تم استيلاد هذا السودان في العام 1956م بكل تناقضاته الإثنية والدينية واللغوية من أقصى الشرق للغرب وشمالاً إلى الجنوب الذي انفصل مؤخراً نتيجة هذا الزواج الكاثوليكي القسري الذي عقده الأنجليز حتف الأنوف دون مراعاة لمخاطر هذا التباين البشري العميق.
***
مظاهر الصراع القبلي السوداني ليست مستغربة في بلد يتكون من 570 قبيلة تقريباً تنقسم إلى سبع وخمسين مجموعة عرقية، ولك أن تتخيل مشارب كل هذه القبائل وحميتها وتدافعها في ما بينها، ومع ضعف التنمية والخدمات بمناطق الهامش كما نسميها في السودان تتزايد حالات الغبن لدى هذه القبائل ضد الحكومة، بل وتتصارع هذه القبائل في ما بينها نتيجة شح الموارد المتاحة وأحياناً تتصارع لأبسط الأشياء كونها قبائل ذات طابع بدوي وحياة تقليدية.
***
بات الوضع الآن أكثر احتقانا من ذي قبل فكل الولايات تنفجر واحدة تلو الاخرى، ولم تعد دارفور مسرح الأحداث القبلية وحدها، بل انتقلت الجذوة إلى شرق السودان ثم إلى النيل الأزرق، وباتت الحرائق انتقاماً تتجاوز الأفراد لتنال من المرافق الحكومية كما فعل بعض عناصر قبيلة الهوسا الذين أحرقوا مباني حكومة الإقليم في كسلا القريبة من العاصمة انتقاماً للأحداث التي جرت في جنوب النيل الأزرق
تاريخياً الصراعات القبلية شهيرة وممتدة ونجم عنها آلاف الضحايا في السودان منذ الدولة المهدية بين خليفة المهدي عبد الله التعايشي وقبيلته من الغرب والاشراف أبناء عمومة المهدي من الشمال وغير ذلك، ثم إنّ أزمة دارفور الحالية منشؤها قبلي بحت واستفحلت بعد الكتاب الأسود الذي أصدرته جماعة حسن الترابي إبان المفاصلة الشهيرة بين أركان النظام السابق في الخرطوم والذي أظهر قبائل دارفور على أنها مظلومة الحقوق في توزيعات السلطة والثروة وهو نتيجة مكايدات سياسية تم استغلال القبيلة فيها، وحتى في دارفور نفسها تجد الصراعات لا تكاد تتوقف بين العرب والزرقة وهو مصطلح عنصري بغيض شائع هنالك. وفي الشرق مؤخراً اندلعت أحداث بين البني عامر وبين النوية خلفت قتلى ومصابين لا يستهان بهم قبل ان تترك أثرها في جسد التعايش السلمي في السودان، ثم جاءت أحداث الهوسا والبرتا الاخيرة في جنوب النيل الأزرق نتاج سلسلة طويلة من نهر الدم القبلي، والبرتا من فروع الفونج الذين أسسوا الدولة السنارية أو دولة الفونج التي قضى عليها محمد على باشا بعد الغزو التركي المصري، ولذلك البرتا باعتبارهم فونج يرون انفسهم أصحاب حق تاريخي في ملكية الأراضي والمراعي في مناطق الأزرق، وهي قبائل لها امتدادات حتى أثيوبيا، حتى أن ولاية النيل الأزرق مسرح الأحداث الأخيرة وحدها تقطنها أكثر من 25 قبيلة وهي تقع تحت مرمى النيران منذ سنوات طويلة والصراع السياسي قبل انفصال الجنوب والاستقطاب الحاد يتمدد فيها وهي حالياً تقع تحت طائلة ما يسمى المنطقتين جبال النوبة والنيل الأزرق التي تطالب بالحكم الذاتي، فالقضايا هنالك ليست قبلية فحسب بقدر ماهي (خلطة) سياسية تستغل القبائل وتعقيداتها لتأجيج الصراع للتأثير على صانع القرار في الخرطوم، أما قبائل الهوسا فلها وجود كبير في تلك المناطق ولها جذورها حتى دول غرب أفريقيا ونيجيريا وغيرها، فهي وفقاً للبرتا قبيلة دخيلة على المنطقة رغم سنوات التعايش الحذر بين الطرفين لكن البرتا يرون أنهم من يمتلكون المرعى والأرض والزراعة وبسبب ذلك قتلوا مزارعاً من الهوسا في منطقة زراعية نائية كانت شرارة لانتقال الأحداث بسرعة الريح لتبلغ المدن الكبيرة.
***
حاول الرئيس جعفر النميري إلغاء الإدارات الأهلية في منتصف السبعينيات في محاولة للتخفيف من سطوة النظام القبلي وعصبياته لكن الامر عاد وبحدة أثناء حكم عمر حسن البشير حين كانت القبائل مخلب قط في الصراع السياسي الذي أدارته الحكومة لمصالحها دون حساب للانفجار الذي توجد بذرته بين القبائل وعددها الكبير في السودان وتاراتها التاريخية.. هذا الصراع انتج قوات الدعم السريع وهي قوات عسكرية ذات أرضية قبلية ومثلها قوات عبد العزيز الحلو من قبائل النوبة وقوات مناوي من قبائل الزغاوة وقوات عبدالواحد وهكذا فالوضع انتقل في السودان من مجرد صراع قبلي تقليدي إلى تجييش هذه القبائل وتسليحها وهو ما يُنذر بالخطر الداهم على مستقبل الدولة السودانية.
***
السيولة الأمنية والهشاشة التي تعانيها الحكومة الآن تُغري الجميع بأخذ القانون بقبضة اليد ولذلك رأينا مشاهد عنف مؤسفة في أحداث البرتا والهوسا في النيل الأزرق والقتل والحرق على الهواء الطلق، في غياب كامل لهيبة الحكومة وسيطرتها على مقاليد الأمور. بهذا المعنى، بات الوضع الآن أكثر احتقانا من ذي قبل فكل الولايات تنفجر واحدة تلو الاخرى، ولم تعد دارفور مسرح الأحداث القبلية وحدها، بل انتقلت الجذوة إلى شرق السودان ثم إلى النيل الأزرق، وباتت الحرائق انتقاماً تتجاوز الأفراد لتنال من المرافق الحكومية كما فعل بعض عناصر قبيلة الهوسا الذين أحرقوا مباني حكومة الإقليم في كسلا القريبة من العاصمة انتقاماً للأحداث التي جرت في جنوب النيل الأزرق.. غير أنّ الذي يثير القلق هو الصمت الحكومي وضعف سطوة الحكومة في كافة مستوياتها التنفيذية والصراع بين المدنيين والعسكريين وهو صراع لا يزال يُقدم نموذجاً سيئاً في فترة إنتقالية ضبابية تكاد تعصف باستقرار البلاد برمتها.