قبل تفجيرات «الجزائر» و«الدار البيضاء»، وقبل أن تكون هناك ذريعة جديدة لتمرير «قانون مكافحة الإرهاب»، نسبت للدكتور «فتحى سرور» رئيس مجلس الشعب تصريحات لوحت بعقوبات جنائية تنتظر الصحفيين عند تغطية أعمال ونشاط أية «جماعات محظورة» باعتبارها تحريضا على الإرهاب ودعما له!
نالت الدكتور «سرور» انتقادات حادة دعته إلى نفى ما نسبت إليه من تصريحات معاتبا الصحف الحزبية والمستقلة لتسرعها فى إصدار أحكامها قبل التأكد من صحتها.
سألته هاتفيا بصوره مباشرة: «هل اتصل بك رئيس الجمهورية فى هذا الشأن؟».
كانت إجابته سريعة وحازمة: «الرئيس يعرف أننى رجل عاقل.. ولا يمكن أن أقول هذا الكلام الفارغ!».
تصادف بعدها أن بثت قناة «المحور» نصوصا صوتية للدكتور «سرور» تؤكد أن ما نشر قاله فعلا!
كانت تلك التصريحات أقرب إلى «بالونات اختبار» لردود فعل الصحفيين والمثقفين والتيارات السياسية على بعض البنود، التى قد ترد فى قانون مكافحة الإرهاب الجديد.
تبدت خشية استنساخ تفجيرات «الجزائر» و«الدار البيضاء» فى شوارع القاهرة، أو أن يستحيل ما وصفه الدكتور «سرور» بـ«الكلام الفارغ» إلى سياسة مقررة ونهائية تمضى إلى نهايتها.
كان تعدد مراكز العنف والإرهاب، وقوة ضرباته فى «الجزائر» بالذات بعد شهور طويلة من استتباب الأمن فى شوارعها، منذرا بالتمدد إلى مصر.
للأمن ضروراته القصوى فى مواجهة أى عنف محتمل، لكنه وحده لا يقدر ولا يستطيع إذا لم يكن مستندا على بيئة عامة صحية تنظر بأمل إلى مستقبلها
الأمن المطلق وهم مطلق، هذه حقيقة نهائية.
انسداد القنوات السياسية والاجتماعية يشجع على العنف ويدعو إليه.
هذه حقيقة نهائية أخرى.
للأمن ضروراته القصوى فى مواجهة أى عنف محتمل، لكنه وحده لا يقدر ولا يستطيع إذا لم يكن مستندا على بيئة عامة صحية تنظر بأمل إلى مستقبلها.
حرية الصحافة هى رئة التنفس فى المجتمع، فإذا ما خنقت ضربه الاختناق العام.
عند حدود اليأس من أية إصلاحات سياسية أو اجتماعية ترد بعض الحقوق التى نهبت قد يتبنى شباب ــ لا علاقة لهم بأى تنظيم متطرف ــ أفكاره ويمضى على طريقه فى «لعبة السلاح والدم».
فى «الدار البيضاء» تلك المدينة الخلابة لا تصعب ملاحظة الفقر فى زواياها وأحشائها.
من أبناء تلك المدينة، ومن رموزها الراحل «محمد البصرى» الشهير بـ«الفقيه البصرى»، وقد أقام فى القاهرة منفيا لفترة طويلة مع أسرته، وهو ــ مع «عبدالرحمن اليوسفى» أول رئيس وزراء للمغرب فى نهايات عصر الملك «الحسن الثانى» ــ من أوثق رفاق الزعيم التاريخى «المهدى بن بركة»، الذى اختطف فى باريس وأذيب جسده على يد الجنرال «محمد أوفقير» رجل الملك القوى ووزير داخليته الذى انقلب عليه، ودفعت اسرته بعد إعدام رجلها ثمنا باهظا ومروعا.
كانت تلك مأساة سياسية وإنسانية.
المحزن أن «البصرى» و«اليوسفى» اختلفا فى الخيارات السياسية، التى انتهجها الأخير أثناء توليه رئاسة أول حكومة تناوب فى تاريخ المغرب.
قبل رحيل «البصرى» بوقت قصير وقف أمام عدد من الشخصيات القومية العربية فى مؤتمر ضمها بـ«الدار البيضاء» أثناء مأدبة عشاء بأحد قصورها الأندلسية، وعبق التاريخ يخيم على قاعاتها، محذرا ضيوفه من الانشغال بسحر المكان عن حقائق ما حوله: «أرجوكم أن تلقوا نظرة على بيوت الصفيح التى تحيط بكم، فالفقر فيها كافر، وقد لا تتصوره مخيلتكم».
كانت تلك رسالة للعالم العربى كله، لا للمغرب وحدها، عن بعض مواطن ومكامن العنف والإرهاب.
كان هناك إصلاح سياسى يمضى وئيدا ومصالحات ومراجعات لخطايا الماضى فى تعذيب السجناء السياسيين فى أقبية السجون، ومساحات حرية فى الصحافة أخذت تتحرك وتنتقد الملك على بعض استحياء.
كانت تلك مؤشرات إيجابية تحصن المغرب بأكثر مما تحصنه الإجراءات الأمنية.
ذلك ما لم يكن يريد نظام «مبارك» فى مصر أن يتعلمه، فليس بالأمن ــ وحده ــ تتحصن المجتمعات من موجات العنف والإرهاب.
قد تباغت ضربات الإرهاب سلامة أى مجتمع، لكنها لا تنال منه إذا كان محصنا سياسيا واجتماعيا ونوافذه مفتوحة على الأمل فى المستقبل.
للجزائر.. قصة أخرى ــ أطول وأفدح مع العنف وموجاته.
حرية الصحافة هى رئة التنفس فى المجتمع، فإذا ما خنقت ضربه الاختناق العام
مطلع تسعينيات القرن الماضى قاد الجنرال «خالد نزار» انقلابا عسكريا لمنع «جبهة الإنقاذ الإسلامى» من الوصول إلى السلطة بعد جولة انتخابات تشريعية أولى فازت بأغلب مقاعدها، وبدا أن فرنسا وراء الانقلاب الذى أزاح الرئيس «الشاذلى بن جديد».
كانت التصريحات التى أطلقها الرجل الثانى فى تلك الجبهة «على بلحاج» محرضة على الانقلاب حين أخذ يتوعد معارضيه بفرض مفهومه الخاص لـ«الدولة الإسلامية» وتغيير طبيعة الدولة بالكامل.
تلت الانقلاب حرب أهلية مدمرة بين «الجيش» و«الجبهة»، التى أخذت تنشق إلى جماعات أكثر تطرفا، وكل جماعة تميل إلى انشقاق أكثر تشددا، حتى وصلنا إلى «القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى».
صدمة تفجيرات الجزائر بدت أكبر.
كان الرهان على الإصلاح والمصالحة فى ذروته والأمل يسود البلاد كلها أن تساعد قوانين العفو العام على تطويق العنف والإرهاب.
لفترة طويلة نسبيا اكتسب أمن العاصمة طابعه الاعتيادى حتى جاءت الضربة قوية ومحكمة ومؤدية إلى خسائر فادحة فى الأرواح لكن الجزائر تجاوزت تلك الضربة وطوت بالوقت نفسه صفحة العشرية السوداء.
كانت المشكلة فى مصر أن مشروع الإصلاح السياسى يتراجع ومعدلات الفقر تتزايد، وتخلى الدولة عن أدوارها الاجتماعية يصل إلى منحنى الحديث عن خصخصة الخدمات، وحقوق المواطنة تكاد تحذف من القاموس السياسى، والنظام يرهب معارضيه بـ«قانون الإرهاب»!
وقد كان الحادث الإرهابى المروع الذى نال من كنيسة القديسين فى رأس السنة عند مطلع عام (2011) قبل (25) يوما من انفجار براكين الغضب فى يناير/كانون الثاني دالا بذاته وسياقه والأجواء التى سبقته أننا أمام مشهد النهاية، نهاية نظام لا يدرك أن الأمن المطلق وهمٌ مطلق، وأن إغلاق المجال العام بالترهيب يضرب فى نظام الحكم قبل غيره.
(*) بالتزامن مع “الشروق“