سقطت الثلاثاء الماضي جلسة اللجان النيابية المشتركة المخصصة لاستكمال بحث مشروع قانون ضبط السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول) تمهيداً لاقراره قبل الانتخابات.
سقوطٌ مريعٌ بضربتين موجعتين. الأولى، مستحقة بصرخات غضب ولوعة، من جمعيات المودعين ونقابات المهن الحرة. والثانية سياسية، مناوراتية، ملعوبة من نواب كتلتي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية على أنهما مع حقوق المودعين على رؤوس الأشهاد الشعبوية، وضد حماية المصارف في سابقة جمعت خصمين لأجل هدف انتخابي واحد.
كان مشهد نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، وجه المنظومة في الاستعراضات وصوتها الملعلع في الملمات، وهو يبرر عدم انعقاد الجلسة، أشبه برؤية طير يرقص مذبوحاً من الألم. حاول تبرير فشل الانعقاد بروايات ما انزل الله بها من سلطان، ساعياً بصعوبة شديدة لحجب أي وسام استحقاق عمن أسقط الجلسة فعلاً.
أسقط ما بيده تبريراً واقناعاً. فاللعب على المكشوف من الآن فصاعداً. ذهب مع الريح قوله المأثور “نعم، نحن حزب المصارف”! كما صرخ بأعلى صوته في تموز/يوليو 2020 لتبرير اسقاط خطة شركة “لازار”. خطة ساهم في تهشيمها كل الاحزاب والتيارات السياسية الممثلة بقضها وقضيضها في لجنة المال والموازنة البرلمانية.
لم يغب أي طرف سياسي، في ذلك اليوم المشؤوم، عن حفلة الدفاع المحموم عن البنوك لأسباب تاريخية وظرفية: تاريخية العلاقة غير السوية بين السياسيين والمصرفيين، وظرفية تبادل خدمات مقابل السماح بسحوبات وتحويلات بعدة مليارات معظمها لنافذين وسلطويين.
تغيّر المشهد رأساً على عقب بعد سنتين على ارتكاب “جريمة” اسقاط خطة “لازار”، برغم تأييد صندوق النقد لها آنذاك مُزكياً إياها “إطاراً مناسباً جداً لبدء معالجة أزمات لبنان”.
بعد انتهاء موسم كذب الانتخابات البرلمانية سيتوالى حلول فصول الاستحقاقات وعلى رأسها مصير ودائع بنحو 100 مليار دولار قيمة مؤخر صداق طلاق السياسيين والناس هذه المرة. مبلغ بهذا الحجم يستحيل دفعه بالمعروف. ربما سيستحق يوماً بالدم.. من يدري ماذا ينتظرنا من أيام صعبة؟
أرجأوا ساعة الحقيقة لغايات في رؤوس المنظومة، وبدّدوا 15 الى 20 مليار دولار من اموال المودعين بصفاقة غير مسبوقة. بيد أن الحقيقة ادركتهم، وسرعان ما “انفخت الدف وتفرق العشاق”.
ففي قراءة لورقة التفاهم اللبنانية الموقعة مع الصندوق، المشفوعة بطلب فرنسي إلى الترويكا الرئاسية للترحيب بها (ففعلوا طائعين)، يبرز جلياً أن معظم محاور الاصلاح، الواردة في الشروط المسبقة، هي مصرفية مالية بالدرجة الأولى.
أتت المذكرة الحكومية الشارحة للاتفاق لتفضح أو تفصح أكثر بالتركيز على شطب رساميل المصارف بالكامل، واطلاق تدقيق في ميزانيات 14 مصرفاً تمثل 83% من موجودات القطاع، وتصفية المصارف المفلسة (وما أكثرها)، وتحجيم القطاع جذرياً، وتعديل قانون السرية المصرفية تمهيداً للتحقيق في الجرائم المالية، فضلاً عن شروط كمية ونوعية خاصة بالبنك المركزي وقانون النقد والتسليف، وكل ما يتعلق بحوكمة وترشيد السياسة النقدية والرقابة على المصارف.
تلك شروط لا تُبقي ولا تُذر، أين منها “حزب المصارف” الذي تبرع أكثر من عضو بلجنة المال للتعبير عن رفضها بحماسة منقطعة النظير في أكثر من مناسبة؟ أين التهديد والوعيد لكل من تسول له نفسه التشدق بافلاس المصارف والمس بالسرية المصرفية؟ وهل يذكر نائب رئيس المجلس ما قاله في حزيران/يونيو 2020 من ان المجلس النيابي “سيفك رقبة” المخطَط والمخطِط دفاعاً عن بنوك هي نفسها اليوم في عين الإعصار الافلاسي، ولا من مغيث؟
أضاع كل هؤلاء فرصة تاريخية على بلاد تُساق الآن إلى الإذعان بسببهم، وإلا كان سيُصنف لبنان “دولة فاشلة منبوذة من المجتمع الدولي”، وفق تعبير مسؤول غربي رفيع المستوى والتأثير.
أضاعة الوقت فاقمت أزمة الودائع، وزادت درجات تعثر مصارف بات دفنها مُلحاً إكراماً لها، وتفادياً لديمومة سربلتها في جلابيب “زومبي” مخيفة.
إن ما بعد التفاهم الحكومي مع صندوق النقد ليس كما قبله بتاتاً. فالمركب المثقوب يتطلب التضحية ببعض من عليه. وبما أن السياسيين يتوازنون برعب من دون التفريط بعيارات تعكير صفو تحاصص السلطة، فالأسهل التضحية بمصارف والهروب منها هروب الصحيح من الأجرب.
كيف وصل شركاء الأمس الى جفاء اليوم؟ ولماذا؟
أولاً؛ كانت المصارف تختبئ دائماً وراء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فاذا بالأخير ضعيف حتى الهزال، متهم حتى أذنيه في دعاوى أوروبية ولبنانية لا يسهل الفكاك منها. نعم، بضعف الحاكم وتفاهم حكومة ميقاتي مع صندوق النقد تتيّتم المصارف من أبوة الحاكم وأمومة منظومة السياسة.
ثانياً؛ تُسجل درجة ارتباك البنوك مستويات قياسية مقلقة في تذبذبها السريع. فبعد أيام قليلة من ترحيب جمعية المصارف بالاتفاق مع صندوق النقد وبجهود الحكومة الاصلاحية، أصدرت الجمعية بياناً هجومياً هدّدت فيه برفع دعاوى ضد الدولة المفرطة بحقوق المودعين والمصارف. انقلاب فجائي لا يُعبّر الا عن حالة انعدام وزن لا يحسدون عليها اليوم من كانوا اباطرة بالأمس.
ثالثاً؛ بعد اجتماع مع الرئيس ميقاتي أكد فيه أن رساميل المصارف ستشطب بالكامل، محذراً من تضييع اضافي للوقت في جدال عقيم حول استخدام اصول الدولة، خارت قوى المصارف وبدا جدارها متداعياً أمام فجاجة حقيقة رفض صندوق النقد استخدام أصول الدولة لاطفاء الخسائر ورد الودائع. والأنكى أن الرئيس ميقاتي أفهم البنوك بالعربي الفصيح أن لا مصلحة لنا بترف معارضة الصندوق بعد اليوم. أضعنا أكثر من سنتين.. كفى!
رابعاً؛ جائزة الترضية المرحلية الوحيدة الممكنة هي تمرير قانون الكابيتال كونترول لحماية المصارف من دعاوى المودعين اذا استطاع رئيسا مجلس النواب ومجلس الوزراء إلى ذلك سبيلاً. مع الاشارة الى أن الرئيسين بري وميقاتي يغامران قليلاً، فالصندوق كما الرعاة الفرنسييين ليسوا مع حماية المصارف، بل مع معاقبتها بطريقة أو بأخرى.
خامساً؛ إذا تعذرت حماية المصارف، لن يغامر السياسيون بالتزامهم أمام الفرنسيين والمجتمع الدولي وصندوق النقد كرمى لعيون سين أو صاد من “بنكرجية” يقول عنهم سياسي ماكر “ربحوا الكثير.. كفاها المولى”. فاللحظة يحكمها “اللهم نفسي” مخافة غضب يأتي من حيث لا يدرون. وما الغضب الا عصا عقوبات بعد جزرة التفاهم مع صندوق النقد.
سادساً؛ لم يعد الاقتصاد اللبناني يحتمل 40 الى 50 مصرفاً وسقطت أسطورة قطاع مصرفي لبناني مترامي الأطراف في خدمة أموال المنطقة و”الدياسبورا” اللبنانية في المهجر. تهاوت الثقة حتى الاضمحلال تقريباً. كما تهاوى الناتج المحلي فاقداً 60% من حجمه في سنوات قليلة، وما الحاجة حالياً إلا لمصارف يقل عددها عن أصابع اليدين.
إن ما بعد التفاهم الحكومي مع صندوق النقد ليس كما قبله بتاتاً. فالمركب المثقوب يتطلب التضحية ببعض من عليه. وبما أن السياسيين يتوازنون برعب من دون التفريط بعيارات تعكير صفو تحاصص السلطة، فالأسهل التضحية بمصارف والهروب منها هروب الصحيح من الأجرب
سابعاً؛ ستنشب معركة بين “إخوة المال” في سبيل البقاء للأقوى رأسمالياً وليس سياسياً هذه المرة، تحت نظر فاحص لصندوق النقد المتوعد بمراجعة خطوات الإصلاح كل 3 أشهر، ومتابعة من مؤسسات التمويل العالمية وشركات التدقيق والاستشارات المكلفة اعادة هيكلة القطاع وفق معايير دولية بتطبيق مؤشرات ملاءة وسيولة ومعايير محاسبية لا مكان فيها للهندسات التجميلية والتربيطات الزبائنية.
ثامناً؛ أمام هذا الواقع الصعب الطارد، بدأ مصرفيون ومساهمون وأعضاء مجالس إدارات مصرفية وكبار التنفيذيين في مصارف لبنانية البحث عن سبل حماية أصولهم وثرواتهم في الداخل والخارج. هاجس الهرب يتجلى في ظلال خوف من عدم اقرار الحماية في قانون الكابيتال كونترول، وهلع من تدفق دعاوى المودعين ليس على المصارف كمؤسسات فقط، بل على مُلّاكها والقيمين عليها وفق مندرجات قوانين لا تُحيّد الثروات الخاصة عن حدود المساءلة في حالات إفلاس معينة. وفي الإطار، أوردت المذكرة الحكومية بصراحة بند شطب ودائع الأطراف ذات الصلة، أي أصحاب البنوك والمساهمين فيها وأعضاء مجالس اداراتها.
تاسعاً؛ ثمة سؤال يطرح نفسه: هلى ستسكت المصارف وتعض على جرحها أم أنها ستقاوم؟ المؤشرات الأولى تؤكد وجود انشقاقات في المواقف بين حمائم وصقور البنوك تحت مرأى ومسمع ساسة يتحينون لحظة “فرق تسد”. لم يعد صوت الجمعية جامعاً مانعاً، فالخلاص بات فردياً بعد الانهيار الكبير.
عاشراً؛ الطلاق لا يعني عدم الزواج من جديد بمهر قيمته 23 مليار دولار؛ 3 مليارات من صندوق النقد و20 ملياراً موعوداً من الجهات والدول والصناديق المُقرضة والمانحة. زواج جديد دونه منغصات المودعين المهدورة حقوقهم.
في الخلاصة؛ ليس أكيداً أن السياسيين “رح يطلعوا منها مثل الشعرة من العجينة”. فشطب 60 مليار دولار من خسائر البنك المركزي كما ورد في الخطة الحكومية للتعافي يقع وزره في نهاية المطاف على المودعين. لن يسكت هؤلاء كما يحلو للسياسيين الاعتقاد. فاذا كان المصرفيون اصحاب ملاءة يخافون على ما تبقى لديهم، فالمودعون لم يعد لديهم ما يخسرونه أبداً.
بعد انتهاء موسم كذب الانتخابات البرلمانية سيتوالى حلول فصول الاستحقاقات وعلى رأسها مصير ودائع بنحو 100 مليار دولار قيمة مؤخر صداق طلاق السياسيين والناس هذه المرة. مبلغ بهذا الحجم يستحيل دفعه بالمعروف. ربما سيستحق يوماً بالدم.. من يدري ماذا ينتظرنا من أيام صعبة؟