الرئاسة الثالثة.. كهولةٌ مبكرةٌ

صعود نائب رئيس الجامعة الأميركية الى سدة الرئاسة الثالثة يستهلك أفكاراً سياسية كثيرة. ما أطل هذا الرجل على اللبنانيين إلا شاكياً وناعياً. مرة شهر إفلاس الدولة. ثانية ظهّر ما يعتمل في صدور وعقول اللبنانيين لجهة فقدانهم الثقة بدولتهم ووطنهم. ثالثة جاهر بالإرتماء في أحضان صندوق النقد، ولكنه أضفى "تاريخية" على ذلك اليوم غير السعيد.  

ما يجدر التفكر فيه حول تبوء الرجل رئاسة مجلس الوزراء هما الوظيفة والدور اللذان حملاه من الجامعة الاميركية إلى السراي الكبير. فقد شغل المنصب الأكثر حساسية وفاعلية في الجمهورية الثانية لأن السيد سعد الحريري ما عاد قادراً على الإستمرار في ظل شرط خارجي ينص على تأليف حكومة بغير حزبيين مع الذهاب الى صندوق النقد الدولي. وفي ظل شرط داخلي، في المقابل، كان مانعاً لهذا التوجه ومثَله خليلا حركة أمل وحزب الله، ومعهما “الباسيلية” بشقيها ميشال عون وجبران باسيل.

أخذ الرجل لقب “دولة الرئيس” غير عابىءٍ بحيثيات التمثيل التي تفرضها أعطاب ـ أعراف بنيوية، في النظام السياسي اللبناني، ذلك أن هذا النظام تقع في أولى اعتباراته المذهبيات السياسية. كما أنه دائماً يمضي محكوماً بالأقوياء فيها. هو في الأساس لا يقيم اعتباراً للضعفاء. أو على وجه أدق للضعيف. والضعيف في حالة النظام اللبناني هو المواطن وصاحب الكفاءة.

وصول الأكاديمي إلى حيث هو، كان بأكثرية ضئيلة (69 نائباً). وهذا إذا كان لا ينفي أنه يمثل موقع السنة، لكن بالمقابل، هناك الوقائع السياسية التي تؤكد أنه ليس زعيماً لهم. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يتردد على الإطلاق بتبني المواضيع الخلافية. انه يرذل من حساباته هاجس الدقة والمسؤولية، فيندفع أكثر فأكثر نحو إطلاق أحكام مبرمة حيناً ضد المصرف المركزي وسياساته النقدية، وأحياناً ضد الحريرية بوجهيها السياسي والاقتصادي وأخيراً ضد الكنيسة الأرثوذكسية، ومعها ما تبقى من رموز الأرثوذكسية السياسية.

مسألة التمثيل في النظام اللبناني تستحضر دوماً ثنائيات متعادلة من نوع: قوة التمثيل مقابل الاستقرار. الأمن معادل لطمأنينة الطوائف والمذاهب. المتحكمون والضحايا. وأبشع نتائج سرديات هذه الثنائيات كانت في قبرشمون. وبعدها “المظلومية السُنية” التي انبعثت فجأةً وراحت تخرج عن أطوار النقاش لتنطوي على شيء من التحريض. لقد بلغت هذه “المظلومية” حداً دعا فيها منظروها إلى مواجهة مع سلاح “حزب الله” ذي الطبيعة الإقليمية والدولية على ما أخبرت السيدة كوندوليزا رايس به فؤاد السنيورة يوم كان رئيساً للحكومة قبل عقد ونصف من الزمن. وإذا ما قُيض لمثل هذا الشحن أن يصل إلى خواتيمه الإنفجارية، فعندها لن يبقى من لبنان سوى أطلالٍ لن نجد من يبكي عليها.

كل هذا، ورئيس الحكومة يدشن السياسة من أضيق مربعاتها. يطلق مواقف يروم منها إظهار شخصية “الصقر” القادر على مقارعة “صقور” النظام السياسي. لكن ما يلبث أن ينكفىء مع إطلالة سعد الحريري من بيته مطلقاً تصريحات نارية في “دردشات” صحفية. بعدها، يعود مغامراً أكثر فأكثر غير آبهٍ بتصدعات الوضع الدولي والإقليمي من غزة ودرعا والجولان إلى واشنطن وطهران ولا بموقع لبنان على خط هذه التصدعات.

في إطلالاته، يبدو منتحلاً لصفة الزعامة. ايماءات وجهه مختلفة عما يرطُن به صوته. كل ما يفعله هو فهرسة الأزمات التي نزلت بلبنان منذ أن خرج من الحرب الأهلية. يخاطبنا بصوتٍ متهدجٍ ويلقي جملاً عن كارثية الوضع، ما يجعل المرء يعتقد، أن محيط الرجل ومستشاريه هم خليط غير متجانس

الأدهى في عمل رئيس الحكومة أنه يعمل من خارج صفته الأكاديمية. ذلك أن مهمة الأكاديميين في السياسة هي التنبؤ بالمستقبل والحيلولة دون الوقوع في الجانب المأساوي منه. وهذا ما لا يفعله رئيس الحكومة الحالي. تجريبيته تطغى على ما عداها، فتراه يتحرك خبط عشواء. حيناً لا يتنبه إلى شراسة وقوة حارسي النظام وتوازناته: نبيه بري ووليد جنبلاط. وأحياناً يبدو كأنه يردد صدى جبران باسيل بلا إنتباه إلى إعلام يرصد النقطة والفاصلة.

في إطلالاته، يبدو منتحلاً لصفة الزعامة. ايماءات وجهه مختلفة عما يرطُن به صوته. كل ما يفعله هو فهرسة الأزمات التي نزلت بلبنان منذ أن خرج من الحرب الأهلية. يخاطبنا بصوتٍ متهدجٍ ويلقي جملاً عن كارثية الوضع، ما يجعل المرء يعتقد، أن محيط الرجل ومستشاريه هم خليط غير متجانس، يكاد الصالح أو الشاطر بينهم يضيع في غياهب الطالح و”الثأري” والأكاديمي.

أفضل ما يُجيده القابض على السراي الكبير هو نعي الواقع من دون أن يُبشر بخيرٍ محتمل. يعلن دخول النفق، ولا يفصح عن كيفية الخروج. وإذا فعل، فأنه يتلو علينا حواصل ما تقدم به سعد الحريري: خطة ماكينزي معطوفة على طلب “غوث” صندوق النقد الدولي. والإثنان، الخطة والصندوق، كانا احتمالين، على الأرجح غير موفقين، لكن مع تسارع الانهيار وتردي الوقائع، كانت قيمة أي حاكم بأن يقول للبنانيين، إن البدائل اللبنانية ممكنة ولكن هذه شروطها وظروفها وحيثياتها.

متابعة رئيس الحكومة تلفزيونياً تبعث على الملل مرةً، وتجعل المشاهد مربكاً مرات أكثر. نظراته تدور في كل الاتجاهات كما الزهر على طاولة الروليت. نظاراته المتدلية على أنفه لا تضفي عليه “هيبةً” أكاديمية. بالعكس، تحيله إلى كهولة مُبكرة. خطاباته تبدو أنها مُستعارة من أزمنة سوفياتية. لا تعكس على الإطلاق وظيفته السابقة في الجامعة الأميركية.

إقرأ على موقع 180  الإطار المعرفي للفكر الإسلامي: متى تحدثُ "الثورةُ الكانطيّة" (1)؟

عيناه الزائغتان خلال اطلالاته المُتلفزة غيرها في  صوره الشخصية في مجلده الأثير الذي “عُرف” به يوم ترشيحه ليكون بديلا من الحريري وبعده ثلاثة مرشحين لرئاسة الحكومة. ففيه (المجلد)، يطل ـ على ذاته وعلى من تورط بتصفحه ـ مُعتزاً بنفسه. لا بل يبدو في إحدى الصوًر كسائح غريب يرى صخرة الروشة للمرة الأولى. وفي كل الصوًر الأخرى، يبدو على اتفاق وتواطؤ مع الكاميرا ناظراً إليها نظرة من يطلب الصورة لنفسه الواثقة جداً وبطريقة مُفرطة. هكذا بدا ان الرئيس الجديد وفد إلينا آتياً من حُبَين: حُب صورته وحُب والدته إذ أطلق أسم الراحلة على إحدى المدارس يوم كان وزيراً في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبل أن يخرج عليه ويذهب إلى الجميع مُقدماً أوراق اعتماده. ما كان يعنيه رضا الطائفة، وهذه تسجل له لا عليه، فقد استحصل على رضا الله وحزبه.. وحليف الحزب وصديقه.

يعتقد رئيس الحكومة الحالي أن الخطابات المُطولة تعكس فهماً أعمق للأمور. وأنها تستنفر مناصرين لمضامينها. في حين أنها تفعل العكس من ذلك تماماً. فما برح الأمن يتردى. والاقتصاد ما انفك يتصدع. والأسوأ ان استنفار المذاهب والطوائف يتوسع. حتماً ليست سياسته مسؤولة عما يحصل أبداً. لكن اللاسياسة هي المسؤولة أولاً. قبله كانت انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، لكن على امتدادها، لم يُستعمل “المولوتوف” عضداً لحرية الرأي وحرية التظاهر. مع وصوله، تنقل “كوكتيل المولوتوف” من طرابلس الى صور ولله الحمد. بالشكر تزيد النعم.

يرى رئيس حكومتنا إلى مشكلة البلد على أنها اقتصادية ـ تقنية. في حين أن الوقائع تدحض هذا لتقدم العطب السياسي الأصلي في النظام، وما تراكم عليه منذ الحقبة السورية حتى اليوم، على الاختلالات النقدية والمالية. وعلى هذا أخفق “دولته”، فلا استطاع مكابدة “أثرياء” نظام المحاصصة. ولا نجح في أن يكون مُفوه الفقراء. هكذا راح يتبدد ما راكمته انتفاضة 17 تشرين ومعه كل ما زعمه النظام المصرفي مجتمعاً عن قوةٍ مُفترضة.

من بين مفارقات كثيرة تستدعيها سيرة رئيس الحكومة ماضياً وحاضراً، اختراعه خصومات “شبحية” لنفسه، فقد أطلق مواقف ضد “الاوركسترا” و”المحرضين الذين يمارسون الآلاعيب في الداخل والخارج”. هو متيقن بأن هناك من يحاول منعه من زيارة البلدان الخليجية. وفي الوقائع، هو دقّ أبواب الخليج، كما فعل الحريري من قبله، ولم تفتح لهما سوى إمارة قطر. لم يتجرأ الحريري على زيارة الدوحة قبل الرياض وفوّت على نفسه عرضاً قطرياً كبيراً، أما هو، فلم يكن ليقبل الأميركيون بأن يزور عاصمة خليجية واحدة، صغيرة أم كبيرة، قبل تقديم أوراق الإعتماد إلى صندوق النقد. ولأن الدنيا “وجوه وعتاب”، حلت جائحة كورونا، فأقفلت المطارات وانعزلت الدول على ذواتها.. وبات علينا أن ننتظر والحمد لله!

في هذه المعمعة، ليس أمام اللبنانيين إلا الصبر، لكن الأكلاف ستكون باهظة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، لأن ضجيج التصدعات الدولية أصدقُ إنباءً بما هو آتٍ، ولا بأس في هذا الوقت الضائع، أن تتولى شركة متخصصة مهمة إعادة تظهير صورة رئيس حكومتنا بأدق تفاصيلها (صورة ووقفة ومشية ونظرة وخطابا وبدلة)، طالما حزب الله يردد أن هذه الحكومة صامدة.. وباقية حتى آخر أيام العهد!

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180   لعبة الجاسوسية في الجامعة الأمريكية.. قضية السبانيولو نموذجاً