“السياديون الجدد”.. خبز الناس أو “البوب كورن”!

يتفشى في لبنان وهم كبير: إنجاز السيادة. كيف؟ هل هذا ممكن؟ ومتى؟ الأقوال ظلال والأفعال محال.

الصمت من ادوات التفكير. الصراخ من ادوات التفكير. السيادة في لبنان بحاجة الى مساءلة الذات التاريخية، والذات الراهنة، اضافة الى تجربة لبنان السيادية خلال مئة عام، من عمر كيان كان، في معظم الاحيان، موزعاً بين الأحضان المحلية والاقليمية والدولية.

 حسناً. فلنبدأ بالفرضيات النظرية. السيادة اصلاً وفكراً، أصلٌ لا فرع. اساس الدولة والكيان، مدماك الاستقلال والقرار الوطني. تولد السيادة مع قيام الدولة وتكوين مؤسساتها. قراراتها منها وفيها، وسياساتها خيارات مبنية على مصلحة، او مصالح وطنية، اما علاقاتها الدولية، فتمليها مصلحة الدولة، آخذة بالاعتبار، القوى الاقليمية والدولية. فانحيازها الى محور، يلزم ان يكون منطلقاً من قاعدة عدم التفريط بالسيادة.

حسناً.. هل كان لبنان سيادياً ذات حقبة؟ لا. كان ناقص السيادة بسبب واضح وبسيط ومتكرر. شعوب لبنان، لا يكفيها لبنان ابداً. كان لبنان موزع الولاءات الخارجية، في منطقة ارادها الاستعمار منذ 100 عام، كيانات غير مكتملة النصاب. التجزئة الكيانية، لم تؤمن الارضية لسيادة بنسبة معقولة.

ليس خطأ ابداً، ان لبنان، منذ تكوينه العجيب، كان بسيادات متعارضة جداً. نادراً ما كان لبنان يرتاح الى خيار منطقة تزدهر فيها الصراعات والخلافات متخطية خرائط سايكس – بيكو وبلفور ومشروع ايزنهاور والنهوض القومي ونشوء كيان “اسرائيل”. لبنان الثابت ارضاً فقط، كان يعاني من ارتجاجات وتصدعات اقليمية. كان ينقسم باستمرار. و”لبنان بجناحيه” لم يحلق ابداً. و”لا شرق ولا غرب”، ترجمت بمزيد من التغَرب والتشَرق. لبنان نسخة مثالية لتشوهات تكوينية. باختصار، لم يكن لبنان متعافياً نسبياً، إلا في المراحل القليلة التي كان فيها الاقليم مستقراً وغير مستنفر.

متى كان الجيش اللبناني، ضمانة فعالة، لحفظ السيادة والدفاع عنها؟ الجواب سلبي. الجيش اللبناني، يشبه اللبنانيين، وما يُكال له من مدائح، اقوال شبيهة بـ”البوب كورن”

لبنان، أيها “السياديون الجدد”، يجب ان يكون سيداً مستقلاً، ولكنه لم يكن، وصعب ان يكون. وكمثال على الصعوبة او الاستحالة، نسأل: “كيف ستحققون السيادة اللبنانية، بوجود جماعات تنام في فراش الغرب والشرق وتحديداً، كيف يكون الحل مع معضلة سيادية قصوى: سلاح حزب الله”؟

السياسة لا تولد من الكتب والمراجع ومحاولات التماثل مع دول سياسية صارمة. تولد السياسة من واقع معروف بخصوصيته وبنيته وانتماءاته ومصالحه. نظرياً، السيادة ركن اساس في قيام الدولة المستقلة. فلنحاول ولنسأل: كيف يمكن حل مشكلة السيادة في لبنان؟

الواقعية هي أول شرط من شروط السياسة، وليس المثالية المستحيلة. “حزب الله” لبناني جداً، هو حزب ديني وطائفي، وهو “يخرق” السيادة بسلاحه. ومن شروط السيادة الأولى ان تتولى القيادة السياسية “غير المنحازة لشرق او لغرب او لإقليم” الأمرة السيادية العسكرية والامنية والسياسية.. هذه حقوق طبيعية لدول طبيعية بنسبة معقولة ومضمونة وثابتة.

متى كان الجيش اللبناني، ضمانة فعالة، لحفظ السيادة والدفاع عنها؟ الجواب سلبي. الجيش اللبناني، يشبه اللبنانيين، وما يُكال له من مدائح، اقوال شبيهة بـ”البوب كورن”. كل الصفات التي تسبغ على الجيش، هي صبغة لا أكثر. نادراً ما كان الجيش مصاناً. صان نفسه عندما لم يتدخل كقوة حفظ أمن وحدود. كثيراً ما هجس اللبنانيون بوحدة الجيش. ولقد انفرط مراراً وتقسم الوية طائفية وشارك بالفتن. معيب ان نوكل الى جيش الحفاظ على السيادة، وفي قياداته، على المستويات كافة، ولاءات “لبنانية طائفية”. ثم ان التوزيع الطائفي حاصل في الجيش. الجيش طوائفي. هو هش جداً. ولا يُعوَّل عليه داخلياً. أما خارجياً، فهو يعرج بين عميان. هذا ليس ذماً، بل هو وصف. يُفترض بنا تذكر سنوات الفتنة وانفراط الجيش. أما ما له علاقة بالحدود، فحدَث ولا حرج وبتواضع. لدى “اسرائيل” جيش واحد لدولة واحدة. لبنان، لديه جيوش لدويلات متعددة. الرابط بينها تسوية عرجاء. ولبنان اليوم، يشبه الجيش اللبناني، الجيوش المدنية والسياسية اضافة الى “جيش حزب الله”. لكل فريق جدار يتكئ عليه ويطالبون بالسيادة.

فلنفترض ان “السياديين” الجدد، وهم على حق نظرياً، يطمحون الى توحيد البندقية في لبنان، ما يعني سحب “سلاح حزب الله”.

هل هذا ممكن؟ نعم ام لا؟ كيف؟ بالقوة ام بالتفاهم؟ بسلم ام بحرب؟ وحدنا ام مع قوى مناوئة له؟ ثم، ماذا إذا كان الحوار والاقناع سيفضي الى ملهاة عبثية؟

يا ناس، “دويلة” حزب الله اقوى من “دولة” لبنان.

ايها السياديون، اعطونا حقبة ودلونا على زمن كان فيه لبنان مستقلاً بنسبة 50% فقط. ولا مرة. لقد انقسم لبنان مراراً. وانقساماته المتكاثرة معيبة

يستطيع اللبناني ان يتكئ على اللغة والكلام، ولا يستطيع ان يدلنا بوضوح على امكانية التحقيق. غاية السيادة عند “السياديين” هو إلزام “حزب الله” بأن يصير واحداً منهم. لا مانع في ان يكون ايرانياً، مقابل ان يكون السنة مع السعودية وشقيقاتها من الامارات، ومقابل ان يكون المسيحيون مع مرضعيهم من الغرب ومن اقاصي الجزيرة، وان يكون الدروز على كل المفارق، فمع كل قادم قوي يهيمون!

قليل من الغضب هنا: متى كان لبنان سيادياً؟ اللبنانيون السياديون، عملة نادرة. ومعظمهم من كتبة النصوص ومفكري الاستقلال. لبنان كان ذات حقبة، فرنسياً وبريطانياً. ثم كان غربيا وناصرياً، ثم: “ابعدوا عني كأس فلسطين”. فأدار ظهره وأغمض عينيه. كان مع جمال عبد الناصر وضده، واللبنانيون، ناصريون واميركيون، وبظهرهم مشروع ايزنهاور ومحاولة الانتماء الى حلف بغداد، ثم ان لبنان كان فلسطينياً في زمن ابو عمار، فيما غيره استنجد بسوريا، فدخلت لبنان بقواتها، وسرعان ما انقلب المسيحي عليها واستوى الاسرائيلي محلها. ثم حضرت دول ممولة وموزعة سلاح، من العراق وليبيا وسوريا..

ماذا بعد؟ “روقوا علينا شوي”. ايها السياديون، اعطونا حقبة ودلونا على زمن كان فيه لبنان مستقلاً بنسبة 50% فقط. ولا مرة. لقد انقسم لبنان مراراً. وانقساماته المتكاثرة معيبة: موارنة ضد موارنة، وشيعة ضد شيعة، ودروز ضد موارنة وشيعة، وسنة ضد ومع وبين بين الخ… تنزهوا في يوميات لبنان الفائتة. إن رائحة لبنان كريهة جداً. شعبه ينام بين القبور، وقياداته تعد بأحلام وردية تتحول الى دموية.

هذا هو لبنانكم ايها اللبنانيون السياديون.

لا سيادة تعلو السيادات الطائفية ابداً.

وعليه، فعندما تأسس لبنان، وجد نواب الجلسات الأولى في البرلمان، وفي عز النفوذ الفرنسي، انه من المعيب جداً ان يكون لبنان طائفياً.

إقرأ على موقع 180  أحياناً يجب تغيير بعض الضُبّاط

وقاوموا بشدة ادخال بنود طائفية في النص. لم يقبلوا في المادة 95 من الدستور إلا بالطائفية المؤقتة.. الخ.

فاز لبنان طائفياً قليلاً، ثم تطيف وتطيف، حتى أصبح عصارة الطائفية المسكرة للطائفيين. لبنان قائم اليوم، لأنه طائفي فقط. طائفيته تحفظه وتدفعه الى المقصلة.

لا سيادة ممكنة ولو بنسبة ضئيلة. الا بعد حسم المعارك الكبرى في الاقليم.

نعم، لا بد من التنبه الى تغير استراتيجي هام جداً. الجيوش، حتى الجيوش الصارمة في جنديتها وبنيتها وتسلحها، لم تعد تجيد القتال. تغيرت انماط القتال، وهذه نماذج منها:

  • اسقطت الولايات المتحدة العراق. دمّرته. خرّبته. استباحته ولم تستطع المحافظة على وجودها الا في ملاجئ ووجدت في مواجهتها قوى غير نظامية، يطلق عليها إسم “المقاومة الشعبية”. تفشت الداعشية في العراق، ودخلت سوريا واقامت دولتها، من قضى على الداعشية؟ المقاومة الشعبية في العراق وسوريا وليس الجيوش.
  • نموذج غزة في فلسطين: غزة الصغرى شوكة صغيرة في حقل الغول الاسرائيلي. باتت “اسرائيل” تحسب حساب الخسائر في كل مواجهة يصمد فيها المقاومون في غزة، وهؤلاء، تسخو عليهم إيران. ولولاها لكانت غزة تختنق غذائياً وعسكرياً وانسانياً.
  • نموذج لبنان والجيش كان منقسماً ومفتتاً عندما اجتاحت “اسرائيل” لبنان مراراً وأقامت في جنوبه اقامة مديدة. الجيش كان بحاجة الى لم فرقه وقياداته وتأهيل جنوده ليكونوا لبنانيين اولاً وطائفياً في اماكن سكناهم وتواجدهم. وهذا الذي نسوقه هنا، ينطبق على ضباط كبار في قيادات مميزة. فـ”كل عنزة معلقة بكرعوبها”.. وهكذا حال القادة والضباط.

المقاومة الوطنية والاسلامية حرّرت لبنان، وانفرد “حزب الله” باستكمال تحرير مصان. تحرير قوي وصلب وراسخ. الجيش كان غائباً. المقاومة هي حاضر السيادة ومستقبلها.

لن تجازف اسرائيل بحرب تطالها في العمق الظاهر منها والمخبأ، فيما هي عاجزة عن اصابة بنية المقاومة، وتعوض عن ذلك بالتدمير الشامل. ولبنان راهنا مدمر مع وقف التنفيذ للوسائل العنفية

نداء، نداء، نداء، للسياديين، مع احترامنا البالغ لمن انتخبهم، رجاءً، قولوا لنا كيف ستحلون مشكلة السيادة، و”حزب الله”، حاجة وطنية. نقدكم لسياسته الداخلية، لا علاقة له بالسلاح. فهو على انسجام تام مع المحاصصة، والترقيع والاحتماء والحماية.. حزب الله، يبدو حتى الآن غير معني بدولة مدنية ديموقراطية تتولى المحاسبة.

كي لا نقفل طريق الحلول الممكنة/المستحيلة معاً: نستعرض الآليات المتاحة والعاجزة:

اولاً: التغيير بالوسائل الديمقراطية. بالانتخابات تحديداً. هل حدث قبل ذلك ان تغير لبنان للأفضل؟ اما وقد جرت الانتخابات، ولم تتغير موازين القوى، وليس في الافق حل بالطرق “الديمقراطية” في مجلس النواب او في قرارات يقدم عليها مجلس الوزراء، ماذا أنتم بفاعلين؟

ثانياً: الحل المتوهم، يقوم على استدعاء قوى عظمى عالمية واقليمية على علاقات ابوية واخوية مع “اسرائيل”. وتمكين الحصار من تركيع شعب، او فئات منه. ولقد حصل ذلك. الحصار المتدرج والمنع المستدام، لا ينجحان في التأثير على “حزب الله”، الذي يتحصن داخل “دويلته”، فهو فيها آمن ومستأمن، وفي الوقت نفسه لا يخاف بل يخيف.. هذا وهم. استدعاء الخارج يصيب الجميع ما عدا بنية المقاومة.

ثالثاً: استدراج “حزب الله” الى حرب اهلية. وهذا مستحيل جداً. الحرب الاهلية، كي تكون كذلك، يلزمها مدد زمني، أي معركة لا تنتهي. الحرب الأهلية لا يتجرأ عليها أحد. وتحديداً خصوم واعداء “حزب الله”. السنَة ليسوا على استعداد واهلية، “القوات” ليست بحجم المنازلة إن تجرأت على ذلك. ميزان القوى راجح لجهة المقاومة. إذاً، لا حرب اهلية رابحة في هذا المضمار.

رابعاً: ضربة اسرائيلية للمقاومة. الذرائع متوفرة، والارادة تحسب كثيراً. فالخطر التدميري سيطال لبنان و”اسرائيل”. غزة و”سيف القدس” افهما اسرائيل ان الحرب سيدفع ثمنها الجانبان. لن تجازف اسرائيل بحرب تطالها في العمق الظاهر منها والمخبأ، فيما هي عاجزة عن اصابة بنية المقاومة، وتعوض عن ذلك بالتدمير الشامل. ولبنان راهنا مدمر مع وقف التنفيذ للوسائل العنفية.

خامساً لا سادساً، سابعاً: كلها مستحيلة.. إذا فلنقرأ الواقع وادواته.

يا اصحاب السيادة، تبصروا قليلاً، لعلكم تعودون ادراجكم، لتبدأوا مساركم المتواضع: الاهتمام بشؤون الناس وهم على الحافة في كل حاجاتهم. الناس اولاً

لا أحد سيحارب من اجل لبنان. الحرب الاقتصادية أجدى. إننا في قعر البئر، وذلك ببركة “قيادات لبنان الاصيلة”! قوى التغيير ملزمة ان تكون سيادية. دلونا على طريقة “تخنق المقاومة”. لا يوجد. ثم لا ننسى ان الشيعة لبنانيون على المذهب الايراني، والسنة لبنانيون على المذهب السني، والدروز بين بين، والمسيحيون على المذهب الغربي.

خلاصة القول: تخلوا عن هذه المعزوفة نهائياً. عملياً، اخراج المقاومة من المعادلة اللبنانية مستحيل. وفي هذه الاثناء، نصيحة غير ودية بالمرة؛ تمرنوا على الوضوح: غايتكم التطبيع، ونموذجكم، دول طبعت، ودول حرضت، ودول تخوض معاركها بالسلاح، خارج لبنان، ضد دول لم تقبل بالتطبيع، وقد لن..

الحقد الطائفي، دكتاتور متوحش. المطلوب قتل الوحش ومقاتلة الدكتاتور.. وهذا لا يحتاج الى كثير من التفكير. الولايات المتحدة، دولة متوحشة وقاتلة وغازية ومدمرة، ولا صوت يعلو عندها فوق صوت “اسرائيل”.

يا اصحاب السيادة، تبصروا قليلاً، لعلكم تعودون ادراجكم، لتبدأوا مساركم المتواضع: الاهتمام بشؤون الناس وهم على الحافة في كل حاجاتهم. الناس اولاً. ولأن الناس لم يكونوا اولاً في سياسات القوى المتورمة طائفياً ومالياً، انهارت حياتهم وباتوا في عوز مذل.

اليس هذا غريباً جداً، ان نبدأ بالسيادة ونهمل الفساد ورغيف الخبز والدواء. اليس الأفضل ان يقف التغييريون في مواجهة قوى المرجعيات الدينية التي لم تنطق الا بالكفر السياسي، وبالأمس اخترعوا لنا معركة بصوت مرتفع تحريضي تشنجي، استدعى فيه الموروث الديني، ضد المثليين جنسياً.. وقبلها ضد الزواج المدني؟

عيب. والله عيب. هذا الفقر الديني من المستحيل السيادي، الى ملهاة التحريض على المثليين.

انني لا استطيع ان أشتم بصوت عالٍ. رجاء لا تتجسسوا على غضبي. انني ممتلئ باللعنات. لا مكان لسماء صغيرة، نحيلة، في هذا البلد المحتل من مرجعيات وثنية، تنطق باسم الاديان.

فلنجرب أن نصمت معاً. الهذيان المذهبي بلغ الزبى.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180   في قلب موسكو.. تاريخ وقلق وأسئلة