قبل أن نبدأ فى شرح بداية الحقبة الجديدة فى النظام العالمى، لا بد أولاً من أن نشرح باختصار بعض التطورات العالمية فى سياسات بعض النظم والتى تواكبت مع نهاية حقبة الحرب الباردة، وذلك من أجل تسهيل فهم كل التطورات الدولية التى بدأت منذ ١٩٩٠ــ١٩٩١ وحتى اللحظة التى نعيش فيها الآن.
***
كانت واحدة من أهم هذه التطورات، هى تهاوى العديد من النظم العسكرية فى أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وآسيا. فالنظام الدولى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ــ١٩٤٥) كان يتسم بهيمنة المكون العسكرى/ الأمني/ المخابراتى على عملية صنع قرارات السياسة الخارجية والدفاعية وسياسات الأمن القومى، فضلا عن السياسات الداخلية فى عدد كبير من دول العالم، سواء تلك التى قامت بالاستعمار، أو تلك التى وقعت ضحية له، تلك التى يمكن وصفها ــ وفقا لظروف العصر وقتها ــ بالدول الديموقراطية، أو تلك التى كان يمكن وصفها بالدول الشمولية أو السلطوية، تلك الفقيرة أو الغنية، النظم السياسية لدول الشمال أو النظم السياسية لدول الجنوب، الشرق أو الغرب!
كان هذا مفهوما بسبب عدة عوامل، أهمها عوامل عدم الاستقرار الدولى، فضلا عن الأزمات الاقتصادية المتتالية فى تلك الفترة، والأهم أن تعريف الديموقراطية وقتها كان يفتقر للعديد من العوامل وأهمها أن هيمنة المكون العسكري/الأمنى على مؤسسات صنع القرار كان يتم النظر إليه كضرورة لحماية الأمن القومي!
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الكثير من دول أوروبا الغربية التحول نحو الحكم الديموقراطي/المدنى، حيث سيطر المدنيون (السياسيون المنتخبون، التنفيذيون المختارون من سياسيين منتخبين، الأحزاب السياسية، منظمات المجتمع المدنى.. إلخ) على عملية صنع القرار فى هذه الدول! لكن ظل الوضع كما هو عليه فى الكثير من دول وقارات العالم، حيث كان العسكريون والأمنيون إما يحكمون بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، أو بشكل تشاركى مع السياسيين غير المنتخبين فى معظم الأحوال! وعلى مدى معظم سنوات الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات الماضية، فإن دولاً مثل كوريا الجنوبية، كوريا الشمالية، باكستان، الهند، الصين، الفلبين، تايلاند، ميانمار، دول آسيا الوسطى، أمريكا الجنوبية والوسطى، فضلا عن معظم دول الشرق الأوسط والعالم العربى وأفريقيا جنوب الصحراء، ودول الكتل الشرقية، كانت تُحكم بواسطة النظم العسكرية أو بواسطة أفراد ممثلين لها، أو بواسطة مدنيين أمام الستار وعسكريين خلفه، أو فى أحسن الأحوال بتشارك تام فى السلطة بين المدنيين والعسكريين. كما كانت الانقلابات العسكرية واحدة من أهم لغات العصر فى معظم هذه المناطق!
وبرغم أن دول أوروبا الغربية بقيادة الولايات المتحدة كانت تروّج دائما للديموقراطية الليبرالية، إلا أنها لم تتوانَ أبدا عن دعم النظم العسكرية فى الكثير من الدول فى آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، طالما اندرجت هذه النظم العسكرية فى احتواء الشيوعية خلال عقود الحرب الباردة!
***
لكن ومع نهاية حقبة السبعينيات، بدأت رياح التغيير تهب تدريجيا على بعض الأنظمة العسكرية، فبدأت تفقد قبضتها الحديدية داخليا، وفقدت التأييد الخارجى الغربى لأن أهميتها فى احتواء الشيوعية بدأت تتلاشى سواء بسبب تعاظم فاتورة دعمها على الولايات المتحدة، أو بسبب فشلها فى احتواء المد الشيوعى فى دولها، أو حتى بسبب أن الحرب الباردة بدأت تأخذ منعطفا آخر سلميا وحواريا بعد وصول جورباتشوف إلى الحكم، ومن هنا بدأنا نرى لعبة الدومينو على مسرح السياسة الدولية، حيث تهاوت النظم العسكرية تباعا.
بدأت رياح التغيير فى البرتغال فى عام ١٩٧٤، حيث حولت ثورة «القرنفل» الانقلاب العسكرى هناك إلى ثورة شعبية شاملة ساهمت فى تحول واحدة من أقدم دول الاستعمار وأكثرها نشاطا حتى بعد نهاية الحرب الباردة، إلى دول ديموقراطية ليبرالية تؤمن بالتعددية السياسية وتوقف سياسات الاستعمار!
مع نهاية حقبة السبعينيات، بدأت رياح التغيير تهب تدريجيا على بعض الأنظمة العسكرية، فبدأت تفقد قبضتها الحديدية داخليا، وفقدت التأييد الخارجى الغربى لأن أهميتها فى احتواء الشيوعية بدأت تتلاشى سواء بسبب تعاظم فاتورة دعمها على الولايات المتحدة، أو بسبب فشلها فى احتواء المد الشيوعى فى دولها
لكن كان التغيير الأهم فى العام التالى مباشرة وذلك بوفاة الجنرال العسكرى فرانكو فى إسبانيا وهو واحد من أقدم الحكام العسكريين السلطويين فى أوروبا الغربية، حيث ظل يحكم إسبانيا بالحديد والنار منذ منتصف الثلاثينيات وحتى وفاته فى منتصف الأربعينيات! وبوفاته بدأت إسبانيا فى التحول التدريجى نحو الديموقراطية، فقد تم إجراء أول انتخابات تعددية فى ١٩٧٧ واعتماد دستور ديموقراطى فى ١٩٧٨، ورغم أن إسبانيا بدت وكأنها فى طريقها إلى ردة سياسية حينما اندلع انقلاب عسكرى جديد قاده القائد العسكرى أنطونيو توجيرو، وحاول فيه السيطرة على الحكم عن طريق اعتقال أعضاء البرلمان فى ١٩٨١، ولكن فشل الانقلاب سريعا وسجن توجيرو لمدة ١٥ عاما فى السجون الإسبانية فواصلت آخر دول أوروبا الغربية فى التحول، طريقها نحو الديموقراطية بثبات حتى اللحظة!
وفى أمريكا اللاتينية، تواصلت لعبة الدومينو، فتحولت الأرجنتين من الحكم العسكرى إلى الحكم الديموقراطى، بعد تخبط النظام العسكرى هناك أمام انتشار الجريمة والفقر وعدم الاستقرار السياسى منذ منتصف السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات، فلم يجد الجنرالات هناك سوى الدخول فى مغامرة عسكرية ضد إنجلترا باحتلال جزر فوكلاند فى المحيط الهادى عام ١٩٨٢، على أمل أن يؤدى ذلك إلى صرف أنظار الناس عن الفشل الداخلى فى البلاد، وكذلك على أمل تلقى دعم دبلوماسى أمريكى كما كان الحال دوما خلال السنوات السابقة! إلا أن فشل الاحتلال بعد الهزيمة العسكرية السريعة من إنجلترا، وتخلى إدارة رونالد ريجان عن جنرالات الجيش هناك، أدى إلى نهاية النظام العسكرى وبداية حقبة ديموقراطية جديدة فى البلاد، صحيح أنها تعثرت كثيرا إلا أنها أخرجت البلاد من ظلمات الحكم العسكرى!
بعد سنوات قليلة، تحولت البرازيل بفعل العدوى من جارتها الأرجنتين إلى نظام الحكم المدنى الديموقراطي! صحيح أن التحول فى البداية كان بمبادرة من الإدارة العسكرية للبلاد فى محاولة للحكم من وراء الستار، لكن مع نهاية الثمانينيات انتهت هذه المحاولة التمثيلية الفاشلة بتحول ديموقراطى جدى مازال قائما حتى الآن!
ثم كان الميعاد على جارة لاتينية أخرى، وهذه المرة فى تشيلى، حينما اضطر ديكتاتورها العسكرى الأبرز «بنوشيه» تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية إلى التخلى عن الحكم بشكل درامى بعد أن سمح باستفتاء شعبى على بقائه فى الحكم عام ١٩٨٩، وجاءت نتيجة تصويت شعب التشيلى ضده، ليقوم بمغادرة السلطة فى صفقة «خروج آمن»، حيث حصل على تحصينات قضائية من المحاكمة القضائية وعلى مقعد فى البرلمان مقابل التخلى عن السلطة!
وفى أقصى الشرق، كان الدور على كوريا الجنوبية والتى فقد فيها الحكم العسكرى هناك الكثير من بريقه بعد اغتيال القائد العسكرى بارك والذى كان يحكم منذ قيامه بانقلاب عسكرى فى البلاد فى ١٩٦٢، إلا أنه اغتيل على يد أحد قادة الجيش المقربين له فى ١٩٧٩! ورغم أن الحكم العسكرى استمر فى البلاد بعد ذلك بنحو عقد من الزمان، إلا أن الضغوط الشعبية والدولية وخاصة على هامش استضافة سيول العاصمة لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية فى ١٩٨٨، قد أدت أخيرا إلى التحول الديموقراطى فى البلاد قبل بداية العقد الأخير من القرن العشرين!
***
هكذا كانت النظم العسكرية تتهاوى تباعا فى النظام الدولى مع أفول الحرب الباردة، وبداية حقبة دولية جديدة تواصلت فيها لعبة الدومينو بسقوط المزيد من الأنظمة العسكرية والشمولية فى أوروبا الشرقية فيما عرف بالموجة الثالثة للديموقراطية!
(*) بالتزامن مع “الشروق“