استهل الكاتب تيسدال حديثه قائلا إنه رغم ساحات القتال الكثيرة فى الشرق الأوسط، بدأت الأوضاع تتغير على أرض الواقع؛ ظهرت تحالفات جديدة لتخفف العداوات القديمة، وجددت كل من حسابات المصالح والأولويات الوطنية وبناء الجسور الدبلوماسية الحذرة ــ آمال السلام المحيرة على جبهات متعددة.
لكن هذا التغيير يقوده الخوف بدلا من الإيمان بأى رؤية أوسع. السياق، كما هو الحال دائما، هو صراع شرس على الهيمنة بين روسيا، والصين التوسعية، والولايات المتحدة المصممة على العودة إلى قواعد اللعبة فى الشرق الأوسط.
فى كل الأحوال، يعد تزايد التوافق الأمنى والاقتصادى بين إسرائيل من ناحية والدول العربية من ناحية أخرى أحد أكثر التحولات إثارة للجدل، خصوصا ما أكد عليه بينى جانتس، وزير الدفاع الإسرائيلى، بشأن إنشاء تحالف عسكرى إقليمى لردع الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة الإيرانية.
وبحسب ما ورد يضم هذا التحالف المحتمل والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية كلا من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والمملكة الأردنية الهاشمية ومصر وقطر، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية التى لا تربط إسرائيل بها أى علاقات دبلوماسية رسمية حتى الآن. ولا شك يغذى هذا التقارب بين العرب وإسرائيل القلق المشترك بشأن طموحات طهران المزعومة لامتلاك أسلحة نووية، والتى تكتسب زخما إضافيا فى الوقت الذى تتأرجح فيه المحادثات النووية مع إيران حتى وصلت إلى حافة الانهيار.
***
ذكر الكاتب أن التحول الثانى فى المنطقة والذى لا يقل إثارة عن التحول المذكور أعلاه هو لقاء بايدن المخطط مع محمد بن سلمان، ولى العهد السعودى الذى اعتبره «منبوذا». هذا اللقاء يثير انتقادات حادة بالفعل، بالرغم من أن هذا الفعل البراجماتى مفترض فى السياسة الواقعية.
سوف يشجع بايدن تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية ويسعى إلى تخفيف التوترات الفلسطينية، ومن المقرر أيضا أن يزور الضفة الغربية المحتلة. لكن الزيارة، وهى الأولى له إلى الشرق الأوسط كرئيس، تهدف بشكل أساسى إلى إعادة تأكيد نفوذ الولايات المتحدة بعد إهمال سنوات حكم ترامب.
كما أن هجوم روسيا على أوكرانيا له ضلع فى الزيارة. حيث سيضغط بايدن على الجانب السعودى والمنتجين الآخرين لزيادة إنتاج النفط لتخفيف أزمة الطاقة العالمية وتقليل عائدات موسكو. فى غضون ذلك، يظل بايدن متيقظا للتحدى الكبير الآخر الذى يواجهه فى الشرق: احتواء الصين، الحليف الاستراتيجى لروسيا وصديق إيران النفطى.
سوف يشجع بايدن تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية ويسعى إلى تخفيف التوترات الفلسطينية، ومن المقرر أيضا أن يزور الضفة الغربية المحتلة. لكن الزيارة، وهى الأولى له إلى الشرق الأوسط كرئيس، تهدف بشكل أساسى إلى إعادة تأكيد نفوذ الولايات المتحدة بعد إهمال سنوات حكم ترامب
من جانبه، حذر كينيث روث، المدير التنفيذى لمنظمة هيومن رايتس ووتش، من أنه: «إذا اختصر بايدن الحرب فى أوكرانيا إلى مجرد صراع جيوسياسى، فسيكون لدى الحكام المستبدين فى العالم سبب للفرح وتنفيذ ما يريدون. متذرعين بأن الديمقراطيات أعلنت عن قيمها ومستعدة أن تبيعها مقابل خزان أرخص من الغاز (فى إشارة لزيارة بايدن للسعودية وتجاهل مقتل جمال خاشقجى)».
***
الكاتب أضاف أن الزيارة لها آثار كبيرة على اليمن وسوريا أيضا. يُعدُ إنهاء حرب اليمن، التى أنتجت أسوأ حالة طوارئ إنسانية فى العالم بعد التدخل السعودى عام 2015 ضد الحوثيين المدعومين من إيران، هدفا رئيسيا لبايدن. والأمل هو أن يجعل ولى العهد سلمان الهدنة الحالية دائمة.
وفى تحول كبير آخر، قد تقدم الولايات المتحدة حوافز اقتصادية لمنبوذ ثانٍ فى المنطقة، الرئيس السورى بشار الأسد، فى محاولة لمواجهة النفوذ الروسى فى سوريا. يمكن أن تشمل حتى تخفيف العقوبات لمساعدة دمشق على استيراد النفط الإيرانى.
ولا داعى للقول إن هذا التحول يرتبط باحتمال آخر وهو إنقاذ اللحظات الأخيرة للاتفاق النووى مع إيران. صحيح فشلت المحادثات الإيرانية الأمريكية غير المباشرة فى قطر الأسبوع قبل الماضى، إلا أنه يبدو بشكل جلى أن طهران، التى تسعى بشدة إلى تخفيف العقوبات حتى مع تطوير قدراتها النووية، تصر على أن الاتفاق لا يزال ممكنا.
وبحسب ما ورد تجادل شخصيات عسكرية إسرائيلية بارزة الآن، على عكس الموقف الذى اتخذه رئيس الوزراء السابق ورئيس الوزراء المستقبلى المحتمل بنيامين نتنياهو، بأن صفقة إيران السيئة أفضل من عدم وجود صفقة على الإطلاق. ناهيك عن أن الولايات المتحدة لديها حافز إضافى، فالاتفاق يمكن أن يضاعف كمية النفط الإيرانى فى الأسواق العالمية ثلاثة أضعاف.
***
على الجانب الآخر، يشن فلاديمير بوتين، حملة تأثير موازية. فلقد قام الرئيس الروسى الأسبوع قبل الماضى بأول رحلة له إلى الخارج منذ الغزو الأوكرانى، التقى فيها بالرئيس الإيرانى المناهض للغرب، إبراهيم رئيسى، فى تركمانستان.
ووفقا للكرملين، أشاد بوتين بالتوسع السريع فى التجارة الثنائية مع طهران منذ 24 فبراير/شباط، لحظة انطلق العملية العسكرية ضد أوكرانيا. وقال لرئيسى: «لدينا علاقات استراتيجية عميقة حقا.. ونعمل سويا فى مناطق ساخنة مثل سوريا». ومثل الصين، رفضت روسيا إدانة منع إيران الأخير لعمليات التفتيش النووى التى تديرها الأمم المتحدة.
لكن كعادتها تبدو نوايا إيران غامضة ومتناقضة. ولأنها منزعجة من التحالف العسكرى العربى الإسرائيلى الجديد، فإنها تتغاضى عن تحول جيوسياسى زلزالى حقيقى متمثل فى انفراج العلاقة بين إسرائيل والسعودية التى تعد منافستها الكبرى فى المنطقة، وقالت طهران الأسبوع قبل الماضى: إنها مستعدة لاستئناف المحادثات المباشرة مع السعودية بوساطة عراقية.
رغم أنه من غير المحتمل فى هذه المرحلة عودة العلاقات بين السعودية وإيران، فإن نزع فتيل التوترات النووية الإيرانية السعودية يمكن أن يكون له تداعيات إيجابية هائلة على علاقات طهران مع أوروبا والولايات المتحدة وجميع جيرانها العرب. فإذا قللت إيران من عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط وأثبطت الزحف الروسى والصينى، فسيكون ذلك موضع ترحيب فى واشنطن.
ومع ذلك، فإن احتمال إعادة إدماج إيران فى المنطقة ينذر بالخطر بالنسبة لإسرائيل، فلا تزال طهران تنظر إلى إسرائيل على أنها تهديد وجودى، لا سيما من خلال دعمها لحزب الله فى لبنان وحركة حماس فى غزة. لذلك تواصل إسرائيل اغتيال شخصيات النظام ومهاجمة المنشآت الإيرانية، وكثفت أخيرا ما يسمى بـ «حرب الظل» فى سوريا. وهذا من المحتمل أن يضعها على خلاف مع أجندة بايدن.
***
ما نريد قوله إنه مهما كانت النتائج المأمولة التى قد تظهر أو لا تظهر مع زيارة بايدن المرتقبة للسعودية خلال أيام معدودة، فمن الواضح أنه سيكون هناك الكثير من الخاسرين، من بينهم أكراد شمال سوريا المحاصرون من قبل نظام تركى متسلط لا تقاومه واشنطن، وعدد لا يحصى من الضحايا الآخرين لانتهاكات حقوق الإنسان على أيدى مستبدين ودكتاتوريين فى الشرق الأوسط مدعومين من الغرب.
لكن الشعب الفلسطينى هو من سيخسر أكثر من هذا السلام الجزئى والانتقائى للغاية. فقضية الاستقلال الفلسطينى، التى تخلى عنها الحلفاء العرب، وتلاعبت بها إيران، وتجاهلتها أوروبا والولايات المتحدة، واستغلتها إسرائيل، لم تبدُ قط أكثر قتامة كاليوم.
(*) بالتزامن مع “الشروق“