“هذه ليست المرة الأولى التي تتبنى فصائل فلسطينية هذه الاستراتيجيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن حقيقة عدم وجود إصابات نتيجة القصف، وعدم حدوث أي تصعيد في الجبهات الأُخرى – يتركان الأمور على ما كانت عليه تقريباً. التوتر وتعزيز القوات الملحوظ في الجانب الإسرائيلي، سيستمر حتى يوم “الاستقلال”. وفي المقابل، لم يحدث أي حدث استثنائي يؤدي إلى صراع أوسع مع “حماس” في غزة.
التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن “حماس” وراء جزء لا يمكن الاستهانة به من الأحداث التي جرت خلال الشهر الأخير. ناشطون من الحركة شاركوا في الأحداث التي شهدها المسجد الأقصى، وباستفزازات مقررة سلفاً، لدفع الشرطة إلى مواجهات عنيفة داخل المسجد. وفي المقابل، تحاول قيادة “حماس” في الخارج (التي تتنقل قياداتها بين لبنان وتركيا وقطر) تشجيع عمليات إطلاق نار وطعن إضافية في الضفة الغربية، مستغلةً موجة العمليات التي شاركت فيها حتى اللحظة “ذئاب منفردة”، من دون أي انتماء تنظيمي. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن “حماس” تتبنى سياسة هادئة ومسيطَر عليها نسبياً في قطاع غزة، ولا تبدو حتى اللحظة كمن يريد دفع إسرائيل إلى مواجهة هناك.
مرة واحدة فقط، كانت قيادة حركة الجهاد الإسلامي في بيروت هي مَن أمر الكوادر في غزة، وبصورة مباشرة، بإطلاق قذائف في اتجاه إسرائيل. على عكس مرات أُخرى، حين كان الحديث يدور حول مبادرات محلية لكوادر الجهاد الإسلامي في غزة. وفي الرسائل التي أرسلتها إلى إسرائيل عبر الاستخبارات المصرية، ادّعت حركة “حماس” أن إطلاق القذائف “تسرّب” وجرى خلافاً للتعليمات. كما تم اعتقال 30 من كوادر الجهاد الإسلامي تقريباً، بسبب إطلاق القذائف مؤخراً. وعلى الرغم من ذلك، فإنه تبين سابقاً أن “حماس” غضّت النظر عدة مرات، لا بل شجعت كوادر الجهاد وفصائل فلسطينية أُخرى على القصف أكثر من مرة، في الوقت الذي كانت تقول إنها تريد الهدوء في القطاع.
الليلة (الماضية)، أعلنت إسرائيل إعادة السماح للعمال من قطاع غزة بالدخول إليها، بعد انتهاء العقوبة التي استمرت يومين. ويدلل وقف العقوبة، بحسب أجهزة الأمن، على أن “حماس” معنية فعلاً بالهدوء في حدود القطاع.
من الصعب الحديث هنا عن تغيير جدي في الوضع القائم: إسرائيل لا تريد التصعيد في لبنان؛ وأشك كثيراً في أن حزب الله قد يسمح لنفسه بمواجهة عسكرية مع إسرائيل في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان
لا تعديل في قواعد الإشتباك
قبل عشرة أعوام، أشارت تقديرات إعلامية إلى أن “حماس” تحاول إقامة خلايا محلية في مخيمات اللاجئين المحيطة بمدينة صور، سيكون دورها إطلاق قذائف من الجنوب اللبناني إلى الجليل خلال عملية عسكرية في القطاع. وهذا ما جرى فعلاً في نهاية عدوان 2014، ومرة أُخرى خلال عدوان أيار/مايو العام الماضي. كما حدث شيء شبيه في الخريف الماضي، عندما أطلق فلسطينيون قذائف من لبنان على الجليل؛ حينها، ردت إسرائيل بقصف جوي ثقيل نسبياً؛ بعدها، قرر “حزب الله” إطلاق 19 قذيفة على منطقة “هار دوف” (مزارع شبعا).
التحليل الأكثر منطقية هو أن القصف هذه الليلة كانت له الخلفية ذاتها: “حماس”، أو فصيل فلسطيني أصغر، أطلق القذائف كإشارة تضامُن مع النضال الفلسطيني في القدس والضفة. وكالعادة في الأعوام الأخيرة – وبصورة مشابهة لوضع الحركة في قطاع غزة – من غير الواضح حجم قوة الحركة في لبنان بالضبط. في الماضي، كان من العادة القول إنه لا يحدث شيء في الجنوب اللبناني من دون تصريح من حزب الله. وفي الأعوام الأخيرة، تشير تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن سيطرة التنظيم الشيعي في الجنوب ضعفت، وأن الفلسطينيين يديرون حياة سياسية خاصة بهم. وصباح أمس (الإثنين)، بعد ساعات من الإطلاق، نشر الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي اتهامات لقيادات حزب الله بأنها تشارك في عمليات تهريب مخدرات وسلاح إلى إسرائيل. هذه ليست المرة الأولى التي توجه إسرائيل اتهامات كهذه خلال الأعوام الماضية. ويبدو أن التوقيت يرمز إلى شكوك لدى الجيش في أن كوادر الحزب لها علاقة بالإطلاق، ولو بصورة غير مباشرة، وضمنه القصف الأخير.
وحتى اللحظة، لا يبدو أن القصف يغيّر في التقديرات الأساسية الإسرائيلية بالنسبة إلى الوضع القائم. الجيش يسوّق الرد الحازم على إطلاق القذائف. وفي الحقيقة، تم إطلاق بعض القذائف المدفعية على مساحات مفتوحة قريبة من المنطقة التي أُطلقت منها القذيفة. ومن الصعب الحديث هنا عن تغيير جدي في الوضع القائم: إسرائيل لا تريد التصعيد في لبنان؛ وأشك كثيراً في أن حزب الله قد يسمح لنفسه بمواجهة عسكرية مع إسرائيل في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان.
مناطق خارج السيطرة
إن وتيرة الأحداث الأمنية والسياسية، خلال الفترة الأخيرة، لا تترك مجالاً للوقوف على كل حدث وتحليل إسقاطاته. وعلى الرغم من ذلك، فإن ليل المعركة في مدينة رهط يوم السبت استثنائي جداً، قياساً بالعنف في المجتمع العربي عموماً، والبدوي على وجه الخصوص. صراع اندلع بين عائلتين كبيرتين، يعود جزء منه إلى توزيع النفوذ في جباية الأموال من أصحاب المصالح وابتزازهم، وحدث تبادُل إطلاق نار كثيف في البلدة لساعات طويلة. رئيس البلدية فايز أبو صهيبان، شارك في مقابلات إعلامية وطالب الشرطة بالتدخل، مرة تلو الأُخرى. وزراء وقيادات في الشرطة وعدوا بالمساعدة، وتم عقد “هدنة” بين الطرفين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاشتباكات التي جرت وأُصيبت فيها طفلة عمرها 14 عاماً، تؤشر إلى تراجُع إضافي في الوضع القائم. ومع كامل الاحترام لحملات جمع السلاح والاعتقالات الشرطية، والتي بدأت منذ إعلان الحكومة نيتها محاربة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي، تم خرق جميع الخطوط الحمراء. في قلب إسرائيل، هناك مناطق خارج السيطرة، حيث سيطرة الدولة فيها ضعيفة جداً والأمان الشخصي مُصادَر.
مَن يرى في ذلك مشكلة داخلية عربية، أو مشكلة بدوية، يقوم بارتكاب خطأ كبير. هناك علاقة مباشرة بين تراجُع السيادة وارتفاع منسوب “الإرهاب”، كما بدا واضحاً في عمليتيْ بئر السبع والخضيرة، إذ تم تنفيذهما على أيدي عرب إسرائيليين اعتُقلوا سابقاً بسبب دعمهم لـ”داعش”. ما يحدث في رهط يمتد إلى بئر السبع وعومر وشوارع النقب؛ وفي كل الأحوال، يستحق المواطن البدوي أيضاً أن تدافع عنه الدولة. فالأحداث الأخيرة تشير، بوضوح، إلى أن الحكومة والشرطة بعيدتان كل البعد عن إعادة النظام إلى ما يجب أن يكون عليه، بعد أعوام طويلة من التهميش الممنهج وإضعاف أجهزة إنفاذ القانون”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).