لا يكفى تصريح سياسى من هنا أو هناك حول المخاطر القائمة وضرورة الإسراع بالتوصل إلى حل بشأن تشكيل الحكومة. المفروض أن تنعكس المخاوف والتحذيرات التى نسمعها فى مقاربة جدية وفاعلة ومشتركة على الصعيد العملى من جميع المكونات السياسية، لتشكيل حكومة سميتها سابقا حكومة هدنة وطنية. حكومة تعمل على وقف الانهيار الذى تطال نتائجه الجميع، أيا كانت رهانات هذا الطرف أو ذاك على متغيرات خارجية تصب فى مصلحته، كما هى دائما الرهانات فى «اللعبة السياسية» فى لبنان.
***
النقاش الدائر اليوم ينصب حول ما يلى: هل تكون حكومة تكنوقراطية أسوة بالحكومة الحالية وتلك التى سبقتها يتحكم بها بدرجات مختلفة أرباب اللعبة السياسية من خارجها، أم حكومة سياسية بسبب طبيعة المرحلة كما يقول أصحاب هذا الرأى، أم حكومة تكنوسياسية يلعب فيها الوزراء السياسيون دور «حراس الهيكل». لكل تعريفه للهيكل الذى يجب الحفاظ عليه فى مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر. فالحكومة إذا ما شُكلت ستتولى مواكبة حصول استحقاق الانتخابات الرئاسية فى الأشهر الأربعة القادمة، فى الفترة المتبقية لانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، هذا إذا ما احترم موعد هذا الاستحقاق وجرت الانتخابات فى موعدها. ولكن هذه الحكومة ستناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية (المادة ٦٢ من الدستور) إذا لم يتم احترام الاستحقاق المشار إليه قبل انتهاء ولاية الرئيس عون، وحصل الفراغ الرئاسى. الأمر الذى حصل من قبل مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان بين ٢٠١٤ و٢٠١٦، وقبل ذلك مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود بين ٢٠٠٧ و٢٠٠٨. ذلك ما يفسر إصرار البعض على تشكيل حكومة سياسية للمشاركة مباشرة فى إدارة البلاد فيما لو حصل الفراغ الرئاسى الذى قد يطول، وللتأثير من موقع أفضل فى «مفاوضات» عملية الانتخابات الرئاسية. فالانتخابات الرئاسية عادة ما تخضع لتفاعلات بين العاملين الداخلى والخارجى. تأثير الأخير كان دائما فاعلا بأشكال ودرجات مختلفة فى معظم هذه الانتخابات، ولا غرابة فى هذا الأمر طالما أن عنصر الاصطفافات والعلاقات مع «الخارج» كان دائما ذا ثقل مؤثر فى السياسة والاصطفافات الداخلية ولو اختلفت أوزان هذا العنصر بين مرحلة وأخرى.
خطورة الأزمة اللبنانية الداخلية هذه المرة، لم تعد تكفيها الحلول التى تقوم على توفير «المراهم». فبقدر ما أن العنصر الخارجى ضرورى ومسهل للتوصل إلى الحلول، بقدر ما أن المطلوب هو المعالجة «الجراحية» الشاملة هذه المرة، ولو جرت هذه الأخيرة بشكل تدرجى لإنقاذ «المريض اللبنانى» من الموت
***
رياح السياسات فى الإقليم حاليا تتراوح بين التصعيد والتوترات من جهة، وبين مؤشرات ما زالت خجولة نحو الذهاب باتجاه التهدئة وحصول تفاهمات الحد الأدنى من جهة أخرى. تفاهمات بين الأطراف الخارجية الفاعلة فى مرحلة معينة، عادة ما تساهم بشكل أساسى فى حصول التفاهمات اللبنانية الضرورية للتعاطى بنجاح مع الاستحقاقات المطروحة.
لكن طبيعة وخطورة الأزمة اللبنانية الداخلية هذه المرة، لم تعد تكفيها الحلول التى تقوم على توفير «المراهم». فبقدر ما أن العنصر الخارجى ضرورى ومسهل للتوصل إلى الحلول، بقدر ما أن المطلوب هو المعالجة «الجراحية» الشاملة هذه المرة، ولو جرت هذه الأخيرة بشكل تدرجى لإنقاذ «المريض اللبنانى» من الموت. ونحن نشهد النزيف (خاصة البشرى الشبابى والاختصاصى) الذى يعيشه لبنان. وللتذكير فإن الأزمة المالية الحادة هى نتيجة لأزمة اقتصادية، هى فى حقيقة الأمر، أزمة نموذج اقتصادى وإدارة اقتصادية. والأزمة الاقتصادية هى بدورها نتيجة أزمة نظام سياسى قائم على الزبائنية وعلى نوع من فيدرالية من المذهبيات السياسية التى تغذى وتتغذى على هذا النظام.
***
المطلوب اليوم «إنتاج» تفاهم يشجعه أصدقاء لبنان لتشكيل حكومة مهمتها الأساسية العمل على «وقف النزيف». حكومة هدنة، يمكن أن تكون مصغرة وبمثابة فريق عمل، تعمل على البدء بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولى وتطوير أو تحسين ما يمكن القيام به فى هذا المجال. المطلوب اليوم أيضا الدفع، من قبل كل الأطراف المؤثرة، لاحترام الاستحقاق الدستورى بانتخاب رئيس جديد للبنان. وتكون فى طليعة مهمات السلطة السياسية الجديدة عقد طاولة حوار وطنى على أساس خريطة طريق موضوعية وزمنية لإجراء «جراحة» الإنقاذ المطلوبة، وقوامها عملية إصلاح شامل. إصلاح يتناول جميع أبعاد الحياة الوطنية وبشكل خاص الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إنقاذ الوطن مسئولية جماعية أيا كان ميزان القوى السياسى فى لحظة معينة وأيا كانت العناوين السياسية التى يحملها هذا الطرف أو ذاك. فإذا لا سمح الله، غرق المركب، فباسم من وعلى ماذا ستتقاتلون؟!
(*) بالتزامن مع “الشروق“