لا بدّ لـ«شامىّ» مثلى إلاّ أن يشكره على مقاله هذا وعلى توقيته وأن يبادله هوى «الشوام» الراسخ منذ القدم بأرض الكنانة.
«الشام مبعث الأديان» الإبراهيميّة حقّا، ولا ننسى أنّها جميعها أتت تفاعلا مع مصر، حيث صهرت «الشام» إرث ديانات وأساطير ما بين النهرين مع ديانات وأساطير نهر النيل الكبير. إنّ العهد القديم والقرآن الكريم يشيران بوضوح إلى مصر وفراعنتها. عدا أنّ محاولة أخناتون كان لها أثر كبير فى نشوء فكرة الإله الواحد وتقبّلها فى المنطقة برمّتها. هذا دون أن ننسى أيضا دور الإسكندريّة فى الفلسفة الإغريقيّة وكنيستها فى الفكر المسيحيّ ودور مصر عمرو بن العاص فى تيّارات «الإسلام الأمويّى ودور الفاطميين فى نشوء المذهب الدرزيّ. فى المحصّلة ما كان لهذا المبعث الدينيّ أن يكتمل دون مصر.
صحيحٌ أيضا أن سوريا مركز تواصل الحضارات التاريخيّة الكبرى، لكن بالتشارك مع مصر فى ذلك. فقد عرفت مصر حضارة «الهكسوس» الشوام شمالا قبل وحدة واديها، ثمّ مزيجا فريدا للحضارتين اليونانيّة والفرعونيّة، تلتها الشراكة مع الشام والمغرب العربى فى الحضارة الرومانية، حيث أنتجت أباطرة. هذا عدا عن الحضارة القبطيّة التى صهرت الفرعونيّة والإغريقيّة والرومانيّة مع المسيحيّة. ولم تحارب مصر «الفتح الإسلاميّ»، بل فتحت أبوابها له لتُنشئ مع بلاد الشام حضارةً «رومانيّة» عالميّة منفتحة جديدة تحت مسمّى الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
وبالفعل إنّ سوريا «محور نزاعات عالميّة منذ الأزل». ولكن مصر أيضا. فقد غزت فارس مصر كما سوريا، خاصّةً قبيل «الفتح الإسلامى» لإعادة هيمنة «يهوديّة» على القدس واليمن. وما كان سببا رئيسا فى تقبّل الفاتحين المسلمين لطردهم. كم أدّت الغزوات التركيّة قبل المغوليّة إلى ترسيخ أمراء تركمان على مدن سوريا ومصر على السواء. كذلك عانت بلاد الشام ومصر سويّةً من الغزو الصليبيّ، ولم تستطيعا طرد الغزاة إلاّ عبر «دولة» أيوبيّة وحّدتهما. كما «غزا» نابليون مصر وسوريا، وأفشل الفرنسيّون والبريطانيّون سويّةً محاولة توحيد البلدين من قبل محّمد على. ثمّ تشاركوا فى استعمار مصر وسوريا قبل أن يخلقوا دولة استيطان صهيونيّة فى فلسطين.
تحدّث الفقى عن المطامع الخارجيّة فى بلاد الشام. لكن هل هى حقّا فقط مطامع تركيّة وإيرانيّة وروسيّة؟ ماذا عن المطامع الأخرى، خاصّة تلك الإسرائيليّة؟ وهل «المطامع» تخصّ بلاد الشام وحدها، دون العراق والجزيرة العربيّة.. ومصر، ثمّ ليبيا والمغرب العربى. وهل يكمُن تفسير ما يحدث فقط بـ«مطامع» أم لأنّ عقودا من تاريخ استقلال البلدان العربيّة لم تحصِّن دولها وشعوبها؟
«النهضة العربيّة» نشأت أيضا كفكرة بين البلدين، من مفكّرين «شوام» ومصريين. أغلب أولئك «الشوام» عاشوا بين البلدين، وأسسوا صحائفهم وطبعوا كتبهم بالتحديد فى مصر حتّى إنّ البلدين تنافسا على إطلاق شعار «الدين لله والوطن للجميع»: سعد زغلول فى ثورة 1919 المصريّة ضدّ البريطانيين وآباء الثورة السوريّة الكبرى ضدّ الفرنسيين فى 1925، فى حين نفى كثيرٌ منهم إلى مصر. وبينهم بالمناسبة جدّى، الذى ورّثنى كسوريّ الحقّ بالجنسيّة المصريّة.
***
المزيج بين شعبى الشام ومصر متأصّل فى التاريخ. فشرق الدلتا احتوى نزوحات كبيرة من بلاد الشام نتيجة الكوارث الطبيعيّة والبشريّة، بحيث ورثت بعض القرى أسماء بلدات شاميّة. وورثت الصعيد وعشائرها لهجة أهل الشام. ولا يهمّ أنّ تجربة وحدة البلدين فشلت فى القرنين التاسع عشر والعشرين، إلاّ أنّ البرلمان السورى المنتخب ديموقراطيّا انتصر لمصر إبّان العدوان الثلاثى فى 1956. وكان الطيّارون السوريّون وطائراتهم يومها فى مصر، وكذلك البحّارة السوريين وزوارقهم الحربيّة. هكذا تحمِل كثيرٌ من المعاهد السوريّة اسم جول جمّال الذى شارك فى معركة البرلس البحريّة، والذى لُقّبَ بسليمان الحلبى للقرن العشرين.
***
لم يتطرّق مصطفى الفقى كثيرا إلى الخصوصيّة الفلسطينيّة أو اللبنانيّة فى العلاقة مع مصر. وتجنّب، فى سياق إشادته بالأردن، الإرث الحجازيّ المتأصِّل شاميّا لهذا البلد واختلاف هذا الإرث عن الإرث النجديّ. كما تجنّب الرابط العشائريّ بين بادية الشام وجزيرتها وبلاد الرافدين وجزيرة العرب. أضِف أنّ غياب دولة قويّة فى العراق منذ الغزو الأمريكى قد ضَرَبَ «العمق الاستراتيجى» ليس لسوريا وحدها، بل أيضا لمصر وبقيّة البلدان العربيّة.
كذلك تحدّث الفقى عن المطامع الخارجيّة فى بلاد الشام. لكن هل هى حقّا فقط مطامع تركيّة وإيرانيّة وروسيّة؟ ماذا عن المطامع الأخرى، خاصّة تلك الإسرائيليّة؟ وهل «المطامع» تخصّ بلاد الشام وحدها، دون العراق والجزيرة العربيّة.. ومصر، ثمّ ليبيا والمغرب العربى. وهل يكمُن تفسير ما يحدث فقط بـ«مطامع» أم لأنّ عقودا من تاريخ استقلال البلدان العربيّة لم تحصِّن دولها وشعوبها تنمويّا واستراتيجيّا؟
إنّ المشهد العربيّ برمّته يتّسم بالهشاشة.. هشاشة هى بالتحديد ما يفتح بابا لـ«مطامع» حتّى بين الأخوة وحتّى مع أممٍ نتشارك معها الكثير من مراحل التاريخ والحضارة.
هنا لا بدّ من الاختلاف مع الأستاذ الفقى عن أنّ سوريا تبقى «الصخرة التى تحطمت عليها أحلام الغزاة» لأنّ هويّتها العربيّة متجذّرة. سوريا اليوم منقسمة فى هويّاتها، أقرب إلى التركيّة فى شمالها الغربى، وإلى الكرديّة فى شمالها الشرقى.. وإلى «السريانيّة» فيما بقى تحت سيطرة الدولة السوريّة. أضِف إلى السمة «الفينيقيّة» فى لبنان. مع إحساسٍ كبير أنّ «العرب» تخلّوا عن بلاد الشام، بل عبثوا بمصائرها.
***
لا بدّ من الاختلاف مع الأستاذ الفقى عن أنّ سوريا تبقى «الصخرة التى تحطمت عليها أحلام الغزاة» لأنّ هويّتها العربيّة متجذّرة. سوريا اليوم منقسمة فى هويّاتها، أقرب إلى التركيّة فى شمالها الغربى، وإلى الكرديّة فى شمالها الشرقى.. وإلى «السريانيّة» فيما بقى تحت سيطرة الدولة السوريّة
إنّ العروبة، بمفهومها الجامع غير البدويّ، ليست فكرةً شاميّة. بل هى نتيجة التمازج بينها وبين بلاد الرافدين ومصر والجزيرة والمغرب العربيّين. ولا يُمكِن لها الاستمرار إذا فرض أحد أطرافها هؤلاء فكرته الخاصّة عن تلك العروبة على الآخرين أو تخلّى عن هويّته العربيّة لصالح أخرى. والإشكاليّة فى ترتيبات الهويّة أنّ أغلبيّة المصريين يضعون اليوم الإسلاميّة أو القبطيّة أو الفرعونيّة أوّلا، مع تهميش حتّى الهويّة المصريّة ذاتها، وأنّ العرب بالنسبة لهم هم فقط أهل الخليج. والإشكاليّة أنّ معظم العراقيين يضعون تلك الشيعيّة أو السنيّة أو الكرديّة أوّلا.
ويبقى السؤال الأساسيّ هو أين مصر، البلد العربيّ الأكبر، والمصرّ على ترؤس جامعة الدول العربيّة التى لم يعد لها من نفع، من العروبة؟ أو فى أقلّ الإيمان من انهيار المنظومة العربيّة وهشاشة دولها وتشرذم شعوبها وإفقارها؟
ليس الموضوع وحده «هوى» وغرام.. وثقافة ومسلسلات وغناء.. بل مصير منطقة، يتعلّق أوّلا وأخيرا بأن تعود مصر.. هى مصر.