كأن الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والمالية التي يشهدها لبنان حالياً، لم تكن كافية، حتى جاءت جائحة كورونا في ما بعد لتُفاقِم الأوضاع وتتسبّب أيضاً بخسائر إقتصادية وبشرية رهيبة في معظم دول العالم ومنها لبنان.
أدّت هذه الأزمات المُتتالية الى إغلاق العديد من المؤسسات التجارية والصناعية والى زيادة كبيرة في نسب البطالة خاصة عند الفئات الشبابية والمُنتجة. وكذلك أيضاً عند المتقدمين في السن الذين أوصت السلطات الصحية في كل الدول الأوروبية وفي لبنان أيضاً بالحجر الصحي الكامل لهم لأنّهم كانوا الأكثر عُرضة للإصابة بالتهابات فيروس كورونا.
ويمكن القول أن تفاعل الأزمة الإقتصادية الخانقة اللبنانية مع الإرتدادات الإقتصادية والمعيشية الخطيرة التي تسبّب بها وباء كورونا أدّيا معاً الى تزايد أعداد العاطلين عن العمل أو المُتوقفين قسراً عنه، ممّا زاد منسوب ونسب القلق والإحباط والإكتئاب عند شريحة كبيرة من اللبنانيين.
وقد أتت الخطوات التي اعتمدتها وزارات الصحّة في لبنان والعالم بالتوصية بالحجر الصحي الكامل والإنعزال الإجتماعي لفترات طويلة جداً (عدّة اشهر) لتُفاقم من خطورة الأوضاع الإقتصادية والمعيشية القاهرة ولتزيد من المخاطر القلبية، إذ أنّ الإنعزال تسبّب أيضاً بزيادة كبيرة في حالات الإكتئاب والتوتر والقلق بشكلٍ واضح تكلّم عنه الكثير من الخبراء والأطباء، الأمر الذي يؤدي تلقائياً إلى إحتمال زيادة الإصابات بأمراض القلب والشرايين.
أولاً، معطيات ودراسات عالمية حول تأثير الوضع الإقتصادي- الإجتماعي على أمراض القلب والشرايين:
تغيير نمط الحياة تبعاً للواقع الإقتصادي والإجتماعي، يترك تأثيره الكبير على صحة الأشخاص، خصوصاً الذين يضطرون لمواجهة ظروف إجتماعية صعبة، مما يُفاقم عندهم مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين. وقد نُشِرت دراسات عدة أكدت أنه في الدول المتقدّمة أو الغنية (التي أجرت هذا النوع من الدراسات) ثمة مؤشرات لها تأثير مُباشر على أمراض القلب والشرايين وهي:
- مستوى الدخل الفردي: أثبتت دراسات مُتعدّدة بأنّ الأشخاص “ذوي الدخل المُنخفض أو المحدود” هم أكثر عُرضةً للذبحة القلبية أو للموت المفاجئ في الولايات المتحدة وفنلندا مثلاً. وبيّنت دراسة مُدهشة أنه في ذات الحي او المُجمّع السّكني، ومع كل زيادة بمعدل عشرة آلاف دولار على المعدل الوسطي للدخل الذي يتقاضاه الفرد، هناك إنخفاض بنسبة ١٠% لخطر الوفاة من جرّاء ذبحة قلبية.
وأظهرت دراسة هولندية أن ذوي الدخل المحدود الذين يدخلون إلى المستشفيات بسبب أزمات قلبية ناتجة عن مرض تصلب الشرايين التاجية للقلب هم عُرضةً أكثر من غيرهم لحصول وفيات بعد مرور ٢٨ يوماً وبعد مرور سنة على دخولهم المستشفى. وهم يتلقّون أقل بكثير من ذوي الدخل المرتفع، علاجات متطورة لهذه الأمراض مثل عمليات توسيع الشرايين بواسطة البالون والروسور وغيرها من العمليات المُكلفة. وكذلك هم غير قادرون على شراء الأدوية الباهظة الثمن أحياناً لعلاج هكذا أمراض.
أظهرت إحدى الدراسات الهولندية التي تابعت وضعية العمل عند كل المشاركين فيها أن نسبة أمراض القلب والشرايين إزدادت بمعدّل ٢٠% عند العاطلين عن العمل خلال فترة مُتابعة الأشخاص الذين كانوا لا يعملون، مقارنةً مع الذين كانوا يعملون
وأظهرت دراسة كندية أخرى أنّ ذوي الدخل المحدود لا يقدرون كما غيرهم على دخول مراكز إعادة التأهيل القلبي والرئوي المُخصّصة لذلك، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة نسبة الوفيات من هذه الأمراض. وأثبتت دراسة أخرى أن ذوي الدخل المحدود لا يتناولون بشكلٍ إعتيادي الأدوية التي تُخفِّض الدهنيات وغيرها من الأدوية.. ولذلك أثره الكبير على زيادة نسبة أمراض القلب والشرايين.
- مستوى التعليم: ثمة علاقة عكسيّة بين المستوى التعليمي والثقافي وبين نسبة الإصابة بأمراض القلب والشرايين. وكلّما إرتفع هذا المستوى الثقافي والتعليمي، كلّما انخفضت نسبة هذه الأمراض. وقد أظهرت دراسة واسعة أُجرِيت في أستراليا ونيوزيلاندا وشملت 86835 شخصاً أنّ الأشخاص الذين لم يتجاوزوا المرحلة الإبتدائية في التعليم، تزداد عندهم نسبة الإصابة بهذه الأمراض ونسب الوفيات منها بشكلٍ كبير، مقارنةً بالأشخاص الذين بلغوا المستوى التعليمي الثانوي والجامعي أو ما فوقه. وأظهرت هذه الدراسة أنّ المستوى التعليمي المُتقدّم كان يُصاحبه إرتفاع كبير في مستوى تناول الكحول، لكنه كان يتصاحب مع مستويات أقل من التدخين وإرتفاع الضغط الشرياني وإرتفاع الدهنيات والإصابة بمرض السُكّري من النوع الثاني، وكلها عوامل خطورة معروفة لأمراض القلب والشرايين. وبيّنت الدراسات أن المستوى العلمي المُتدنّي يترافق مع إزدياد التدخين والبدانة ونمط الحياة الخاملة (عدم اعتماد الرياضة) وإرتفاع الضغط الشرياني، كما بينت الدراسات وجود علاقة بين التعليم المتدني وبين عدم الثبات والإنتظام في تناول مُختلف انواع الأدوية، وهذا طبيعي بسبب نقص الموارد ونقص الثقافة والوعي الطبي.
- الوضع الوظيفي: تُبيّن دراسات مُتعددة أن البطالة تزيد بشكلٍ كبير مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين. وأظهرت إحدى الدراسات الهولندية التي تابعت وضعية العمل عند كل المشاركين فيها أن نسبة أمراض القلب والشرايين إزدادت بمعدّل ٢٠% عند العاطلين عن العمل خلال فترة مُتابعة الأشخاص الذين كانوا لا يعملون، مقارنةً مع الذين كانوا يعملون. وقد جاءت هذه الزيادة الخطيرة نتيجة تغيير كبير في نمط الحياة عند الأشخاص العاطلين عن العمل شمل زيادة كبيرة في معدّلات التدخين وإستهلاك الكحول والإفراط في تناول الطعام. وأظهرت دراسة أخرى أن البطالة زادت خطر الإصابة بذبحة قلبية بنسبة ٣٥% في السنة الأولى للبطالة عند الأشخاص الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية. وأكدت دراسات فرنسية أن البطالة تتصاحب مع زيادة كبيرة لمخاطر التعرّض لأزمة قلبية وللوفاة.
- العوامل البيئية: أظهرت العديد من الدراسات أن العامل الإجتماعي الإقتصادي للحي الذي يسكن فيه المريض إضافة الى العامل الإقتصادي الإجتماعي ذاته، لهما تأثيرهما الكبير على الإصابة بأمراض القلب والشرايين. وقد نُشرت منذ فترة دراسة مُهمة أظهرت أن الأشخاص الذين يعيشون في أحياءٍ فقيرة أو شعبية لا تتوفر فيها الخدمات العامة بشكل كبير، تزداد عندهم نسبة الإصابة بأمراض القلب والشرايين، بغضّ النظر عن مستوى الناتج الشخصي والمستوى التعليمي والوظيفي للفرد الذي يعيش في هذه الأحياء. واذا دقّقنا في هذا العامل البيئي للمنزل الذي يقطن فيه الشخص، يتبين لنا وجود عوامل مهمة تلعب دوراً في التأثير على أمراض القلب والشرايين مثل وجود أرصفة للقيام بالتمارين الرياضية وحدائق عامة للتنزّه والإسترخاء وتسهيلات في الوصول الى النقل المشترك وسهولة الوصول إلى أطعمة صحيّة وعدم وجود مراكز تُقدّم المساعدات للأشخاص المحتاجين إلخ… كما أنّ غالبية الأحياء الشّعبية الفقيرة تتميز بوجود عدد أكبر من المطاعم التي تقدم الوجبات السريعة، ممّا يُخفّف بشكل كبير من نسبة تناول الفواكه والخضار الطازجة. وهذا ما يترك تأثيره الكبير في زيادة أمراض القلب والشرايين. ويُستعمل طبياً “مصطلح الصحراء الغذائية” لوصف هكذا نوع من الأحياء حيث يشكو القاطنون فيها من نسب عالية من الأمراض المُزمنة ومن البدانة والسُكّري.
- المعدل الوسطي المتوقّع للحياة: أشارت دراسات عِدة إلى أن هناك عوامل كثيرة أدّت الى زيادة متوسط معدل الحياة المأمولة في معظم الدول الغنية خلال القرن الماضي. فقد إرتفع مُعدّل الإنتحار بشكلٍ كبير في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، خاصّة في المناطق الريفيّة الفقيرة بسبب الإنتشار العشوائي للأسلحة الفردية في هذه المناطق. كذلك تشهد الولايات المتحدة الأميركية حالات كثيرة من الوفيات الناجمة عن الإنتحار أو بسبب تشمع الكبد بسبب عوامل إجتماعية صعبة، واهمها البطالة. وتُظهر مُعطيات نُشرت مؤخراً في بريطانيا أن الفقراء يعيشون مُعدلاً وسطياً أقل بكثير من المعدلات الوسطية المأمولة للحياة التي يصل إليها الأغنياء، حيث أظهرت الدراسات وجود فارق كبير في المعدل الوسطي المأمول للحياة في الـ ١٥ سنة الأخيرة ما بين ٢٠٠١ و٢٠١٦، وهذا الفارق كان ٦.١ سنة في الـ ٢٠٠١ وارتفع الى ٧.٩ سنة في الـ ٢٠١٦ عند النساء، بينما كان ٩ سنوات في الـ ٢٠٠١ وارتفع الى ٩.٧ في الـ ٢٠١٦ عند الرجال. ويقول الخبراء أن العوامل التي أدّت الى هذا الفارق الكبير في المعدل الوسطي للحياة المأمولة في بريطانيا كان نتيجة عدة عوامل منها؛ الوفيات الكثيرة عند الأطفال ما قبل عمر خمس سنوات خاصة عند المولودين الجدد؛ ارتفاع نسبة الأمراض الرئوية؛ ارتفاع نسبة أمراض تصلب الشرايين؛ ارتفاع نسبة مختلف أنواع السرطانات التي تصيب الجهاز الهضمي والرئتين عند الأشخاص العاملين؛ إنتشار مرض ألزهايمر وأمراض الخَرَف الأخرى عند الأشخاص المُتقدّمين بالسن. وتُشير المعطيات البريطانية الى أنه وبعكس الطبقات الغنية، فإنّ مُتوسط العمر المُتوقع عند الأشخاص ذوي الدخل المحدود لم يتقدم أبداً خلال السنوات الأخيرة بل في انخفاض مستمر منذ حوالي ٦ سنوات، مما يشير الى أن الطبقات الفقيرة لا تتلقى بشكلٍ طبيعي الخدمات الصحية اللازمة ولا تهتم أصلاً بالوقاية من مختلف أنواع الأمراض. ولذلك تعمل السلطات البريطانية على السعي لردم هذه الهوّة الكبيرة بين الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية.
من الملاحظ أن مظاهر القلق والتوتر والإكتئاب تتضاعف لدى شرائح عديدة في المجتمع اللبناني بالترافق مع تصاعد الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والخضات الأمنية وأعمال العنف والشغب وقطع الطرق
ثانياً، واقع أمراض القلب والشرايين في لبنان مع تفاقم الأزمة الإقتصادية – الإجتماعية:
من الملاحظ أن مظاهر القلق والتوتر والإكتئاب تتضاعف لدى شرائح عديدة في المجتمع اللبناني بالترافق مع تصاعد الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والخضات الأمنية وأعمال العنف والشغب وقطع الطرق.. وجاء إنخفاض قيمة الليرة اللبنانية في مقابل الدولار ليزيد من حدّة المشكلة مع تراجع مستوى الدخل الفردي بشكلٍ قوي بحيث أصبح المعدل الوسطي للراتب أقل من مائتي دولار أميركي في أغلب الأحيان (الحد الأدنى للأجور هو ٦٥٠ الف ليرة لبنانية). وانخفضت قيمة معظم اجور ورواتب العمالة اللبنانية ولو بمعدّلات متفاوتة تصل الى النصف او الثلثين تقريباً. في المقابل، سجل إرتفاع كبير لأسعار السلع على انواعها ليبلغ حوالي ١٠٠ الى ٢٥٠ بالمئة تقريباً.
ويقدّر الخبراء بأنّ معدل البطالة وصل حالياً إلى حوالي ٤٠ الى ٥٠% . وأن هناك حوالي ٣٥٠ الى ٤٥٠ ألف لبناني قد صُرفوا من أعمالهم فضلا عن وجود عدد كبير من الموظفين الذين يتقاضون نصف معاشهم او طالتهم حُسومات مُهمّة على رواتبهم او هم يعملون بنصف دوام ويقبضون نصف مستحقّاتهم او حتى دوام كامل مع نصف معاش شهري.. وفي موازاة ذلك، تعاني المؤسسات التربوية والتعليمية ولا سيما الخاصة من أزمات كبيرة اوّلها عدم قدرة الأهل على دفع الأقساط وتوجّه عدد كبير من أهالي الطلاب لتسجيل أبنائهم في المدارس الحكومية التابعة للدولة في السنة القادمة. وهذا ما سيؤدي حتماً الى إنخفاض المستوى التعليمي نتيجة إكتظاظ الطلاب في هذه المدارس وعدم قدرة هذه المدارس الحكومية على إستيعاب هذا الكمّ الهائل من الطلاب وتأمين نوعية مقبولة من الخدمات التعليمية.
ومع تفاقم الأزمة إتجه عدد كبير من المواطنين الى ترك منازلهم والى إستئجار منازل في الأماكن الأكثر فقراً أو في الضواحي أو في الأماكن الشعبية المُكتظة. وهذا ما سيؤدي حتماً الى ازدياد نسب الإصابة بأمراض القلب والشرايين بسبب عدم إمكانية الحصول في هذه الأماكن المُهمّشة على نوعية حياة طبيعية، بعكس ما كانوا يعيشون في أماكن أخرى.
الجدير ذكره أن المواطن اللبناني سيجد نفسه مُضطراً لأن يدفع كلفة إضافية لعمليات القلب في المستشفيات اللبنانية، خاصّةً وأنّ معظم تلك المستشفيات لم تعد قادرة على العمل بالطريقة القديمة كما أنّ الشركات المورِّدة للمستلزمات الطبية تجبرها حالياً من اجل إستمرارها على التمكّن من الإستيراد بأن تدفع المبالغ المتوجبة عليها نقداً وفور إستلام البضاعة او بطرق اخرى مبتكرة من وحي تعاميم مصرف لبنان التي حاولت معالجة هذه الازمة.. يسري ذلك على كافة عمليات القلب مثل توسيع الشرايين بالبالون والروسور وعمليات الجراحة القلبية وغيرها، لأن كل هذه العمليات تستدعي إستعمال مستلزمات طبية تُستَورد من الخارج بالدولار.