هل يُمكن أن نقضي على فكرة إسرائيل؟

هل يُمكن أن نتعايش مع إسرائيل؟ سؤال يَطرَحهُ المواطن العربي أو يُطرَح عليه منذ العام 1948. برأيي، في السؤال خطأ جوهري، لأن مضمونه يُحمّل الضحيّة تبعات جريمة المغتصب. ما يجب أن نُفكّر به بإلحاح وتشدّد هو: هل أن إسرائيل مستعدّة فعليّاً للتعايش معنا؟ الجواب: ما يمنع إسرائيل من التعايش معنا (مع الفلسطينيّين تحديداً) هو إسرائيل نفسها. كيف؟

منذ تاريخ النكبة الفلسطينية في العام 1948، طرحت دول عربيّة عدة وحركات ثوريّة عربية فكرة القضاء على إسرائيل كواقع وجودي (بغضّ النظر عمّا كانت بعض الأنظمة تُحيكه فعليّاً للتآمر أو للقضاء على القضيّة الفلسطينيّة).

شكّلت هذه الفكرة جوهر استراتيجيّة المقاومة الفلسطينيّة حتّى توقيع معاهدة أوسلو في العام 1993. بعد ذلك، بدأ التخبّط بين التشبّث بالنضال المسلّح، وبين من قرر الإنبطاح لإسرائيل وداعميها، أو ضاع بين هذا الإتجاه أو ذاك.

ما أكّدته التجربة طيلة عقود من الزمن أنّ القضاء على إسرائيل وجوديّاً مستحيلٌ في ظل موازين القوى الموجودة منذ الحرب العالميّة الثانيّة والتي لا يبدو أنها ستتغيّر، أقلّه في الأفق الزمني القريب. ليس فقط لأنّنا لا نملك لا الإرادة ولا الإمكانات لذلك (مع كل التقدير لمن قاوم ويقاوم)، بل لأنّ القضاء على إسرائيل وجوديّاً ستكون كلفته القضاء علينا!

لكن هل يُمكن أن نقضي على فكرة إسرائيل؟

ما يحدث اليوم لا يُشكّل برأيي خطراً وجوديّاً على دولة إسرائيل، بل هو زعزع ويزعزع أسس فكرتها. لذلك نجد الرعب ينتشر في المجتمع اليهودي في إسرائيل والمناصر له حول العالم. لماذا هذا الرعب؟ لأنّ الصهيونيّة أرادت أن تجعل إسرائيل دولة اليهود الوحيدة في العالم، حيث يمكن لهم أن يعيشوا بسلام وأمن وحريّة وازدهار، بعيداً عن الإضطهاد والكراهية. وإذا أرادوا الحياة خارجها، يجب أن يستمرّوا مربوطين بها ومشدودين إليها وأن يترسّخ في وعيهم وسيكولوجيّتهم أنّ إسرائيل هي ملجأهم الأخير. هذه هي فكرة إسرائيل. لكن حدث السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي نسف هيكل الفكرة برمّته.

لا ندري ما إذا كان في قدرة إسرائيل وداعميها أن يعيدوا إنتاج فكرتها وتسويقها، ولا أظنّ ذلك سهلاً في ظل ما نشهده من تفسخات جوهرية داخل المجتمع الإسرائيلي، وبين اليهود في العالم.

فكرة إسرائيل لم تُصبح حقيقة إلاّ بسبب “المحرقة”. لكن إسرائيل الآن ترتكب محرقة. إذاً الخلافات ستتفاقم لأنّ العقل اليهودي في العالم لن يتقبّل تحمّل تبعيّات ما ارتكبته الصهيونيّة الفاشيّة بدعم كامل من أمريكا وأوروبّا منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023.

حالة الرعب التي تهيمن الآن على المجتمع الإسرائيلي والكثير من يهود العالم المناصرين للكيان العبري هي أنّ فكرة إسرائيل نفسها باتت في خطر. خوفهم هو عبارة عن أزمة سيكولوجيّة عميقة ومصيبة وجوديّة سبّبتها هجمة “طوفان الأقصى”. هجمة أعادت ذلك الجرح الذي تكوّن لليهود في أوروبّا، خصوصاً نتيجة المذبحة النازيّة، أنّه ليس لهم من مكان آمن على الأرض

نعم، فكرة إسرائيل كانت وما تزال موضع نقاش وخلاف كبير بين اليهود أنفسهم. لذلك، عندما يُصرّ البعض على تعريف العداء لإسرائيل أو الصهيونيّة بأنّه عداء للساميّة، فالهدف من ذلك هو التعمية على الخلافات بين اليهود أنفسهم حول مكانة إسرائيل وفكرتها. والهدف أيضاً هو إرساء مقولة أنّ إسرائيل هي الناطق الرسمي والحاضن المطلق والجنّة الخالدة لكلّ يهودي شاء أم أبى، ولا تمثيل لليهود خارج ما تمثله إسرائيل وتريده. إذاً، فكرة إسرائيل الحاليّة هي عين العداء للساميّة، لذلك يكرهها بعض اليهود، ويكرهون تصرّفاتها.

لا تملك حركة حماس القدرة على إنهاء إسرائيل كواقع، لا في الأمس ولا اليوم ولا في المستقبل. وتبعات “طوفان الأقصى” وتحديداً الثمن الباهظ الذي دفعه وسيدفعه الفلسطينيّون لا يجب التقليل منه بتاتاً. حتى أن حزب الله أيضاً (مع كلّ الدعم الذي يوفره له ظهيره الإيراني) ليس بقادر على إنهاء إسرائيل كواقع. لو كانت حماس أو حزب الله أو غيرهما قادراً لفعلها. الأهم، أن ما هم قادرون على فعله ويفعلونه الآن هو القضاء على إسرائيل كفكرة، ويبدو أنّهم نجحوا في تحقيق ذلك إلى حد كبير. لقد حقّقوا ما عجزت عنه أنظمة عربيّة كبرى. من هنا أهميّة إدراك اللحظة التاريخيّة التي نمرّ بها وما تُوفرّه لنا من فرصة نادرة حالياً.

نعم، كل التطورات والأحداث التي أعقبت “طوفان الأقصى” نجحت في خلخلة الكيان الإسرائيلي ليس عسكريّاً بل كفكرة. وخطر تحطيم فكرة إسرائيل ليس فقط هزيمة للمشروع الصهيوني الفاشي، بل هو هزيمة لكلّ من دعم إسرائيل (كوطن لليهود فقط، أو كرأس حربة للهيمنة الغربيّة، أو كملاذ لمن لا تريدهم أوروبّا بينهم، أو..).

ليس صحيحاً أنّ استمرار آلة القتل والتدمير الإسرائيليّة في غزّة والضفّة الغربية وجنوب لبنان هدفه ضمان بقاء بنيامين نتنياهو في منصبه. إسرائيل يحكمها منذ 1948 جهاز عسكري ومخابراتي فاشي (أين منه النازيّة)، يُقرّر الخطّ الذي لا يُسمح لأحد بتجاوزه إذا كان أمن إسرائيل على المحكّ. استمرار آلة القتل الإسرائيليّة هو نتاج لحظة شاهد فيها العالم ربيبته إسرائيل مُهدّدة فهرع لنجدتها. ولأنّ نجدتها تتطلّب محرقة، فنحن نشاهد والعالم يشاهد القتل الممنهج للفلسطينييّن والتدمير الشامل للمجتمع الفلسطيني.

إقرأ على موقع 180  وداد حلواني حارسة الأسماء والأحباء.. الوجوه والحكايات

منذ العام 1948، أجبر صمود أهل فلسطين الصهاينة على إعادة النظر في مشروعهم.. وبالتالي، صار استمرار الوجود الفلسطيني هو الخطر، ليس على الدولة الإسرائيليّة بل على فكرة إسرائيل (بغضّ النظر عن واقع أنّ البعض في إسرائيل يريد أن يتعايش بسلام مع الفلسطينيّين وأن يعطيهم حقوقهم كاملة، لكن صوت هؤلاء ما زال ضعيفاً وغير قادر على تغيير الواقع على الأرض).

حالة الرعب التي تهيمن الآن على المجتمع الإسرائيلي والكثير من يهود العالم المناصرين للكيان العبري هي أنّ فكرة إسرائيل نفسها باتت في خطر. خوفهم هو عبارة عن أزمة سيكولوجيّة عميقة ومصيبة وجوديّة سبّبتها هجمة “طوفان الأقصى”. هجمة أعادت ذلك الجرح الذي تكوّن لليهود في أوروبّا، خصوصاً نتيجة المذبحة النازيّة، أنّه ليس لهم من مكان آمن على الأرض. فكرة إسرائيل أعطتهم الأمان السيكولوجي والنفسي. وهذا العامل يجب أن نفهمه لكي نعي مكانة إسرائيل عند الكثير من اليهود. وإذا تبدّدت فكرة إسرائيل، تصبح دولة يعيش فيها الكثير من اليهود، لكنّها ليست دولة اليهود وجنتهم الموعودة.

تصرّفات إسرائيل من بعد “طوفان الأقصى” لا يُمكن فهمها إلاّ من هذا المنطلق. كما أن كلُ ما تتلقاه من دعم أمريكي وغربي مطلق لا يُمكن فهمه إلاّ من هذا المنطلق، يقابله تستير فاضح على جرائم إسرائيل لا يُمكن فهمه إلا من هذا المنطلق أيضاً. لكن الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحقّ أهل فلسطين، والتي تبتغي من خلالها إعادة إحياء فكرة إسرائيل، تُبعدها عنها أكثر فأكثر.

الآن، استيقظت إدارة جو بايدن المجرمة واكتشفت ضرورة وأهمية إنشاء دولة فلسطينيّة. هل كان ليكون هناك أي كلام عن دولة فلسطينيّة إذا لم تكن فكرة إسرائيل تصارع الموت؟

نحن نعرف أنّه لن تكون هناك دولة للفلسطينيّين إذا لم تتحطّم فكرة إسرائيل. ونحن نعرف أنّ الغرب يتقن لعبة تقسيم الأدوار، حيث يكون لكلّ مكوّن فيه دور في الكذب والخداع. الكلام عن دولة فلسطينيّة هو خداع وكذب لأن إسرائيل ـ بدعم من أمريكا وأوروبّا ـ نسفت كلّ الأسس التي يمكن أن تقوم عليها دولة فلسطينيّة. هل هم مستعدّون للإتيان بجيوشهم من أجل محاربة المستوطنين الفاشيّين في المستعمرات في الضفّة الغربيّة وإجبارهم على مغادرتها؟ الجواب بالمطلق هو لا. ومن دون إزالة هذه النفايات البشريّة، من المستحيل إقامة دولة فلسطينيّة. إذاً، أنتوني بلينكن يخادع، وجوزيب بوريل يكذب، لأنّ همّهم معالجة الكارثة التي تعيشها فكرة إسرائيل، وإذا كانوا جادين، فإن أجمل هدية تُقدّم للفلسطينيين ولليهود ولكل الشرق الأوسط وربما للعالم بأسره عنوانها واحد: تحرير اليهود من نير فكرة إسرائيل.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإسلام بين العقل والنقل؛ بين الرأي والمأثور (2)