القطاع العام صمّامُ أمانٍ.. لا أصل البلاء!

على مدى أيّام، وابنة عمّتي تحاول "تسوّل" توقيع معاملة لها في المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة في بعبدا. وكانت كلّما سألت الموظّف المسؤول عن مصير معاملتها، كانت تجني على نفسها بتأخيرٍ إضافي للإفراج عن توقيعه. فمعروفٌ عن ذلك الموظّف "المتفاني"، أنّه لا يمرّر معاملة إلاّ إذا دسّ صاحبها في طيّاتها ورقة الـ 100$ "بخشيشاً".

طال “ابتزاز” ذاك الموظّف لها. وطال انتظارها لـ”وخزةٍ” في إحساسه. لعلّها تحفّزه لتأدية الواجب. عبثاً تنتظر. فقرّرت، حينئذٍ، مقاومة فساده. وعدم الوقوع في شرك قنوطها. وصارت، يوميّاً، تتأبّط كتاب Là où le soleil disparaît، وتجلس قبالته. فلا حَوْل لها، إلاّ بـ”قتل” الساعات بالمطالعة. وانتهت مقاومتها بتحقيق إنجازيْن؛ انتهاؤها من قراءة الكتاب، وتوقيع المعاملة بعد طول انتظار. تختصر هذه الحادثة، ربّما، ذهنيّة العمل السائدة في معظم الدوائر الحكوميّة في لبنان. فمئات الشكاوى التي يقدّمها مواطنون، تشير إلى تأخيرٍ متعمَّد يمارسه “موظّفون” من أجل فرض رشاوى.

وما كان يُسرَّب من مالٍ “تحت الطاولة”، سرعان ما استحال إلى ممارسةٍ علنيّة. ومن ثمّ إلى حقٍّ مكتسَب. ليس لبعض الموظّفين الحكوميّين العاديّين، فحسب. بل، لـ”كبار القوم” في البلاد. أي، أولئك الذين نهبوا الدولة على رؤوس الأشهاد. ومصّوا دمنا ووقتنا ومالنا. و”سرقوا الكِحل من العين”، بحسب تعبير الروائي اللبناني جبّور الدويهي. ونهج الفساد والإفساد في أروقة الإدارات والمؤسّسات العامّة، هو بيت القصيد في شبكة المشاكل البنيويّة التي يعاني منها القطاع العامّ في لبنان. هذا القطاع الذي ينفّذ موظّفوه، منذ أربعين يوماً، إضراباً مفتوحاً. اعتُبِر من أطول الإضرابات الشاملة التي شلّت البلاد. وعَكَس حال التلاشي التي تلمّ بمجتمعنا.

في لبنان، بات هناك مرضٌ اسمه “أزمة القطاع العامّ”. وهي أزمة لا تستوي على سقفٍ متدنٍّ. وإنّما تخترق كلّ مستويات النظام وآليّاته. استفحل هذا المرض، بغياب جهاز مناعةٍ، في الدولة، يتصدّى لتفشّيه. و”الإصابة بالمرض والسماح للجهاز المناعي بالعمل، إنّما هما أمرٌ مُكلف للغاية”، بحسب عالم النفس الأميركي مارك تشالر (صاحب مفهوم الجهاز المناعي السلوكي). وهذا ما يحدث، بالضبط، مع الدولة اللبنانيّة وقطاعها العامّ. والذي يشكّل موظّفوه بقايا هيكل الدولة. يعاني هذا القطاع، بالأساس، من اعتلالاتٍ خطيرة. كانت قد نبّهت إليها غالبيّة الخبراء الاقتصاديّين. بُحَّت حناجرهم، وهم يحذّرون من انبعاث مؤشّرات الانهيار التدريجي لقطاعٍ يضمّ قرابة ثلث القوى العاملة في لبنان.

ومنذ الـ 2019، استمرّ الانحدار بتسارعٍ ملحوظ إلى القاع. مترافقاً مع نقمة شعبيّة متصاعدة حيال موظّفي هذا القطاع الذي صار، بنظر اللبنانيّين، “أمّ الشرور”. وأصل البلاء في خراب الوطن. علّقوا على شمّاعته كلّ مصائبنا. بحيث صار، مثلاً، إقرار سلسلة الرتب والرواتب في الـ 2017 سبب الانهيار المالي. وليست السياسات الماليّة والاقتصاديّة لـ”زعماء” الدولة الذين اشتروا، بتلك السلسلة، أصوات ناخبيهم في انتخابات 2018! وصار التضخّم البشري في المؤسّسات والإدارات العامّة، أيضاً، هو سبب إفلاس الخزينة. وليست عصابات السلطة وأحزابها ممّن استغلّوا مواقعهم. وعطّلوا مجلس الخدمة المدنيّة. للقيام بالتوظيف العشوائي، من دون حسيبٍ أو رقيبٍ، إرضاءً لقواعدهم الشعبيّة. وعندما تعلو النبرة، اليوم، للمطالبة بترشيق القطاع العامّ والتداوي بترياق الخصخصة، فهذا يدلّل (إذا أحسنّا النيّة) إلى عدم فقه الناس بماهيّة القطاع العامّ ودوره. لماذا وجود القطاع العامّ؟

حين بدأت الاحتجاجات الشعبيّة عام 2019، لم يكن واضحاً لدى معظم اللبنانيّين حجم الاهتراء في الدولة. وعندما تهترئ الدولة، لا يبقى حجر على حجر. وأكثر. تتحرّك، في المستنقعات الآسنة، كلّ صنوف الغرائز التوّاقة إلى الاحتراب العصبوي. والأخطر، تتعطّل مع هذا الاهتراء لغة العقل والمنطق لدى القائمين على تسيير أمورنا. وتغيب الإدارة الناجعة في زمنٍ، أحوج ما يكون فيه لبنان إلى رجال دولة

تتغنّى دول العالم بقطاعها العامّ، كونه يشكّل عماد الدولة وأساسها في تأمين الوظيفة العامّة. ولطالما ارتبط ظهوره، في الدول النامية، بالطموحات والطروحات الإصلاحيّة. وتحديداً، في مجالات البُنى الأساسيّة. في الصحّة والأمن والدفاع والتعليم. وكلّ ما يقدّم الخدمات الحيويّة والضروريّة للناس. فالقطاع العامّ أكثر من ضروري. بالنظر إلى أنّ غالبيّة نشاطاته تنمويّة. أو إنّها تلبّي الاحتياجات الأساسيّة لسير العمل الإداري والتنموي في المجتمع. يمثّل القطاع العامّ، بمؤسّساته، بُنية الدولة. بل، الدولة بذاتها. وعليه، لا يمكن تحقيق النهوض الاقتصادي بمعزلٍ عنه. لأنّه صمّام الأمان لدولة الرعاية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. لذا لا نبالغ حين نقول، إنّ انهيار ثلاثٍ وتسعين مؤسّسة عامّة في لبنان، إنّما يعني تعطّل دولتنا بالكامل. لماذا فشل قطاعنا العامّ؟

قبل اندلاع الحرب الأهليّة، لم يكن القطاع العامّ اللبناني يعاني من أيّ عجزٍ يُذكر. بل إنّ بعض مرافقه كانت تحقّق أرباحاً للدولة. وتؤمّن عبره الدولة جباية الضرائب والرسوم التي تغذّي الخزينة. كما أنّ الأعمال الإدارية والخدميّة، التي يؤدّيها في المجتمع، كانت تعود بالفائدة (ولا تزال) على القطاع الخاصّ. لكن منذ مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، بدأ هذا القطاع بالترهّل والتقهقر. فصار ينزف من جروحٍ عديدة. ما أفضى إلى إضعاف دوره وتسخيره لمصالح الزعامات الطائفيّة وقواها. فتعطّلت منافعه. وتحوّل فائض الموازنة إلى عجزٍ كبير. والرقابة إلى فوضى و…هكذا. من هنا، راجت مقولة في لبنان مفادها، أنّ القطاع العامّ لم يفشل بل أُفشِل. وفي هذه المقولة الكثير من الدقّة والصواب.

إقرأ على موقع 180  ملاحظات جوهرية على اتفاق الترسيم.. يجب تصحيحها

فلقد استباحت الزُمر اللبنانيّة الحاكمة القطاع العامّ إلى درجة تحويله إلى مغارة للبطالة المقنّعة. ولتعميم ثقافة الفوضى واللاإنتاجيّة والزبائنيّة والفساد. ولتغليب عمليّات التفنّن في تجاوز القوانين والأنظمة والإفلات من الرقابة. صار القطاع العامّ عندنا مشاعات. ولكلّ مشاعٍ مأساته التي تنعكس على محيطه. وفي لبنان، نغرق منذ سنواتٍ طويلة في تراجيديا المشاع. إنّه المصطلح (الذي أُطلِق في الـ 1968)، ويصف حالة استنزاف موردٍ مشترك من قِبَل الأفراد الذين يتشاركون به وفقاً للمصلحة الذاتيّة. على الرغم من إدراكهم أنّ استنزاف الموارد المشتركة يتعارض مع المصلحة المشتركة للمجموعة، على المدى الطويل.

وبحسب الأبحاث العلميّة التي أُجريت على الطفيليّات، تنبع مشاكل المشاعات من الجينات المسؤولة عن الأنانيّة. أي تلك التي تحاول إبقاء الموارد، حصراً، لها. ما يؤدّي إلى القضاء على محيطها. وهذا ما حصل في أروقة القطاع العامّ. في سابقةٍ لم تحصل في كلّ تاريخ البشريّة؛ وهي أن تدمّر دولةٌ ذاتها بذاتها. من خلال تدميرها لقطاعها العامّ. والأدلّة على هذه الجريمة الموصوفة أكثر من قدرتنا على سردها. لكنّ المثال الفاقع عليها، قد يكون في ما ارتكبته (وترتكبه) مافيات السلطة بحقّ الجامعة اللبنانيّة والقضاء والمستشفيات الحكوميّة!

فموظّفو القطاع العامّ في لبنان يعانون نوعاً من الغربة عند المسؤولين الذين يجهلون هذا القطاع ومشاكله. ويعالجونها بكيديّة ونكد. وها هم يجهدون، وبغباءٍ قلّ نظيره، لتشتيت الموظّفين وفرط إضرابهم من الداخل. إنْ، عبر الترهيب وتحميل المسؤوليّات ولصق كلّ المشكلات وتراكم الملفّات الحسّاسة والعاديّة بالموظّفين المتوقّفين عن العمل. وإنْ، عبر الترغيب بالقول إنّ الأمور تسير نحو الحلحلة، وبالتالي لا داعي للاستمرار في الإضراب. هل من حلولٍ لنهوض القطاع العامّ من كبوته؟

لا تتّسع هذه السطور لعرض الحلول. ولكن من البديهي القول، إنّ التأقلم مع حال التدهور والوضع السيّء المعيش، لا يقود، في الاقتصاد، إلى الحلّ. غير أنّ المعضلة تبقى في أنّ مَن “بأيديهم” الحلّ، لا يريدونه. وبدلاً من أن يكون نهوض القطاع العامّ، الذي يضمّ أكبر المؤسّسات في لبنان، منطلَقاً للنهوض بالوضع الاقتصادي والخروج من الأزمة التي يعانيها الاقتصاد الوطني. نرى السلطة السياسيّة تسعى إلى ضرب هذا القطاع، من خلال التهجير القسري لطاقاته. تلبيةً لـ”وصفة” صندوق النقد الدولي الساعية إلى إضعاف بنية الدولة ومؤسّساتها لصالح رأس المال الخاصّ.

كلمة أخيرة. حين بدأت الاحتجاجات الشعبيّة في العام 2019، لم يكن واضحاً لدى معظم اللبنانيّين حجم الاهتراء في الدولة. وعندما تهترئ الدولة، لا يبقى حجر على حجر. وأكثر. تتحرّك، في المستنقعات الآسنة، كلّ صنوف الغرائز التوّاقة إلى الاحتراب العصبوي. والأخطر، تتعطّل مع هذا الاهتراء لغة العقل والمنطق لدى القائمين على تسيير أمورنا. وتغيب الإدارة الناجعة في زمنٍ، أحوج ما يكون فيه لبنان إلى رجال دولة. و”يا أشباه الرجال ولا رجال…”. إقتضى الترحّم على الإمام علي بن أبي طالب.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فلسطين الدم والحياة.. والرهان