

منذ بدء الحرب الاسرائيلية على غزّة، برز اسم أنس الشريف (29 عامًا) على مواقع التواصل الاجتماعي عبر الفيديوهات التوثيقية التي كان ينشرها لمجريات الأحداث. هذا قبل أن يبدأ تعاونه مع قناة “الجزيرة”، ثم ينضمّ إلى فريقها، لتتسّع شهرته ويكتسب جمهورًا أكبر. استفاد أنس من هذا الحضور، ففعّل عمل صفحاته على المنصات الاجتماعية المختلفة، بمساعدة آخرين كما سنعرف بعد استشهاده. لم يكتفِ بإعادة نشر تقاريره الإخبارية، بل بات يترجم بعضها إلى الانكليزية، يعلّق على عمل زملائه ويشاركه أحيانًا، ينقل كواليس تغطية ما، يحكي قصصًا يومية تحصل في غزة، ينعى والده الذي قتلته “اسرائيل”، يخبرنا عن تدمير منزله، يدخلنا إلى عائلته ويعرّفنا بطفليه، لا يخفي جوعه (تجويعه) ولا تعبه ولا دموعه.. ولا شعوره بالخذلان.
هذا الشاب الأسمر النحيل، أسرَ بتغطيته الصادقة والشجاعة للحرب على غزّة، قلوب كلّ من تابعوه. صوته المرتفع، اندفاعه، حماسته، غضبه، فرحه، كلّها مواقف ومشاعر نجح في إيصالها إلى الجمهور البعيد-القريب. كلّ من تابع أنس، كان كأنّه يعيش معه. يبكيك حزنه، تسعدك ضحكته، يذهلك إيمانه، ويكسرك رحيله، مظلومًا، كما كلّ أبناء شعبه فيما أنت تنتظر مراسلًا جديدًا تخاف أن تتعلّق به كما تعلّقت بكلّ من سبقوه. من شيرين أبي عاقلة التي قتلها الاسرائيليون في 11 أيار (مايو) 2022، وليس انتهاء بضحايا الغارة الأخيرة في 10 آب (أغسطس) الجاري، والتي استهدفت أنس ورفاقه: صاحب الوجه الجميل والحزين محمد قريقع، والشاب الطريف محمد الخالدي ومن هم خلف الكاميرا والمقود إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة. وهنا من الضروري التذكير بما تحاول “اسرائيل” أن تجعله بديهيًا: نعم، قتل خمسة صحافيين أو ستة صحافيين لا يزال خبرًا استثنائيًا، ولو تكرّر مرة تلو الأخرى حتى بلغ عدد صحافيي غزة الذي قتلوا منذ بداية الحرب قبل 22 شهرًا إلى 238 صحافيًا، عدا عمن أُسر منهم.
قتل خمسة صحافيين أو ستة صحافيين لا يزال خبرًا استثنائيًا ولو تكرّر مرة تلو الأخرى
برغم ذلك جاء خبر اغتيال أنس الشريف صادمًا، مع كلّ المقدّمات التي تؤكد أن قتله أصبح مسألة وقت. ويبدو أنّه أعدّ العدّة لذلك، فكتب يستصرخ العالم. نشر ما تعرّض إليه من تهديدات، نفى ما نُسب إليه من اتهامات، تلقف بيانات التضامن معه على قلّتها، وكتب نصّين- شهادتين يستحقان أن نتوقف عندهما. أولًا لأهميتهما في فهم ظروف عمل صحافي مختلف عن كلّ ما خبرناه وما درسناه نظريًا، وثانيًا لأن أنس الشريف طلب أن لا ننساه وغزّة وهذا بعض حقهما علينا.
النصّ الأول نشره أنس على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي في 29 تموز (يوليو) 2025، وحمل إجابة على سؤال “لماذا لا تتوقف عن التغطية يا أنس؟”. أما النص الثاني، فهو وصيته، التي نُشرت في 10 آب (أغسطس)، صبيحة استشهاده. لكنها موقعة بتاريخ 6 نيسان (أبريل) الفائت، أي أنها سبقت النص الأول كتابة.
لا مكان آمنٌ في غزّة
في النصّ الأول يجيب أنس على السؤال “الذي يلاحقني كل يوم، من داخل غزة وخارجها: لماذا لا تتوقف عن التغطية يا أنس؟“. يبرّر المحبّون سؤالهم بخوفهم عليه “يقولون إنني مهدّد، وقد أُقصف في أيّ لحظة لكن الحقيقة البسيطة والموجعة: لا أحد في غزة آمن. لا أنا، لا أطفالي، لا زملائي، ولا أيّ إنسان يسير تحت سماء تمطر نارًا. الصواريخ لا تفرّق بين كاميرا وصوت، ولا بين مدني وصحفي“.
لا أحد في غزّة آمن، يكتب أنس. فإذًا من يضمن أن التوقف عن التغطية سيبعد عنه آلة القتل التي حصدت أرواح أكثر من 60 ألف فلسطيني بحسب الأرقام المتداولة، ومن بينهم عشرات الصحافيين؟ وعدد من هؤلاء كانت تغطيته خجولة؟
هذا واقع قلّما يختبره أيّ مراسل حربي آخر في أيّ بقعة من العالم. الخطر قائم، لكن هناك دائمًا أماكن آمنة، سبل حماية، اتصالات دولية تجريها المؤسسات لتحمي فريقها. كلّ هذا غير متوفّر لأنس ولا لرفاقه.
نتذكر إطلالة أنس في أيار (مايو) 2024 وهو يجيب على سؤال المذيعة في استديو “الجزيرة” في الدوحة عن سبب عدم ارتدائه خوذة:
“لا أرتدي الخوذة لأنها غير متوفرة في شمال قطاع غزة. والاحتلال الاسرائيلي منذ سنوات طويلة يمنع دخول المعدات الصحافية إلى قطاع غزة“.
ومن منا نسي صرخة الصحافي سلمان البشير وهو يخلع خوذته وسترته مباشرة على الهواء في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 بعد استشهاد زميله محمد أبو حطب نتيجة غارة اسرائيلية على خان يونس: “لا حماية، لا حماية دولية إطلاقاً، لا حصانة من أي شيء، هذه الدروع لا تحمينا ولا تلك القبعات. هذه مجرد شعارات نرتديها، ولا تحمي أي صحفي على الإطلاق. معدات الحماية هذه لا تحمينا”.
“يقولون إنني مهدّد، وقد أُقصف في أيّ لحظة لكن الحقيقة البسيطة والموجعة: لا أحد في غزة آمن”
ما تجب الإشارة إليه أيضًا، وهو أمر قلّما يُكتب عنه، هو العامل المادي. أيًّا يكن الراتب الذي قد يتقاضاه الصحافيون في غزّة يبقى متواضعًا أمام حجم خسائرهم من جهة، وظروف الحياة المكلفة من جهة ثانية: التهجير المتكرّر والتجويع. لذا لا يصحّ الركون إلى من يبرّر الاستمرار في العمل بالكسب المادي.
الانسحاب ليس خيارًا
في وضع مماثل يكون الجواب على السؤال الذي يُطرح على أنس عن سبب عدم توقفه عن التغطية ” لأن ما يحدث هنا يجب أن يُرى، يجب أن يُسمع. لأن أقلّ ما يمكن فعله لشعب يُباد، هو أن نحمل صوته إلى العالم. الخبر قد لا ينقذ حياة، لكن صورة قد تهزّ ضميرًا. صرخة واحدة قد توقظ ذاكرة نائمة خلف الشاشات. لن أتوقف، ما دام هناك من يُقتل بصمت وما دامت الأمانة أثقل من الخوف“.
يحمّل أنس الشريف نفسه، في إجابته هذه ما ليس مطلوبًا من الصحافي، نظريًا، القيام به. إيصال الحقيقة واجب، هذا صحيح. لكن المحافظة على الحياة أولوية لا نضعها في مقابل الرهان على إيقاظ ضمائر، وهو أمر بات ضربًا من الخيال بعد 22 شهرًا من صمت العالم على ما يجري في غزّة. برغم ذلك يستمرّ في عمله لأن الأمر صار بمثابة “أمانة” وأكثر. “التوقف خيانة، والصمت جريمة. العدسة التي أُمسك بها ليست مجرد أداة، بل سلاح أخير في وجه إبادة لا تتوقف“.
يذهب أنس بعيدًا في تعريفه لمهنته رافعًا سقفها إلى مستوى الحديث عن “خيانة” في حال توقف، وارتكاب جريمة في حال صمت. الاستمرار في التغطية هو السلاح الأخير في وجه الإبادة. هنا نحن أمام إعادة نظر جذرية في قيم الصحافة وفي وظيفتها. يتجاوز الصحافي في غزّة دوره كوسيط ناقل للخبر إلى فعل المقاومة. والمقاومة في هذا السياق هي الانحياز إلى المظلوم “ما يحدث هنا يجب أن يُقال، لا من أجل بطولات فارغة، بل من أجل وجه أمّ تبحث بين الركام، من أجل يد طفل لا تجد رغيفًا، من أجل نجاة واحدة تتأخر عن الجميع“.
يعيد أنس إلى الصحافة مهمتها النبيلة، رسوليتها. لا حياد في نقل ما يجري، ولا أولوية لحياة على أخرى. أنس، المحاصَر والمُجوَّع والمهدَّد، لا يملك ترف الاختيار. يعترف “لست شجاعًا أكثر من غيري“، لكنه مؤمن “أن الكلمة حق، وأن الصورة قد تُحاكم، وأن صوت الحقيقة هو آخر ما تبقّى لمن لا صوت له“. لذا يتمنى على من يقرأ كلماته هذه أن “لا تمرّوا على هذه الصور كأنها مشاهد عابرة، فوراء كل لقطة، حياة لم تكتمل، وكل ما نرجوه… ألا يُقتل الوجع مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالنسيان“.
بناء على هذا النص، نرى أنّه لم يُترك لأنس فعليًا خيار الانسحاب من التغطية. مصيره من مصير شعبه في غياب الملجأ الآمن، ومسؤوليته الأخلاقية من موقعه هي نقل الحقيقة، وإلا أصبح خائنًا خصوصًا أن صوته بات السلاح الأخير لوقف الإبادة… أو على الأقلّ لتوثيقها حماية لضحاياها من النسيان. أنس، الشاهد على الإبادة، يدرك أن جزءًا من مهمته هو الحفاظ على الذاكرة.
كان أنس شهيدًا حيًا يسابق الطلقة الأخيرة برفع صوت شعبه الذي ينتظر الموت مثله
الشهيد والرمز
في النصّ الثاني، الوصية، تتخذ كلمات أنس الشريف بعدًا مختلفًا. بداية، يجب الإلفات إلى أن كتابة وصية من قبل صحافي، أمر ليس مألوفًا. لكن في غزّة كلّ شيء قابل للحصول وهذا يدلّنا إلى صعوبة الظروف التي كان يعمل فيها والتي تجعل منه شهيدًا حيًا يسابق الطلقة الأخيرة برفع صوت شعبه الذي ينتظر الموت مثله. هنا ينتقل أنس من موقع الصحافي الشاهد الذي يبرّر لمحبيه سبب استمراره في عمل يهدّد حياته، إلى شهيد يختصر بقصته الشخصية قضية فلسطين وينضمّ إلى قافلة رموزها المعبّدين لطريق الحرية.
يصفعنا أنس بداية بالخبر “إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي…”. ثم يعرّفنا إلى نفسه، طفلًا كبر في مخيّم للاجئين “وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة “المجدل“. هنا تنتقل القصة من الفرد إلى الجماعة، ويعيدنا الشهيد إلى أصل القضية الفلسطينية المتمثلة في اقتلاع شعب من أرضه. أنس، الصحافي، الذي “نقل الحقيقة كما هي” هو صاحب حقّ ولاجئ في وطنه، مثله مثل ملايين الفلسطينيين. برغم ذلك مارس عمله باحتراف حتى قتل “ويعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي“.
قتل أنس هو محاولة لإسكات صوت الحقيقة، لإسقاط السلاح الأخير في وجه الإبادة المتواصلة. لذا، لا بدّ من وصية تتناول فلسطين التي يذكّر بما جرى على أهلها، يوصي بهم، بأهله، بطفليه، بوالدته، بزوجته، معلنًا تسليمه بقضاء الله وإيمانه بلقائه داعيًا “اللهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نورًا يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي“.
طلب أنس من الله أن يجعل من دمه نورًا يضيء درب الحرية، تأكيد على رغبته في الاستمرار في ما بدأه حتى بعد استشهاده. يدرك أن قتله بهذه الطريقة سيحوّله إلى رمز ملهم لآخرين يحملون وصيته “لا تنسوا غزّة“، ويكملون الطريق، بعدما خاض درب الحرية صحافيًا شجاعًا وهو حيّ.
صوته من العالم الآخر الذي انتقل إليه بات يحمل بعدًا رمزيًا “أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة“.
رسالة أنس الشريف الأخيرة لم تعد خبرًا يبثّ ويمحوه خبر آخر، هي وصية جماعية تؤكد أن “اسرائيل” تخطئ في اعتقادها أنها في قتلها للصحافيين يمكن أن تنجح في إخفاء جرائمها. هي في الحقيقة لم تنجح إلا في تحويلهم إلى رموز للمقاومة تعبر من جيل إلى آخر: من غسان كنفاني مرورًا بشيرين أبو عاقلة وليس آخرهم أنس الشريف.