوكرانية. متعاوناً مع كل من الجيش النازي الألماني حتى هزيمته في 1945، وكذلك مع المخابرات البريطانية.

استقر به الحال بصحبة أسرته في ميونيخ بألمانيا الغربية منذ إطلاق الألمان النازيين سراحه في 1944، وهي المدينة التي عاش بها ١٥ عاماً، حتى تم اغتياله عام 1959 على أيدي سوفييت من عملاء جهاز الـ”كي جي بي”.

وفي قرارين تضادا في الاتجاه، واصطدما ليوحيا لنا بحقيقة تتعلق بالبحث عن الهوية. جاء أولهما من الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوشينكو (المائل للغرب)، حين قرر منح أعلى وسام رسمي أوكراني لستيبان بانديرا، وهو “بطل أوكرانيا Hero of Ukraine”. وقد لاقى هذا القرار انتقادات ليس فقط من روسيا، بولندا، وبعض المنظمات اليهودية حول العالم، بل إنه تلقى توبيخات من البرلمان الأوروبي ذاته.

وحين صعد فيكتور يانوكوفيتش (المائل لروسيا) إلى مقعد رئاسة أوكرانيا، أعلن عدم قانونية منح هذه الجائزة الرسمية لبانديرا، بسبب أنه لم يكن أبداً مواطناً أوكرانياً. وهو القرار الذي أيده قرار من إحدى المحاكم الأوكرانية، فكان أن تم سحب اللقب بالفعل من ستيبان في 2011.

ويبقى بانديرا حتى اليوم شخصية حائرة بين أوكرانيين يرونه بطلاً قومياً سعى لاستقلال بلدهم عن الروس، البولنديين والنازيين. وبين أوكرانيين آخرين يرون فيه نموذجاً للفاشية والإرهاب وارتكاب جرائم حرب، ومتعاوناً مع العدو النازي، ويحملونه مسؤولية المجازر التي حدثت للبولنديين، ومحرقة اليهود بأوكرانيا.

***

هنا يقع لب التضارب، وهذا هو رحيق البحث عن الهوية الذي ينخرط فيه هذا المواطن الأوديسي، الهارب من فكر بانديرا اليميني القومي، إلى شعر بوشكين، بطولات فورونتسوف العسكرية وهوية روسية أوسع. مثله في ذلك مثل الملايين من المواطنين الدونيتسكيين، اللوجانسكيين، الخاركيفيين، الخيرسونيين وغيرهم، على أرض وطن قطنه أسلافهم ثم استقل تحت إسم “أوكرانيا”، لكن تركيبته السكانية، تحمل إرثاً عميقاً، تسبب في اضطراب أعمق في الهوية الموحدة لأهل أرض، يريدون أن يصبحوا مواطنين في شعب، له هوية متفق عليها، وإن اختلفت وتنوعت إثنياتهم وأصولهم. فلم يجدوا ذلك في أوكرانيا. وإن نحن عدنا إلى مسافات أبعد إلى الوراء في الزمن، سنجد ما يقربنا أكثر إلى عمق منابع تشتت الهوية في عقول وقلوب قاطني هذه البقعة من الأرض. هل فهمت الآن عزيزي القارىء سر المصطلح الذي تجرأت على صكه؟

إن اخترت تفضيل بروباجاندا “امبراطورية الكذب” الفارغة، على رؤية هذا المواطن الأوكـ/روسي صاحب اللافتة البليغة. فلتقل ذلك في وجه الأم الماريوبولية التي كانت تصطحب ابنها المصاب بطلق ناري “آزوفي” في بطنه داخل عربة إسعاف، متجهة إلى مشفى يعتمد على الجهود الذاتية للدونباسيين الروس، وهي تجيب على سؤال المراسل الأمريكي الذي كرس جهوده لنقل ما يحدث في ماريوبول، باتريك لانكاستر، حين سألها: “من أطلق النار على ابنك؟”

فأجابت بحرقة: “الأوكرانيون، أهلنا”.

تحياتي الأوكـ/روسية.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إيران والولايات المتحدة.. إستحالة التطبيع