“المُثبَّطونَ” في الأرضْ.. سفسطة بغرض الفضفضة!

قد نسمع الكثيرين يقولون إن الاقتصاد له أهله وخبراءه، إلى حد جعل الحديث عنه حكراً على كبار الاقتصاديين.

على المنوال ذاته، يمكن لمسطرة تثبيط التفكير أن تستطيل لكي تمنع كل من “يتجرأ” في الحديث عن التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يمر بها مجتمع ما، أو تغير وجهة إقتصادية لدولة ما من اقتصاد زراعي إقطاعي إلى مركزي إلى مفتت، أو الاتجاه بالهوية الاقتصادية لدولة ما نحو التصنيع السلعي أو الميكني، أو تطورها نحو آفاق الاكتشافات والتطبيقات العلمية، التكنولوجية والسيبرانية، وصولاً إلى الصناعات التي تغازل الحاضر والمستقبل معاً، مثل الكيمياء الحيوية، الدمج النووي، تقنية النانو أو محاولة صنع ضد-المادة anti-matter، وغير ذلك من الخيال العلمي الذي تحاول العديد من الدول المتقدمة والساعية للتقدم تحويله إلى واقع علمي وتطبيقي.

من نحن لكي نتجرأ على تحليل بروفايل لدولة، أو محاولة وصف ما حدث لشخصيتها وهويتها من تغيرات ونتوءات وانكسارات، ثم محاولات إعادة تركيب وتجدد الروح في جسد أصح؟

دعوني أجيب على هذه المحاولات التي لا تفنى ولا تستحدث من العدم. لكي نحاول أن نفهم:

“من نحن”؟

نحن الأدوات التي بدونها لا تقوم أية خطوة تخطوها أية دولة في أي مجال، نحن أفراد مجتمع التخلف وكذا مجتمع العلم، نحن المزارعون وصانعو الفؤوس والشواديف، ونحن من نقود الجرارات الزراعية ونقف على ماكينات خلط وصفات سماد اليوريا.

نحن من نزرع، نصنع، نبدع فنخترع، فنطبق ونستفيد، فنعيش. ثم نجلس لنتباحث ونكتب ويسمع بعضنا البعض، ونحن نحاول أن نقيس واقعنا الذي إما أن ننجح في أن نصنع منه ما أسماه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “حياة كالحياة”، أو نغرق في بحر الشتات والاغتراب، نفسياً، داخلياً وخارجياً، ونسقط في تشققات سيكولوجية واجتماعية قد تبلغ حد الإنهيار الفردي والمجتمعي، فتأتينا “الساعة” بغتة.

نحن “الوحدات” التي بدونها لا وجود لأسرة، ولا مجتمع ولا دول. نحن الجنود، ولاعبو فريق كرة القدم الأحد عشر، ونحن من نجلس على دكة الإحتياط في الملعب وفرقة الاحتياط خلف الجبهة.

نحن من يُنصف أو يظلم نفسه، سواء بتولي إدارة أمور دنيانا، أو بالاستغناء عن هذا الحق تفويضاً أو تقويضاً. نحن من نتشكك في أنفاسنا، ونثق بسذاجة في حكامنا.

نحن من يعاني من تبعات أغبى القرارات السياسية، ومن نتائج الحروب العالمية، وتتباطأ أنفاسنا بفعل انبعاثات مداخن صناعية، ندفع بها ثمن تقدمنا أو نصرف بعض ما فاض في الجيوب لنترفه ونتريض، فتلهث أنفاسنا لمنح آخرين من بيننا فرصة عمل في مجالات الترفيه والاستجمام.

إذا توقفنا نحن عن الضغط على زر on في ريموت التلفاز، من أين سيقبض فريق الإعداد والإنتاج والتقديم بعد غياب مستهدَفي الإعلانات؟ وإذا لم يصحو السياسي كل يوم ليجد من يصغي إليه ويصدقه من الزبائن “اللقطة”، فمن سيخدع، وكيف يستديم بقاءه في مقاعد السلطة

نحن من نؤمن، سواء تدبرنا أم لم نتفكر، إذا ما حققنا ما سعينا إليه وإذا امتلكنا زمام أمورنا، فنفرح بانجازاتنا ونصونها بأعيننا. أو نحن من نصل إلى حدود الكفر وسب الملل بعد أن نرتحل عن رياض الأطفال، لننضم إلى فريق الكبار، فيفجعنا التناسب العكسي لوعي العقل مع سلامة القلب في حياة مجتمعاتنا، إذا كنا من الفاشلين جمعياً.

نحن من نجهل فنَضيع، أو نعلم فنُشيع.

نحن الماضي وما يورثه من عجائب ومخازٍ ودروس، نحن الحاضر وما يتشبع به من تفاصيل ونجاحات وفتن، كما أننا المستقبل وإن لم نكن على هذه الأرض لنشهد أحداثه ومدى صدق أو كذب توقعاتنا.

نحن من نتحمل ونربي ونضع الأطباق على مائدة الطعام، وإن قلّت قيمتها الغذائية، وامتلأت وصفاتها ببقايا ملوثات مياه الري/الصرف والمبيدات الحقلية. نحن من يدفع مصروفات المدارس التي توفر تعليماً حكومياً أو خاصاً. ونعم، نحن هؤلاء الذين يقفون في فصول المدارس ومدرجات الجامعات لكي نحاول ممارسة ما يشبه التدريس، في مؤسسات تعليمية لا يمكن وصفها في الغالب إلا بضد كلمة مؤسسة.

نحن من يطبق علينا نظام الضرائب، ونترقب تعديلاته المتنوعة، نتيجة لقوة أو ضعف موازنات دولنا العتيدة. كما أن من يتهرب من هذه الضرائب، سواء من حيتاننا الكبيرة أو أسماكنا الصغيرة التي تتخفى في بئر سلالم بناياتنا، هو لا يسرق إلا منا نحن.

من يعاني إذا فشلت الحكومات، ومن يصرف من جيبه ضيق الحال والمخيط على ذات الحكومات؟ وإن هي نجحت، أيادي من ستخرج من جيوب لم يصبها ضيق الحال والمآل، فإذا بأموال الترفيه تتجاوز بأضعاف القوة الشرائية للآخرين ممن هم أسوأ حظاً؟ فتضبط بعض اعوجاج الميزان الطبقي.

من الذي يشاهد محتوى يصنعه بعضنا على الإنترنت، لاختفاء الفرص بعيداً عن الفضاء السيبراني، فتكون النتيجة فتات عائد الإعلانات؟ بينما تحقق المواقع التي تستضيف إبداعات هؤلاء الملايين من صناع المحتوى – وهم نحن أيضاً- مليارات الدولارات سنوياً.

إقرأ على موقع 180  اللبنانيون عندما تضيق.. صدورهم

إذا توقفنا نحن عن الضغط على زر on في ريموت التلفاز، من أين سيقبض فريق الإعداد والإنتاج والتقديم بعد غياب مستهدَفي الإعلانات؟ وإذا لم يصحو السياسي كل يوم ليجد من يصغي إليه ويصدقه من الزبائن “اللقطة”، فمن سيخدع، وكيف يستديم بقاءه في مقاعد السلطة التي تمنحه امتيازات لا تصل إلينا أبداً.

في الحقيقة، من يجب أن يتوجه بالتثبيط المضاد، هو نحن. والسؤال الصحيح هو:

من أنتم يا أصحاب أصوات التثبيط والدحض والكتم على الأنفاس، لكي تقولوا لنا لا تفكروا، ولا تدققوا في أمور دنياكم وشؤونها؟

هل يريد أصحاب مثل هذا التوجه المثبط للتفكير والتدبر، أن يسلبونا حق النظر وتكوين الآراء، كما سلبونا حق التحكم في شؤوننا أيضاً في دولنا؟ هل ما يخشونه هو أن نفهم، ونرى الصورة بجلاء، فنتجرأ على الفعل مثلاً؟

ليس لنا إلا بعضنا في النهاية. لن يجد “السلطان” مفراً من عدم الإنصياع لأوامر خارجية تجبره على الإضرار بنفسه وشعبه، إلا بصنع “ظهير شعبي” حر، يعرف الحقيقة ويستطيع أن يقول لا، فلا يكون حاكمه مُجبراً على تنفيذ ما لا يُصلح واقعاً ولا يبني مستقبلاً

هل وصل بنا جميعاً، ذوي سلطة أو معدوميها، مبلغ الفشل حد الخوف من تجمع خمسة أشخاص في مكان واحد في فعالية، أو من فيديو يوتيوب يعبر فيه شاب أو فتاة عن آرائهم. ما هذه الأصوات الناعقة بـ “التيئيس” حتى من مجرد معرفة الحقيقة؟ ومم يشتكي “محركوها” وهم يكذبون علينا وعلى أنفسهم ليل نهار؟

من تخدمون؟

أسلفيي الفكر ممن تنغلق أفكارهم نتيجة لانغلاق نوافذ الأمل أم دعاة التحرر الذين يكونون أوّل من يشوه الحرية ويمسخها على هيئة موبقات؟

من تحاولون استمالته؟

من يعطونكم قوة التأييد الإجباري من المستفيدين في الداخل؟ أم من تحاولون الاقتراض منهم باسمنا وعلى حسابنا نتيجة فشلنا وفشلكم؟

مم تخاوفون؟

منا نحن، ممن لم يجدوا طريقاً سوى “المعرفة” لمحاولة فهم العالم، وشاهدوا إنهياره ببطء كـ”تجربة الضفدع” ذي الدم البارد في ماء تزداد حرارته حتى الغليان والموت؟ أم تخشون هؤلاء “الأجانب” في الخارج، ممن يجبرونكم على السير في اتجاه يضر بنا وبكم وبكل مصالحنا المشتركة في أي مجتمع تحيط به حدود سياسية رسمها هؤلاء الأجانب؟

اسمحوا لي بعد كل هذه السفسطة بغرض الفضفضة، أن أختم باتجاه توافقي باحث عن أرض مشتركة، بين أبناء الدولة الواحدة، أياً كان اسمها:

صدقونا، ليس لنا إلا بعضنا في النهاية. لن يجد “السلطان” مفراً من عدم الإنصياع لأوامر خارجية تجبره على الإضرار بنفسه وشعبه، إلا بصنع “ظهير شعبي” حر، يعرف الحقيقة ويستطيع أن يقول لا، فلا يكون حاكمه مُجبراً على تنفيذ ما لا يُصلح واقعاً ولا يبني مستقبلاً.

ومن هو غير ذي سلطة، لن يحتاج إذا صحت علاقته بحكامه، سوى أن يحكم نفسه بنفسه، ويدير أمور دنياه بعقله قبل يديه، فتختفي المساحة المشوهة من تضارب مصالح الحاكم والمحكوم. ولا يتبقى سوى مساحة اختلاف الأيديولوجيات الصحية في إطار سياسي، هدف كل أطرافه المتنافسة على الحكم، هو المصلحة وليس الإضرار، تصحيح الأخطاء لا تكرارها، بناء المستقبل لا تدميره.

إلى متى إحباط الهمم، وتثبيط الفكر وتكبيل الأيادي؟

فكروا يا ذوي السلطة، ودعونا نفكر..

كفانا سقوطاً..

فكروا، وإلا تحولنا جميعاً إلى ضفادع ذوات دم بارد، تموت ببطء دون أن تشعر، في أتون من الماء المتجه للغليان.

فكروا تفادياً للغليان والضياع.

مع تحيات،

المثبطون في الأرض.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  من العراق إلى أوكرانيا.. الحقيقة هي الضحية