برغم أن شاه إيران محمد رضا بهلوي حاول جاهدا أن يعيد العمل فى أسرع وقت ويستجيب لمطالب المضربين عن العمل، إلا أن أيامه هو نفسه صارت معدودة فى السلطة، مما جعل الإنتاج العالمى للبترول يتعرض للانخفاض طوال العام التالى للثورة مما أدى إلى ارتفاع أسعار البترول بشكل جنونى حتى وصل سعر البرميل إلى ما يقرب من ٤٠ دولارا أمريكيا!
وبرغم أن منظمة الدول المصدرة للنفط والمعروفة باسم «أوبيك» حاولت تعويض هذا النقص فى السوق عن طريق زيادة الإنتاج، خاصة مع حرص القائد الجديد فى إيران آية الله الخمينى على استئناف العمل بحقول البترول لعلاج الأزمة الاقتصادية فى البلاد والتى كانت قد تفاقمت مع نهاية أيام الشاه فى الحكم، إلا أن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية (١٩٨٠ــ ١٩٨٨) قد أعاد الأزمة إلى نقطة الصفر خاصة وأن كلتا الدولتين (إيران والعراق) من أعضاء منظمة “الأوبيك”، وهو ما دفع المملكة العربية السعودية لقيادة سوق النفط مرة أخرى عن طريق زيادة الإنتاج لتعويض الفجوة بين العرض والطلب ومحاولة السيطرة على الأسعار!
***
هنا قد يكون من المهم العودة إلى بداية الستينيات وعرض خلفية مختصرة عن منظمة “الأوبيك” باعتبارها كانت وما زالت واحدة من أهم اللاعبين الدوليين المتحكمين فى سوق النفط، كون أنها تتحكم فى ٤٤٪ من إنتاج سوق النفط، فضلا عن امتلاكها ما يزيد على ٨٠٪ من احتياطى النفط العالمى!
قبل إنشاء منظمة “الأوبيك” فى ١٩٦١، كان سوق النفط تسيطر عليه عدد من الشركات الأمريكية والبريطانية والأوروبية، وقد عُرف هذا التحالف باسم «الأخوات السبع» وهم الشركة الإنجليزية ــ الإيرانية للبترول، شركة شيل الهولندية الملكية، شركة البترول فى كاليفورنيا والمعروفة باسم «شيفرون»، شركة الخليج للبترول وهى شركة أمريكية أيضا والآن اندمجت مع شركة شيفرون، شركة تيكسيس للبترول «تيكسكو» وهى الآن أيضا ضمن تحالف «شيفرون»، شركة البترول بنيوجيرسى والتى عرفت باسم «إيكسون» والآن باتت جزءاً من تحالف «إيكسون موبيل»، وأخيرا شركة البترول بنيويورك والتى عرفت باسم «موبيل» والآن هى جزء من تحالف «إيكسون موبيل» هى الأخرى!
كان هذا يعنى ببساطة أن إنتاج البترول فى الدول غير الأوروبية أو الأمريكية وخاصة فى السعودية وإيران والعراق وفنزويلا كان محتكرا بواسطة هذه الشركات وكانت هذه الدول لا تتحكم لا فى إنتاجها ولا فى الأسعار العالمية مما كان يعنى أيضا تدخلا سافرا فى شئونها السياسية من الدول الغربية، ولنا فى الانقلاب على رئيس الوزراء الإيرانى محمد مصدق بواسطة المخابرات الأمريكية والبريطانية عبرة كما شرحنا مسبقا!
أصبحت دول “الأوبيك” لاعبا دوليا قويا فى تحديد أسعار وسياسات البترول والطاقة ورغم الانتقادات الغربية الكبيرة الموجهة لها واتهامها بالسعى لاحتكار السوق إلا أن تحالف “الأوبيك” ظل صامدا بقيادة سعودية بالأساس كونها المنتج الأكبر بين الدول الأعضاء
أمام هذا الاحتكار لتحالف “الأخوات السبع” وخاصة بعد قرارهم فى ١٩٥٩ خفض إنتاج البترول فى فنزويلا ودول الخليج بنسبة ١٠٪ وأمام عجز هذه الدول عن الحركة وعن وقف التدخل فى شئونها، عُقد الاجتماع الأول لمنظمة الدول العربية المصدرة للبترول فى القاهرة عام ١٩٦٠ لمناقشة مواجهة هذا الاحتكار، كما شاركت فنزويلا كمراقب. وعلى هامش الاجتماع اتفقت كل من السعودية وفنزويلا على تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة أسعار النفط والتنسيق في ما بينهما في ما عرف باتفاق «جنتلمان المعادى»، وكانت هذه هى البداية للاتفاق على إنشاء منظمة “الأوبيك” والتى بدأت بخمس دول هى: «السعودية، العراق، الكويت، إيران، وفنزويلا» ثم توسعت لاحقا لتشمل ١٣ دولة هى بالإضافة للدول السابقة «الجزائر وأنجولا والكونغو وغينيا الاستوائية، والجابون، وليبيا، ونيجيريا، والإمارات»، هذا فضلا عن أن ثلاث دول سبق لها العضوية فى المنظمة لكنها ابتعدت لاحقا وهى دول «قطر والإكوادور وإندونيسيا»!
***
وهكذا توسعت دول “الأوبيك” فى عضويتها وفى تأثيرها الدولى على أسعار النفط منذ تلك اللحظة وحتى الآن، محاولة تحقيق أهدافها فى استعادة السيادة على إنتاجها للبترول وتحقيق أرباح منتظمة على المدى البعيد بدلا من المكاسب الكبيرة لأوقات محدودة وكان هذا قطعا يتم مع سياسة أغضبت معظم الدول الغربية وهى سياسة تأميم شركات البترول الدولية العاملة لديها!
وهكذا أصبحت دول “الأوبيك” لاعبا دوليا قويا فى تحديد أسعار وسياسات البترول والطاقة ورغم الانتقادات الغربية الكبيرة الموجهة لها واتهامها بالسعى لاحتكار السوق – وكأن هذه الدول لم تكن تحتكر السوق سابقا ــ إلا أن تحالف “الأوبيك” ظل صامدا بقيادة سعودية بالأساس كونها المنتج الأكبر بين الدول الأعضاء! بل ولاحقا أصبح لدول “الأوبيك” برنامج لدعم التنمية دوليا، وكذلك أصبحت المنظمة تنسق مع دول أخرى مثل روسيا بصيغة تعرف باسم «أوبيك +»!
وبالعودة لصدمة البترول الثانية، فإن واحدة من أكبر الدول التى تضررت من الأزمة، كما حدث فى الأزمة الأولى عام ١٩٧٣، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أن الأخيرة كانت قد بدأت بعض برامج استراتيجية لتقليل اعتمادها على بترول الشرق الأوسط فضلا عن اهتمامها بتنمية إنتاج حقولها المحلية والاعتماد بشكل أكبر على البترول الكندى والمكسيكى، فضلا عن بحثها عن بدائل النفط كمصدر للطاقة، وخاصة الطاقة النووية والشمسية، إلا أن ضيق الوقت بين الأزمتين، فضلا عن تعرض البلاد لمشكلة نووية حينما حدث تسريب فى أحد محركات الطاقة النووية فى ولاية فيلادلفيا، عرض البلاد لحالة ركود وأزمات حادة فى أسعار النفط وزحام كبير على محطات الوقود، مما دفع الرئيس الأمريكى جيمي كارتر ومن بعده الرئيس رونالد ريجان إلى اتباع أسلوب الأيام الفردية والأيام المزدوجة؛ بمعنى أن من تكون لوحة قيادته تنتهى برقم فردي، فله الحق فى ملء الوقود فقط فى أيام الشهر الفردية، بينما من تنتهى لوحة سيارته برقم مزدوج فله الحق فى الملء من محطات الوقود فى الأيام المزدوجة وفقط وهكذا!
لكن لعل أكبر القطاعات المتضررة من أزمة البترول الثانية كان قطاع السيارات الأمريكية (فورد، كريسلر، وبى إم) وقد تعرضت صناعة السيارات الأمريكية فى هذا الإطار إلى ضربتين، الأولى أن حجم محركات بعض سياراتها أصبح أكثر كلفة فى استهلاك الوقود على المستهلك، ومن ناحية ثانية، فإن السيارات الألمانية واليابانية قد وجدتها فرصة مناسبة لتقديم سياراتها الأكثر كفاءة فى استهلاك الوقود سواء لصغر حجم المحرك أو لكفاءته وهو ما عرض الشركات الأمريكية لأزمات مالية كبيرة وخاصة فى ظل احتلال السيارات اليابانية للسوق الأمريكية حيث ارتفع وجود السيارات اليابانية فى الولايات المتحدة من ٩٪ فقط فى منتصف السبعينيات، إلى ٢١٪ مع بداية الثمانينيات، مما اضطر الشركات الأمريكية إلى الاستغناء عن مئات العاملين، ودفعها لإعادة صياغة خطط التصنيع وكذلك الضغط على البيت الأبيض لحماية سوق صناعة السيارات الأمريكية بفرض رسوم عالية على السيارات الأوروبية واليابانية وهو ما شكّل أزمة بين الولايات المتحدة واليابان بخصوص حرية التجارة والإجراءات الحمائية، وهى أزمة استمرت لسنوات ومازالت تشعر بصداها حتى اللحظة وخصوصا على خلفية أزمات طاقة لاحقة.
(*) ملحوظة: اعتمدت المقالة فى بعض فقراتها على ورقة بعنوان «صدمة أسعار البترول والنشاط الاقتصادى الأمريكى» لأنا ماريا هريرا وآخرين والمنشورة على موقع جامعة كنتاكى، وكذلك على ورقة بعنوان «أوبيك والأخوات السبع والسيطرة على السوق» للباحث أون وود وآخرين والمنشورة عام ٢٠١٦ العدد رقم ١٣٢ من دورية “التنظيم والسلوك الاقتصادى”.
(**) بالتزامن مع “الشروق“