الإستفتاء التونسي.. ركوب البحر نحو “لامبيدوزا”!

تشرق شمس اليوم (الإثنين) في تونس لتؤذن ببداية الاستفتاء من أجل "إنهاء عشريّة الخراب والدمار وبناء تونس جديدة"، على ما يقول المناصرون والمؤيدون، وذلك في ظلّ تحشيد من قبل مؤسسات رسمية ووسائل إعلام وأحزاب داعمة للرئيس التونسي قيس سعيّد.

يربط قيس سعيّد مستقبل دولة وشعب بخيارين فحسب، فإما “نعم” (تتحقق أهداف الثورة)، أو “لا” (الإنقلاب على الثورة)، وهو يصيغ مشروعه وخطابه على ثنائية مُبهمة، فعنده أنّ الماضي كلّه خراب واضطهاد، والمستقبل سيكون عدلاً وازدهاراً بعد الاستفتاء. كذلك، فإنّ السياسيين خونةٌ نكّلوا بقوت الشعب، والأحزاب آيلة إلى الزوال، والمنظمات تنفذ أجندات خارجية، والحوار والتوافقات لا جدوى منهما، فيما يقوم الحلّ الذي يقدمّه هو على تصورات غامضة تُذكرُ من بينها “الشركات الأهلية” التي أصدر مرسوماً بشأنها في آذار/مارس الماضي وتهدف إلى “تحقيق التنمية الجهوية (…) وفقاً للإرادة الجماعية للأهالي”، بالإضافة طبعاً إلى “دستور الجمهورية الجديدة”.

بذلك يبدو قيس سعيّد “مهدويّاً”. يرى الرجل في نفسه مخلّصاً لا بدّ منه، وبناء على ذلك لا تكمن خطورة تصوّرات سعيّد في عدم جدوى خياراته فحسب، أو في تبنيه سياسات اقتصادية كارثية ستكون نتائجها مؤلمة، بل في سياساته الإقصائية، إذ أنّه يقصي جميع السياسيين والمنظمات والأحزاب من أي مسارات مهمة يتخذها، ويحمّل المسؤولية إلى أشخاص يتحدث عنهم بضمير المجهول!

أيّ معارضة؟

ثمّة على أرض الواقع فئة مهمة، وهي جيل الشباب الذي أشعل الثورة وساهم فيها قبل أن يعتزل الشأن السياسي ويتجاهل السلطة التي نبذته بدورها. تعتبر غالبية هذا الجيل نفسها غير معنية بالاقتراع، وهي تتطلع إلى مواجهات لاحقة مع قيس سعيّد حول مبادئ دولة القانون، ستتحدد طبيعتها في الأيام المقبلة، وسيُعرف المدى الذي سيبلغه القمع الذي يتخذ نسقاً تصاعدياً منذ شهور.

في المقابل، هناك معارضة هشّة لم تتعظ من أخطاء الماضي، وتختزل صراعها مع سعيّد لا حول الحريات الفردية والسيادة الوطنية والديمقراطية، وإنما حول افتكاك السلطة، وبخاصة “جبهة الخلاص” التي تضمّ “حركة النهضة” بزعامة راشد الغنوشي. وإذا كان سعيّد يعتبر ما قبل ٢٥ تموز/يوليو ٢٠٢١ “شراً مطلقاً”، فإنّ هذه المعارضة ترى في ذاك التاريخ وما أعقبه “انقلاباً وخراباً”، علماً أنّ غالبية الشعب التونسي كانت مؤيدة بدايةً لقرارات الصيف الماضي التي أزاحت “النهضة” و”استعادت الدولة”، ولكنّ الدعم تراجع تدريجاً بسبب غياب مبادرات رئاسية لمحاربة الفساد طبقاً للوعود، وأيضاً بسبب اتضاح المسار الرئاسي الإقصائي في ما بعد والشروخ التي أثارها في المجتمع.

يقول الصحافي أحمد نظيف لـ”١٨٠ بوست” إنّ المشكل يتمثل “في انطلاق الرئيس قيس سعيّد من أوهام خاصة به” وسط تدهور الأحوال المعيشية، علماً أنّ الأزمة لم تكن يوماً، منذ ٢٠١١، أزمة قوانين إذ لتونس قوانينها المتقدمة نسبياً منذ بدء حركات الإصلاح في القرن التاسع عشر، وإنّما هي أزمة إدارة السياسة

هذا الواقع الفسيفسائي لمعارضي سعيّد يأتي بعدما عانى التونسيون طوال السنوات العشر الماضية من محدودية الاختيارات. كان الأمر يقتصر على الاختيار بين السيء والأسوأ في ظلّ ثنائيات سمّمت الحياة السياسية: كان الصراع من 2011 إلى 2014 بين الإسلاميين والعلمانيين، ثمّ تحوّل إلى صراع بين الإسلاميين والنظام القديم، وصولًا إلى المواجهة الحالية التي تريد لها قرطاج أن تأخذ طابع الصراع مع الإسلاميين حصراً ما يساهم في جعل الطريق أمام سعيّد مفروشاً لإحكام قبضته على بلد الديمقراطية الناشئة.

الشعبوية

يقول الصحافي أحمد نظيف لـ”١٨٠ بوست” إنّ المشكل يتمثل “في انطلاق الرئيس قيس سعيّد من أوهام خاصة به” وسط تدهور الأحوال المعيشية، علماً أنّ الأزمة لم تكن يوماً، منذ ٢٠١١، أزمة قوانين إذ لتونس قوانينها المتقدمة نسبياً منذ بدء حركات الإصلاح في القرن التاسع عشر، وإنّما هي أزمة إدارة السياسة، في ظلّ تغيرات مهمة تشهدها بنية المجتمع على غرار تضعضع الطبقة الوسطى منذ الثورة إلى اليوم.

وفي هذا السياق، يتحدث أحمد نظيف عن “تفاهة تصورّ سعيد، ومحدودية مشروعه”، ويقول “عندما تحرّك الرئيس وقام بإجراءات 25 تموز/يوليو، قام بذلك تحت مظلة وجود خطرين داهمين ظاهرين، الأوّل، صحي إبّان الأزمة الوبائية، والثاني، أمني قال إنّه “يُهدّد الدولة”، ولكنّه يستدرك “أمّا في الباطن، فهو كان ينتظر أي لحظة من أجل القيام بالتغيير”. وللإشارة، ليس الشعب من يحتاج دستوراً جديداً، ولكن سعيّد هو من يحتاجه تنفيذاً لتصوّراته المتناقضة بين النظام الرئاسي المحكم، وبين حكم الشعب “من تحت” عبر مجالس محليّة تنبثق عنها غرفة تشريعية ثانية.

من جهة أخرى، قد يكون من الإجحاف وصف مجمل مشروع قيس سعيّد بالديكتاتوريّ، فلا البنية الفوقية للدولة، ولا السياق، قد يسمحان بعودة هكذا نظام إلى تونس. ولكن الأكيد أنّ مشروعه يقوم على الشعبويّة، فكلّ شيء يلفه الغموض، حتى التهم التي يُعدّدها الرئيس التونسي لخصومه غامضة، لا نعرف من هم ولا أي تهم تلاحقهم ولا أي مصير يواجههم، وهو وعد الفئات المؤيدة، وغالبها من الفئات الشعبية، بمستقبل مشرق هو أقرب ما يكون إلى الأوهام. وحين يتحدث سعيّد عن الشعب الذي فوّض نفسه عنه وأصدر الأوامر والتشريعات باسمه، فهو يبدو كمن يتحدث دون أن يقول شيئاً.

إقرأ على موقع 180  قراءة في الإعلان الروسي ـ الصيني.. حقبة دولية جديدة

مهاجرون في البحر

يدور سعيّد في حلقة مفرغة ستعيد إنتاج نفس الأسباب التي وصلت بنا إلى هذه النقطة، ولكن في أوضاع أشدّ كارثية. إنّ المشكل في تونس أعمق بكثير من أن يتم حلّه بـ”نعم” أو “لا”، وحتى لو كان الأمر كذلك فإنه ينتج إشكالات أكبر. فلو أقبل الرافضون على التصويت وجاءت النتيجة “لا”، هل سيذعن سعيّد لإرادة الشعب؟ علماً أنّ إسقاط مسوّدة الدستور في الاستفتاء هو سيناريو مستبعد. ولو صبّت الأصوات لمصلحة الدستور الجديد، كيف يمكن لذلك أن ينتج حلولاً لمشاكل تعيشها تونس هي بالأساس مشاكل اجتماعية واقتصادية وليست سياسية.

لقد كتب المعارض اليساريّ البارز في زمني الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فتحي بن الحاج يحيى، نصاً يحاول وصف ما يحدث، ولعلّ ما يلفت الانتباه في كلامه هو حديثه عن الهجرة غير النظامية التي باتت طموح أي شاب في تونس، فتساءل: “ما الذي يدور في ذهن شباب يرمي بنفسه في البحر باتجاه لمبيدوزا (الجزيرة الإيطالية)؟ وهل من تفسير آخر لجموع جعلت من مقصدها مدينة لا تعرفها ولا يهمّها أن تعرفها طالما أنّ المراد ليس المدينة بعينها وإنّما ما يمكن أن تفتحه من أمل”، مضيفاً “وربّما الأهمّ هو ما تركه ركّاب القوارب وراءهم من حياة لا حياة لهم فيها”.

إنّ الذاهبين نحو قيس سعيّد وخياراته يشبهون راكبي البحر نحو لامبيدوزا، فلا شيء مضموناً أو واضحاً في الأفق، سوى أحلام وردية وطموحات بتحسن الوضع وتغيير المستقبل “الذي سيدوم طويلاً” اقتباساً من المنظّر اليساري الفرنسي لوي ألتوسير.

Print Friendly, PDF & Email
أسامة سليم

كاتب ومترجم تونسي

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  لكل دولة وجماعة.. عدوها وحروبها!