تأتي السنة الجديدة عنواناً للهزيمة. هزيمة الذات اللبنانية. الشعب الذي كان لا يجد متسعاً له على أرض المعمورة، نجاحاً تلو نجاح، و”شوفة حال”، سواء أكانت حقيقية أم مصطنعة أم بَينَ بَينٍ، ها هو شعب يتسول. ينتظر رغيف خبز. حليب أطفال. معلبات. مواد تنظيف. مازوت. أقصى طموحه أن يفوز بعلبة دواء.
إرتكبت جرائم كثيرة في لبنان، قديماً وحديثاً، لكن جريمة أكبر من تلك التي طالت شعباً بأكمله، بحرمانه من ودائعه، لم تحصل قبلاً. الأفدح من ذلك، تحويل هذا الشعب إلى مجرد قطيع يستجدي زعيمه. لم يعد ينشد وظيفة ولا رتبة ولا راتب. صار يطلب كسرة خبز ثم يُسبّح بحمد من أعطاه إياها ولا يتردد في بذل المهج وخوض اللجج لأجله!
مقدمة لا بد منها، لكن عودٌ على بدء. ماذا ينتظرنا في 2022؟
أولاً، لنقل أن العد العكسي لإنتهاء ولاية ميشال عون قد بدأ. كل ما عدا ذلك يندرج في خانة التفاصيل. ما كان يمكن أن يقوله أو يفعله ميشال عون في سنوات عهده الأولى بات مختلفاً عما يمكن أن يقوله اليوم أو في الأسابيع والأشهر الأخيرة من عهده. تبدّلت الأوزان والحسابات. تأمل “الجنرال” كثيراً قبل بلوغ قدميه عتبة قصر بعبدا، لكنه لحظة وصوله، قرر أن يُلغي نفسه. صار جبران باسيل هو الرئيس الفعلي، وصار “الجنرال” جندياً في معركة تولية رئاسة الجمهورية لصهره. من حق الرجلين أن يحاولا ولا أحد يجادلهما في حدود طموحاتهما.
لكن من يُدقّق في مجريات السنوات الثلاث الأولى من عمر عون الرئاسي (2016 ـ 2019)، يجد أنها كانت حافلة بالتناقضات. صفقة مع تيار المستقبل أعقبتها تنازلات من سعد الحريري لا تُحصى ولا تُعد من جهة؛ إنفراط عقد “تفاهم معراب” مع القوات من جهة ثانية؛ اللعب على حبال “تفاهم مار مخايل” مع حزب الله من جهة ثالثة.
عملياً، إختل التوازن الوطني لمصلحة الموقع الماروني الأول. كانت الفرصة العونية موجودة. هناك من ضيّعها. ليحكم التاريخ عمن يتحمل المسؤوليات. هذا الرجل الذي كان حاضراً في ثنايا التاريخ اللبناني طوال أربعين سنة إنقضت، يستعد لتقاعد مجبول بغصة كبيرة: وريثه الحزبي ـ السياسي متوفر، أما وريثه الرئاسي، فتلك قصة مختلفة كلياً، ولا يبدو أن الوريث يملك فرصة حد أدنى.. رئاسياً، لا بمعطيات الداخل ولا الخارج حتماً.
الفراغ الرئاسي، بمعزل عن توقيته، سيستدرج لبنان إلى ما يسمى “الطائف الجديد” أو “العقد الإجتماعي” أو “المؤتمر التأسيسي”. ثمة جهات دولية بدأت تناقش الخيارات والسيناريوات المتاحة، تلاقيها جهات سياسية وحزبية لبنانية وازنة فتحت دفاترها وبدأت تجري تمرينات حول الصيغة التي يحتاجها لبنان
هل يعني ذلك أن لبنان ذاهبٌ حتماً إلى الفراغ الرئاسي؟
لعل أحد أبرز أسباب توتر رئيس “التيار الوطني الحر” من حزب الله هو عدم حصوله على بطاقة رئاسية مسبقة الدفع من السيد حسن نصرالله. يسري ذلك على رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي كان يُمني نفسه بمثل هذه البطاقة منذ سنوات. لن “يُورط” حزب الله نفسه بإلتزام مسبق يؤدي إلى تعطيل البلد المأزوم أصلاً. يَتركُ أبواب الأخذ والرد مفتوحة تحت سقف “الفيتو” الذي لا عودة عنه على مرشح ماروني وحيد (لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد لمعرفة من المقصود بهذه الإشارة)، بمعزل عن حسابات الأكثرية والأقلية.. إلا إذا تكرر سيناريو الحرب الإقليمية وإنتهى بحزب الله وقيادته محملين على السفن، كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1982!
إذاً، لا بد من تسوية رئاسية، وهذا هو جوهر الإنسداد السياسي. هل تسبق هذه التسوية الإنتخابات النيابية أم تليها وماذا إذا لم تجرِ الإنتخابات التشريعية في أيار/مايو، وهو إحتمال ضعيف جداً، هل سيُطل علينا من يُبرر التمديد الرئاسي في نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل وهل يمكن أن يبادر رئيس الجمهورية إلى خلط الأوراق بإستقالته قبل نهاية ولايته؟
الفراغ الرئاسي، بمعزل عن توقيته، سيستدرج لبنان إلى ما يسمى “الطائف الجديد” أو “العقد الإجتماعي” أو “المؤتمر التأسيسي”. ثمة جهات دولية بدأت تناقش الخيارات والسيناريوات المتاحة، تلاقيها جهات سياسية وحزبية لبنانية وازنة فتحت دفاترها وبدأت تجري تمرينات حول الصيغة التي يحتاجها لبنان. أكثر من دوحة وأقل من طائف أم أبعد من الإثنين معاً بالذهاب إلى المثالثة وهل يمكن أن يكون المؤتمر المقبل على شاكلة مؤتمر الدوحة (2008)، فيُحدّد للبنان هوية رئيسه المقبل والتقسيمات الإنتخابية التي ستجري على أساسها إنتخابات العام 2026؟
ثانياً؛ الإنتخابات النيابية ستجري بقوة معطيات الخارج وإحراجات الداخل، في 15 أيار/مايو المقبل. المرسوم سيصدر عن وزير الداخلية في شهر كانون الثاني/يناير المقبل، وتستمر الهيئة المستقلة السابقة للإنتخابات بعملها. يصح القول إن معظم القوى السياسية الوازنة تتهيب من نتائج الإنتخابات ما عدا حزب الله والقوات اللبنانية، ولكل منهما حساباته. حزب الله يريد من خلال تمثيل “الثنائي” المكتمل النصاب للبيئة الشيعية (27 نائباً) تجديد شرعيته الداخلية والخارجية، خاصة في ضوء درس حلفائه العراقيين. لا خشية حزب اللهية من معادلة الأكثرية أو الأقلية. كلا 8 و14 آذار ربحا الأكثرية (2005 و2009 و2018)، لكن لا هذا ولا ذاك إستطاع أن يحكم البلد وحده. بالمقابل، فإن القوات اللبنانية تعتبر الإنتخابات “لحظتها السياسية المنتظرة للفوز بأكبر كتلة نيابية مسيحية”. قد تكون محقة في رهاناتها وفي أن تفوز حتى بمقاعد سنية في بيروت والشمال والبقاع. من يدري؟ الأكيد أنها من دون تحالفها مع سعد الحريري ووليد جنبلاط ومن دون دعم سعودي ـ خليجي مالي، لن تحصد إلا أقل من حجم كتلتها الحالية. لذلك، ثمة رهان في معراب بأن يؤدي “الهمس الدائم” في الأذن السعودية إلى فك قيود الحريري، لكن بشرط إنضوائه تحت راية جعجع السياسية والمالية. وصلت الحقيبة السعودية مؤخراً وحسم وليد جنبلاط أمره بالتحالف مع القوات. ماذا عن الحريري؟
في إطلالته الأخيرة عبر “زووم” مع كتلته النيابية، كان الحريري واضحاً: أنا لن أترشح وتيار المستقبل سيتم حله (…) ومن يريد أن يترشح فعلى مسؤوليته ونفقته!
اللافت للإنتباه في هذا السياق أن الحريري يتصرف حتى الآن على قاعدة أن الإنتخابات النيابية مؤجلة حتماً. هذا هو الإحتمال الأكبر بالنسبة إليه، وهو مبنيٌ على تحليل يقول إن مقاطعة تيار المستقبل ستجعل الساحة السنية مشرّعة أمام التطرف بوجهيه “الممانع” و”الريفي + بهاء والضاهر والقوات”. مَنْ دولياً أو عربياً يُمكن أن يتقبل هكذا تمثيل سني لبناني؟ ماذا إذا “إقتدى” آخرون في البيئة نفسها بقرار الحريري مقاطعة الإنتخابات؟ هل يصبح التمديد للبرلمان مطلباً خارجياً قبل أن يكون داخلياً؟
في إطلالته الأخيرة عبر منصة “زووم” مع كتلته النيابية، كان الحريري واضحاً: أنا لن أترشح وتيار المستقبل سيتم حله (…) ومن يريد أن يترشح فعلى مسؤوليته ونفقته!
حتى الآن يبدو قرار الإنتخابات غير قابل للأخذ والرد دولياً. حتى محلياً لا يجرؤ حزب لبناني (بإستثناء حزب الله وعلى الأرجح لا يريد ذلك) في أن يضع توقيعه على مشروع ما للتمديد. كل جهة سياسية تضع توقيعها على التمديد ستطالها “عقوبات نووية”، على حد تعبير مرجع رسمي لبناني كبير، وبالتالي كل من يخشى العقوبات ـ بإستثناء حزب الله المُعاقب أصلاً ـ سيضطر إلى السير بالإنتخابات التي يمكن أن تأتي بمفاجآت في البيئتين السنية والمسيحية، ولكنها شبه محسومة في البيئتين الشيعية والدرزية.
لا ينفي ذلك أن رهانات الغرب على تيار وازن في “المجتمع المدني” بدأ يتبدد، بدليل ما تردّدهُ سفيرتا الولايات المتحدة وفرنسا في مجالسهما من “حكايات” عن فساد هذا “المجتمع” (صرف عشوائي لمبالغ مرصودة للإنتخابات قبل أشهر من موعدها!).
ثالثاً، حكومة نجيب ميقاتي باقية في العام 2022 وربما تتمدد حتى العام الذي يليه بقوة الفراغ الآتي إلينا. لن يستقيل رئيس الحكومة لأسباب محلية. هكذا خطوة تصبح مسموحة لإعتبارات فقط خارجية، وتحديداً فرنسية (بحكم التفويض الأميركي المُعطى لباريس). هل تجتمع الحكومة بالضرورة؟ الإحتمال وارد ولكنه ضعيفٌ للغاية حتى الآن. ما يريد جبران باسيل الحصول عليه قبل إنتهاء ولاية عمه لن يكون سهل المنال. لن تُعطى له تعيينات الفئة الأولى وما دونها مسيحياً ولا حتى بعض التشكيلات ضمن الوزارات التي “يمون” عليها وهي لا تحتاج سوى إلى مرسوم. هذا القرار أكبر من إستطاعة طرف محلي واحد أن يتخذه وحده، ولعله يقع في صلب فرط التسوية ـ الصفقة الأخيرة.
مُجدداً، بدأ العد العكسي دولياً لإنتهاء ولاية “الجنرال”، حتى الحلم الذي يراود رئيس الجمهورية بوضع رياض سلامة في السجن قبل إنتهاء ولايته لن يكون متاحاً، لا بالتدقيق الجنائي ولا بالدعاوى في لبنان والخارج. هذه المسألة بينه وبين “الشيطان الأكبر” دولياً وبينه وبين “الشيطان الأصغر” لبنانياً، وهو سيُجاهر مُجدداً برغبته الدفينة بزج سياسيين من الصف الأول في السجون!
الترسيم البحري للحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة هو “بيت القصيد” في العام 2022. دقّقوا في الكثير من المعطيات. أصل البنيان الحكومي. الخط 23. إستثمار الإمارات في “بلوك” إسرائيلي شمالي. مشروع الغاز المصري وخط الكهرباء الأردني إلى لبنان.
رابعاً؛ تبدو فرصة حكومة ميقاتي مع صندوق النقد الدولي أسيرة “خزعبلات دكنجية”. كيفية إحتساب الخسائر بدايةً ومن يدفعها لاحقاً. حتى الآن، لم يجرِ التوافق على الأرقام النهائية. يُفترض بالحكومة بعد أن تنجزها وموازنة 2022 هذا الأسبوع، أن تقدمهما إلى الصندوق، فيُرسل وفداً إلى لبنان الشهر المقبل. إذا وافق الصندوق على المسودة اللبنانية، يمكن توقيع الإتفاق الأولي بين الجانبين قبل نهاية شباط/فبراير المقبل. إذا لم تجتمع الحكومة، ثمة مشكلة تقنية يجري البحث عن مخرج لها. لا ينفي ذلك حقيقة وجود فريق لبناني سياسي ومصرفي ونقدي ومالي عريض لا يريد إبرام أي إتفاق مع الصندوق، طمعاً بلعبة وقت تبديداً للمزيد من الخسائر. لعبة مضى منها حوالي السنتين، غير أن مشكلة هذا الفريق ـ وهو وازن وقوي ـ أن سقوط الإتفاق مع صندوق النقد يساوي تحويل لبنان إلى ما هو أدنى وأصعب بكثير من “الصوملة”!
خامساً؛ الترسيم البحري للحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة هو “بيت القصيد” في العام 2022. دقّقوا في الكثير من المعطيات. أصل البنيان الحكومي. الخط 23. إستثمار الإمارات في “بلوك” إسرائيلي شمالي. مشروع الغاز المصري (خلال الفصل الأول من هذه السنة حسب وزير النفط المصري) وخط الكهرباء الأردني إلى لبنان (بات الخط الأردني جاهزاً وإشترط السوريون “إحتفالية” في دمشق يشارك فيها الجانبان الأردني واللبناني الشهر المقبل). حتماً عنوان “الترسيم” وحده يقتضي مقاربة سياسية مستقلة.. للبحث صلة.