إيران 1925ـ 1979.. من الملكية إلى الخمينية!

لم يكن عام ١٩٧٩ نقطة تحول فى العلاقات الدولية فقط بسبب الغزو السوفيتى لأفغانستان وعودة التوتر مرة أخرى للعلاقات السوفيتية الأمريكية وخصوصا بعد دعم الأمريكان للمجاهدين الأفغان والعرب، كما شرحنا مسبقا، بل كان هذا العام شاهدا على حدث آخر ساهم فى تصاعد تيارات الصحوة الإسلامية؛ ألا وهو اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران.

حكمت أسرة بهلوى إيران منذ عام ١٩٢٥، وذلك عندما قام الجنرال فى الجيش الفارسى رضا بهلوى بالزحف نحو طهران والاستيلاء على السلطة ليعلن نفسه وزيرا للحرب، ثم أعلن نفسه رئيسا للوزراء، قبل أن يعلن نفسه فى الأخير «شاها» على البلاد لتبدأ مرحلة الحكم الملكى الإيرانى!
قبل عامين فقط من تنصيب رضا بهلوى كحاكم منفرد لإيران (وقتها كانت تتخذ الاسم القديم «فارس» قبل تحول الاسم رسميا إلى إيران فى ١٩٣٥)، كانت الإمبراطورية العثمانية قد سقطت لتوها ليبدأ مصطفى كمال أتاتورك عملية تحديث وعلمنة للدولة التركية مطيحا بكل مكوناتها الإسلامية، وهو الأمر نفسه الذى لجأ إليه الشاه وإن كانت قدرته على محاربة التيارات الإسلامية ورجال الدين لم تكن بنفس القدر من النجاح الذى تحقق على يد أتاتورك، فبقيت للعلماء الشيعة أهميتهم فى إيران وخصوصا خارج المدن الكبرى، حيث سيطر الشاه على المناطق الحضرية، بينما سيطر رجال الدين على المناطق الريفية، وهكذا صار التوازن بين الطرفين لعقود، وإن كان هذا التوازن لم يكن دائما سلميا؛ فكثيرا ما حدثت صراعات دموية بين الطرفين!
فقبل قيام شاه إيران بانقلابه بثلاثة عقود وتحديدا فى ١٨٩١ أظهر رجال الدين الشيعة قوة صارت مؤسسة لوضعهم فى النظم السياسية الإيرانية المتعاقبة، وذلك عندما قاموا بثورة ضد حكم الشاه بعد أن قام بتوقيع اتفاقية مع بريطانيا تعطى للأخيرة الحق فى احتكار تجارة وإنتاج التبغ داخل إيران، وقد نجحت ثورتهم بالفعل فى إجبار الشاه على إلغاء الاتفاقية والانصياع لمطالب رجال الدين!
لم ينتظر شاه إيران الجديد رضا بهلوى كثيرا حتى اصطدم برجال الدين مرة أخرى وذلك فى عام ١٩٣٥ بعدما قام بفرض سلسلة من القرارات التى ألغت الحجاب وسمحت بالاختلاط بين الجنسين فى قاعات الدراسة مع إلغاء كل القوانين الدينية فى البلاد، فقام العلماء فى مدينة مشهد بثورة أدت إلى الاصطدام بقوات الشاه وانتهت بمقتل وإصابة المئات، ورغم نجاح الشاه فى السيطرة على ثورة مشهد فإنها لم تنتج سوى المزيد من الكراهية بين الشاه والعلماء ليتكرر الصدام أكثر من مرة لاحقاَ وبمزيد من الدماء!
ورغم أن شاه إيران كان فى أوج قوته مع مطلع الأربعينيات، إلا أن اعتقادا بريطانيا تم بناؤه على معلومات مخابراتية (لم يتم أبدا التأكد منها حتى اللحظة) رجحت أن الشاه يؤيد هتلر فى الحرب العالمية الثانية، وبناء عليه قامت قوات بريطانية وسوفيتية مشتركة بغزو إيران وإجبار بهلوى على التنحى، ولكن ولأن البريطانيين لم يريدوا حكما جمهوريا مستقلا فى إيران فقد قرروا عرض صفقة على الشاه المخلوع بحيث يقبل مغادرة البلاد إلى المنفى فى مقابل سماح بريطانيا لعائلته فى الاستمرار فى الحكم وهو ما وافق عليه الشاه بالفعل ليذهب منفيا إلى موريشيوس ومنها إلى جنوب أفريقيا التى توفى فيها عام ١٩٤٤ ليتم نقل جثمانه للدفن بالقاهرة قبل أن يتم إعادة الرفات إلى إيران لاحقا!

***

فور تنحى الشاه الأب، تولى ابنه محمد رضا شاه الحكم وهو فى عمر الـ١٨ ليكون لقمة سائغة ومجرد أداة فى يد بريطانيا التى استغلت صغر سنه لتضع يدها على البترول الإيرانى، وهو الأمر الذى حاول الشاه الأب مقاومته أثناء وجوده فى الحكم.
لم تتوقف التدخلات الخارجية فى شئون الحكم فى إيران عند حد الاقتصاد والسيطرة على الموارد المالية، ولكنها تخطت ذلك إلى شئون قصر بهلوى ثم لاحقا التحكم فى مصير النظام السياسى الإيرانى نفسه! فحينما تم انتخاب رئيس الوزراء محمد مصدق عام ١٩٥١ وفور قيام الأخير بالحد من سلطة الشاه عن طريق التأكيد على سلطة البرلمان المنتخب من الشعب وقيامه بتأميم البترول الإيرانى، وفور شعور الشاه بخسارة سطوته وفراره من إيران خوفا من الإطاحة به من الحكم والقبض عليه، قامت المخابرات البريطانية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية فى تنفيذ انقلاب عسكرى بواسطة الجيش الإيرانى وبدعم كلتا الدولتين لتتم الإطاحة بمصدق ووضعه فى السجن وإعادة تنصيب الشاه مرة أخرى فى ١٩٥٣!

فى العام 1963 تحديدا بزغ نجم أحد أبرز الرموز الدينية فى إيران وهو آية الله روح الله الخمينى الذى أخد يهاجم الشاه صراحة ويتهمه بالفساد والانصياع للغرب على حساب الشعب الإيرانى متهما سياسات الشاه التحديثية بأنها مؤامرة لتدمير الهوية الإسلامية للشعب الإيرانى، وهو ما تسبب فى دخوله السجن لعدة أشهر قبل أن يخرج ويجدد هجومه

عاد الشاه الابن إلى الحكم أكثر قوة وثقة بالنفس وقطعا أكثر ولاء لبريطانيا والولايات المتحدة مصدر شرعيته الرئيسية، بينما لم يكن الشعب يعنى له الكثير، وهكذا هو حال الديكتاتوريات تاريخيا، فرِضا الغرب أهم بكثير من غضب الشارع إلى أن يعى الحاكم خطأ ذلك الرهان ولكن يكون ذلك عادة بعد فوات الأوان، وهو ما حدث بالفعل مع محمد رضا بهلوى فى ١٩٧٩ بعد أن قامت الثورة الشعبية ضده وواجه نفس المصير الذى واجهه أبوه، حيث الانتقال من منفى إلى آخر إلى أن استقر به الحال فى مقابر القاهرة التى سبق واحتضنت جسد أبيه، لكن كيف كان الطريق للثورة الإيرانية؟

إقرأ على موقع 180  انتخابات بريطانيا: "تفويض قوي" للخروج من أوروبا

***

مع بداية الستينيات ورغم سياسات التحديث التى حاول الشاه تقديمها إلى إيران، إلا أنها لم تكن كافية لعلاج الأزمات الاقتصادية فى البلاد والتى واكبت حالة من الركود واتساع الفجوة بين الطبقات، وعليه قام الشاه فى ١٩٦٣ بإعلان ما أسماه «الثورة البيضاء» وهى مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية التى سعت إلى إعادة توزيع الدخول ومنح المرأة المزيد من الحقوق المدنية مع زيادة تمثيل الأقليات فى مؤسسات صنع القرار، ولكن ولما كانت هذه السياسات أو بعضها على الأقل موجها تحديدا ضد الطبقة الارستقراطية الدينية فى إيران حيث وضعت الحكومة الإيرانية يدها على أراضيهم الزراعية لإعادة توزيعها، فقد زاد ذلك من حنق رجال الدين ضد الشاه وجدد مشاعر العداء التاريخية بينهم وبين أسرة بهلوي!
فى العام 1963 تحديدا بزغ نجم أحد أبرز الرموز الدينية فى إيران وهو آية الله روح الله الخمينى الذى أخد يهاجم الشاه صراحة ويتهمه بالفساد والانصياع للغرب على حساب الشعب الإيرانى متهما سياسات الشاه التحديثية بأنها مؤامرة لتدمير الهوية الإسلامية للشعب الإيرانى، وهو ما تسبب فى دخوله السجن لعدة أشهر قبل أن يخرج ويجدد هجومه مرة أخرى ويكتسب المزيد من الشهرة والتأييد بين طلاب العلم الدينى وغيرهم من الطبقات المحافظة دينيا فى إيران، فضلا قطعا عن تبوئه مكانة رفيعة بين رجال الدين، فما كان من الشاه إلا وقبض عليه مجددا مقررا هذه المرة الخلاص منه بالنفى خارج البلاد وهو ما تم بالفعل فى عام ١٩٦٤!
لكن نفى الإمام الخمينى إلى خارج البلاد فى الواقع لم يزد الأخير إلا شهرة بين الكثير من الإيرانيين فى الداخل والخارج، ولما فشلت سياسات الإصلاح الاقتصادى التى بشر بنتائجها محمد رضا بهلوى، بل ومع دخول إيران فى المزيد من الأزمات الاقتصادية والتى زادت مع منتصف السبعينيات ممثلة فى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة البطالة وزيادة نسبة الفقر والتى رأى فيها الكثير من الشعب الإيرانى تأكيدا على فساد قصر بهلوى وخصوصا وأن ذلك توازى مع ارتفاع أسعار البترول عالميا ومن ثم زيادة الدخل القومى الإيرانى، فما كان ذلك إلا محفزا للمزيد من التوترات السياسية والثقافية والاجتماعية داخل البلاد.
زادت الأمور سوءا فى الأعوام التالية، ففى ١٩٧٦ اتخذ الشاه خطوة رغم رمزيتها إلا أنها كانت دافعا لمزيد من تأجيج مشاعر العداء له وتحديدا من رجال الدين، حيث إنه فى هذا العام قرر وبشكل مفاجئ إلغاء التقويم الهجرى واعتماد التقويم الفارسى القديم والذى يبدأ مع تولى كروش العظيم حكم أول إمبراطورية فارسية نحو ما يزيد عن ٥٠٠ عام قبل ميلاد السيد المسيح، وهكذا فبين عشية وضحاها تحولت إيران من العام ١٣٥٥ الهجرى إلى العام ٢٥٣٥ وفقا للتقويم الفارسى الجديد!
فإذا ما أخذنا فى الاعتبار زيادة السمعة السيئة لأجهزة الأمن الداخلى فى إيران، وأشهرها جهاز الـ«سافاك»، واتهام الأخير بتعذيب المعارضين واغتيال آخرين لعل أشهرهم أحد أهم منظرى الثورة الإيرانية ــ على شريعتي ــ فى ١٩٧٧، فتكون قد توافرت كل أسباب الثورة على الشاه حيث كانت هناك ثلاثة تجمعات معارضة للأخير أهمها تيار المعارضة الإسلامية، وتيار المعارضة اليسارية، بل وتيار آخر علمانى لكن لم تكن تروقه سياسات الشاه القمعية، وبالتدريج أجمعت هذه التيارات على ضرورة تغيير نظام الحكم فى إيران وهو ما أكمل الحديث عنه الأسبوع القادم.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ثلاثة سيناريوهات لفيلم فيينا.. النووي!