قد يبدو هذا البيان غريباً إذ كيف يمكن أن يكون قائد الجيش هو أول من يسعى لتعطيل انتصار الجيش؟ إذن لماذا يقاتل الفريق البرهان أصلاً؟
***
تولى عبد الفتاح البرهان القيادة العامة للجيش بعد انقلاب داخلي على قائده السابق الفريق عوض بن عوف، الذي تولى رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ليوم واحد بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير بفعل الشقاق الداخلي والفساد السياسي والإداري وسوء الإدارة الاقتصادية.
كان الانقلاب على البشير يدار بكامله من غرفة عمليات محدودة العدد بالخارج، وكان أداتها الرئيسية قائد (ق د س) الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي رفض الانضمام للمجلس العسكري بقيادة ابن عوف وأغلق هواتفه قبل أن يفتحها في اليوم التالي، حيث ظهر كأقوى رجل تسيطر قواته على مداخل العاصمة ومخارجها وتحيط بجميع المنشآت الرئيسية في المدينة بما فيها القيادة العامة للجيش والقصر الجمهوري وكافة المؤسسات.
على الصعيد السياسي، كان حميدتي الوسيط الرئيسي بين التمويل الخارجي لعملية اسقاط نظام البشير، والقوى السياسية المدنية المؤسسة على عجل – بتخطيط ودعم من مدير جهاز الأمن والمخابرات حينئذ الفريق صلاح قوش- الذي كان يقوم بتضليل الحكومة الأمنية المصغرة برئاسة البشير، وفي الوقت نفسه، يقوم بتنظيم صفوف ما كان يعرف بـ(تجمع المهنيين) و(قوى الحرية والتغيير) من خلال عمليات متنوعة شملت اعتقال مجموعة من الساسة، والتشاور معهم من داخل مراكز الاعتقال الصورية ضمن جلسات التحري والاستجواب إمعاناً في تضليل القوى الأمنية التابعة له وتلك التي تراقبه، وتوفير مقرات آمنة للساسة والنشطاء الذين أُعلن عن أنهم يعملون بشكل سري تحت الأرض لإسقاط النظام.
كان حميدتي يقوم بدفع الأموال بسخاء عبر وكيل له لم يعرف له نشاط سياسي لكنه ظهر لاحقاً كمساعد ثري له، وهكذا تم توفير تمويل غير مسبوق للتظاهرات والاعتصامات أمام مبنى القيادة العامة، بينما كان الرئيس السابق يجلس كصائد عجوز سئم الطرائد، وبقي ينتظر يومه وهو يتمتع بأكل البطيخ، فاكهته المفضلة، ويرتدي الزي العسكري كآخر حصن يقاوم به.
***
خلال أربع سنوات، لعبت القوى الإقليمية ذات النفوذ وحميدتي مع البرهان لعبة (النِقابات السبع) فجعلوا الأخير يخلع في المرة الأولى النقاب الأول وهو يمنح (ق د س) السيطرة على كافة المنشآت الرئيسية في العاصمة، وهي المنشآت التي ما زالت تسيطر عليها وقامت بنهبها وتدميرها، ثم جعلته يخلع النقاب الثاني بتعيين الفريق حميدتي نائباً أول لرئيس مجلس السيادة دون أن يكون لهذه الوظيفة مكان في الوثيقة الدستورية (المتواضعة والبدائية هي الأخرى) والتي حكمت الفترة الانتقالية.
وجاء خلع النقاب الثالث بعد سيطرة حميدتي على الاقتصاد عبر رئاسة اللجنة الاقتصادية العليا، واستخدم سلطاته الجديدة ضمن عملية خلع النقاب الرابع في عزل الآلاف من ضباط الجيش والشرطة، كما أنه عزل في يوم واحد ـ والرئيس البرهان خارج البلاد ـ رئيس القضاء والنائب العام برغم حصانة منصبيهما من العزل بواسطة السلطة السيادية أو التنفيذية، وهكذا استمر البرهان يخلع النِقابات وحميدتي يرمي بها بعيداً عن حلبة الرقص السياسي حتى لم يعد للجنرال المقترب من خط النهاية، سوى نِقاب واحد يستتر به، وهو المبنى المحصن تحت الأرض داخل مباني القيادة العامة للجيش والمعروف باسم (البدروم) والذي يتخذه مقراً اضطرارياً الآن.
***
لا يريد البرهان الانتصار في الحرب التي وصفها ـ دون تردد أو حياء ـ بالحرب (العبثية) والتي استشهد فيها دفاعاً عنه ـ شخصياً- العشرات من قوات الحرس الجمهوري الذين فوجئوا بأرتال من السيارات المسلحة وهي تحاول اقتحام مسكنه الحصين.
لم يقرر البرهان الحرب وإنما فرضت عليه، وهو يحاول الآن التخلص منها لأنه يعلم أن “النصر موت كالهزيمة” بلغة محمود درويش وأن قوات الجيش وجماهير الشعب السوداني التي واجهت مظالم جرائم عصابات التمرد تحمله المسئولية كاملة، وأنها ستوجه بنادقها نحو سلطته متى ما انتصرت في الحرب الحالية.
يحتاج البرهان أكثر من أي مواطن سوداني إلى الهزيمة في هذه الحرب لينقل الحل إلى غرف التفاوض، ويصل مع (العدو) إلى تسوية برعاية إقليمية أو دولية تضمن له البقاء في السلطة كأحد صناع السلام السوداني الجديد!
***
الوضع الآن في الخرطوم:
كان الرئيس السابق عمر البشير يخشى الجيش كثيراً خصوصاً بعد أن اضطر للتخلي عن منصب القائد العام، لكنه ظل في الواقع يحافظ على ذات الصلاحيات تحت مسمى القائد الأعلى، وحافظ على ارتداء الزي العسكري بعد تقاعده. أجرى البشير الكثير من التغييرات المتسارعة في قيادة الجيش حتى يضمن وصول أضعف العناصر وهي العناصر التي انقلبت عليه. كان بارعاً في اختيارهم لكنه كان فاشلاً في السيطرة على ضعفهم فأطاعوا غيره عند أول فرصة أتيحت لهم.
في إطار الرعب من انقلاب الجيش عليه، استدعى البشير (ق د س) من محطاتها في إقليم دارفور إلى الخرطوم حتى توفر له الحماية وكان في لحظات الصفاء مع جلسائه يتلاعب باسم حميدتي ويقول عنه (حمايتي) لكن البشير لم يتعظ من قول العرب القديم “من مأمنه يؤتى الحذر”.
بعد 15 أبريل/نيسان الماضي، احتفظت (ق د س) بجميع مواقعها في الخرطوم وأعلنت التمرد على قيادة الجيش وهكذا سيطرت عملياً على العاصمة كلها من دون معارك.
***
القيادة:
فيما يحتفظ الجيش السوداني بطبقات من القادة ومرونة هائلة في الإحلال والإبدال، فإن الحال ليس كذلك في جانب (ق د س) حيث تشير مصادر مختلفة إلى أن قائد هذه القوات الفريق حميدتي لم يعد هناك، وأنه إما قتل في هذه المعارك أو أنه مصاب إصابة لا تمكنه من أداء دوره أو ربما تعرض لخيانة من الأقربين.
فقدت العديد من الدوائر الدبلوماسية والإعلامية الاتصال به ولم يعد يرد على هواتفه المحلية والأجنبية المتنوعة التي كان يستخدمها، وبالنسبة إلى شخص استعراضي مهووس بالظهور في وسائل الإعلام، ويتندر مقدمو البرامج التلفزيونية ومذيعو الفضائيات بشغفه بهم وبمبادراته للتواصل معهم، فإن غيابه عن الساحة الإعلامية يدعم الكثير من التحليلات التي تؤيد غيابه الطويل.
وما يدعم هذه الفرضية انشغال غرفة الدعاية التي تعمل بإسمه في صياغة الرسائل الإذاعية المركبة من رسائل سابقة، والتي عادة ما يتم الكشف عنها في وسائل التواصل الاجتماعي بالمقارنة بتسجيلات سابقة مما اضطر مساعديه لحذفها وسحبها من التداول.
في الغالب فإن القيادات الميدانية لهذه القوات على تواصل معها لكن القيادة المركزية لنشاط القوات عموماً ليست في الخرطوم، وإنما هي قيادة أجنبية تقول بعض المصادر أنها روسية تعاونها عناصر عربية.
القوة البشرية والتسليح:
يحتفظ الجيش السوداني بتفوق هائل من حيث التسليح والقوة البشرية وهيكل القيادة والتدريب والتموين والقدرة على المناورة وإعادة التموضع وشن الهجمات المضادة والمباغتة وصد الهجمات.
لدى قوات الدعم السريع قوة بشرية ضخمة تم نقلها من كافة أنحاء السودان للتموضع في المراكز المدنية بالعاصمة، وفيما عدا بعض المركبات المدرعة والمدافع غير القابلة للإستخدام المفيد، فإن تسليح هذه القوات هو تسليح خفيف لن يصمد أمام هجمات نيران مكثفة ولا يصلح أفرادها للتحصن وإقامة الخنادق والدفاع عن المواقع.
بالرغم من صعوبة الحصول على معلومات دقيقة عن تسليح (ق د س) خصوصاً أنواع السلاح والتدريب التي توفرت لها عقب سقوط نظام البشير إلا أن مشاهدات ما بعد الحرب كشفت عن توفر عدد من الآليات الثقيلة على النحو التالي:
- مركبات (نمر) الإماراتية المدرعة من طراز “عجبان” (٤٤٠ أ) وكان أول ظهور لهذه المركبات في يوم فض اعتصام المتظاهرين أمام قيادة الجيش في يونيو/حزيران عام ٢٠١٩م، وهي العملية التي راح ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى والضحايا.
- مركبات (دبليو زد ٥٢٣) الصينية وكانت تستخدم بواسطة الجيش، ثم استخدمتها قوات هيئة العمليات التي كانت تتبع لجهاز الأمن والمخابرات قبل حلها، وورثتها (ق د س) ضمن معسكرات الهيئة المحلولة.
- مركبات (بي تي آر ٨٠) الروسية وقد حصلت عليها (ق د س) من الجيش خلال عمليات جمع الأسلحة في إقليم دارفور.
- راجمات صواريخ غير موجهة ومخصصة لبعض الطائرات الروسية، وتستخدم صواريخ (إس ٥ وأشباهها) وقد جرى تركيبها على سيارات “لاندكروزر” على غرار المعمول به لدى عدد من الجماعات الليبية المسلحة.
- أنواع من المدافع المضادة للدروع المستخدمة بواسطة الجيش السوداني، إضافة إلى الراجمات واسلحة المعاونة وبنادق القنص.
- مجموعة متنوعة من الأسلحة المتوسطة والخفيفة، وقد لفت النظر تميز (ق د س) بإستخدام بنادق “جليل” الإسرائيلية، وبنادق “كاركال” الإماراتية، والتي ظهرت مع القوة التي نصبت الكمين لقوات شرطة الإحتياطي المركزي في منطقة السوق العربي بالخرطوم.
يعتقد الكثير من الخبراء العسكريين أن هذه الأسلحة غير قادرة على حسم أي معركة مع الجيش السوداني في حال قيامه بالهجوم على مواقع تمركز الدعم السريع في الأحياء السكنية أو حتى في معسكراتهم، لكن وجودها بكثافة مع توفر عدد كبير من الجنود سيرفع من الكلفة البشرية والمادية لأي معركة.
المناورة والسند الشعبي:
يحتفظ الجيش السوداني كما هو واضح بقراءة وسائل الإعلام التقليدية والجديدة والتظاهرات الشعبية المساندة للقوات المسلحة في الأقاليم بسند شعبي ظل يتزايد منذ نشوب الحرب، وذلك لعدة عوامل من بينها السياسي والاقتصادي والاجتماعي حيث ينتمي أغلب مقاتلي (ق د س) إلى مجموعة إثنية معينة بإمتداداتها في الخارج، إضافة إلى ارتكابهم جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان شعر بها مواطنو المراكز الحضرية في السودان، وهم ما يجعل هذه القوات أكثر عزلة في الخرطوم مهما طال أمد الحرب.
إضافة إلى خسارة (ق د س) لأي تأييد شعبي محتمل في المراكز الحضرية ومدن السودان، فإن المتوقع أن تتعرض هذه القوات إلى دمار غير مسبوق وانتقام هائل في إقليم دارفور، حيث ظلت مهيمنة على الإقليم طوال العقدين الأخيرين من حكم الرئيس السابق البشير، ومارست العديد من الفظائع ضد مواطني الإقليم وجماعاته العرقية ومكوناته القبلية والتي تستعد الآن للرد على تلك الفظائع.
في الغالب فإن عناصر الدعم السريع ستضطر إلى الهروب بشكل فردي أو جماعي إذا أطلق الجيش أي عملية عسكرية كبيرة في الخرطوم إذ ليس هناك ما يجبرها على القتال، وربما فإن مصلحة جنودها كأفراد الآن في الهزيمة أكثر من تحقيق النصر لأن الانتصار – مهما بعد احتماله – سيحولها إلى قوات حكومية، وستفتقد- تبعاً لذلك- المزايا التي تتمتع بها الآن كقوات مؤقتة وقليلة الانضباط وعالية الأجور.
إضافة إلى ذلك فإن عمليات النهب الكبيرة التي طالت المصارف والمؤسسات التجارية والحكومية قد حولت العديد من هؤلاء الجنود إلى أثرياء حرب، وبالتالي صار لديهم ما يخشون عليه، ولم يعودوا مستعدين للقتال والتعرض للخطر من أجل راتب لم يعودوا بحاجة إليه، أو دفاعاً عن زعيم تقول أغلب المؤشرات إنه لم يعد هناك.
في غضون ذلك، يوجد عدد مقدر من هذه القوات لا مصلحة لديه في البقاء في السودان الآن بعد أن نجح في تحقيق الثروة ويرغب الآن في العودة إلى مراتع الصبا في النيجر أو مالي أو تشاد، لكن هؤلاء سيواجهون متاعب كثيرة مع أنظمة بلدانهم في الغالب، بسبب الخطر الذي سيشكلونه عليها بخبراتهم على النحو الذي شهدته الكثير من الدول العربية بعد عودة من عرفوا في الدوائر الاستخبارية بـ(الأفغان العرب) من حرب أفغانستان ضد السوفييت.
التأييد الدولي والإقليمي:
يحظى السودان بشكل عام بسند عربي وإفريقي ودولي جيد وفيما عدا الاسناد والتأييد من ليبيا (خليفة حفتر) وبعض الدوائر الخليجية، وروسيا بشكل غير رسمي، وعدم اهتمام الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن دولاً مثل مصر وإرتريا وتشاد تجد مصالح شعوبها وأنظمتها الحاكمة مع خروج الجيش السوداني منتصراً.
هناك إثيوبيا وجنوب السودان وهما ليستا مستعدتين لتقديم السند لحكومة الخرطوم أو لـ(ق د س) دون ضمانات محددة لمصالحهما المتحركة والمتشابكة.
الساحة الدبلوماسية والإعلامية:
فيما عدا ساحة الأمم المتحدة في نيويورك، فإن الغلبة تبدو في هذا الجانب لـ(ق د س) حيث تعمل خلية من أنصارها في عدد من المحطات الدولية، وتتخذ من نيروبي مقراً مزيفاً لها لصعوبة العمل العلني من محطات عربية. في غضون ذلك، زار مبعوث لهذه القوات عدداً من الدول والتقى بعدد من المسئولين ورؤساء دول جنوب السودان وكينيا ويوغندا.
تفتقر العناصر الدبلوماسية لطرفي الحكومة و(ق د س) إلى المساندة اللوجستية، والكفاءة والمهارات اللازمة لإدارة معركة بهذا التعقيد، لذا فإن المحصلة ستكون غالباً لمصلحة استبعاد الحرب في السودان من أولويات المجتمع الدولي.
يواجه السودان معركة متوقعة من قبل الإتحاد الأفريقي وهو مؤسسة رخوة خاضعة من ناحية لوزارة الخارجية الإثيوبية (دولة المقر) وقابلة للخضوع للنفوذ الخليجي والغربي لأسباب أخرى يتداولها العرب والغربيون، ويتوقع أن تخسر الحكومة تلك المعركة أيضاً.
على صعيد الإعلام، فإن القنوات العربية ذات المشاهدة العالية ووسائل الاتصال الجماهيري ذات التأثير في السودان تؤيد بأشكال علنية ومستترة (ق د س)، وتستخدم استراتيجيات معروفة في الدعاية والعلاقات العامة مما قد يحتاج إلى قراءة منفصلة.
تقود الجماعات المؤيدة لسلطة الدولة والحكومة مبادرات عدة لتوفير السند الإعلامي لقوات الجيش لكن غالبية هذه المبادرات تفتقر إلى نظرية هادية ما عدا فضح الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وهو عمل يقوم به بكفاءة أفضل عناصر (ق د س) نفسها التي تقوم بالانتهاكات وتصويرها ونشرها ضمن حملات الترهيب والتباهي بالانتصارات الصغيرة على الأفراد.
الفرص المحتملة للحسم:
في ظل السيطرة الحالية والانتشار الواسع لـ(ق د س) في المناطق المدنية والمساكن، فإن فرصة الحسم ستكون مكلفة للغاية – وإن كانت راجحة – إذا اتبع الجيش فكرة استخدام الطيران واستخدام القوة البشرية للجيش في حرب شوارع.
الحل الآخر هو في استخدام السياسة والعمل الدبلوماسي، وذلك بالوصول إلى اتفاقيات عاجلة مع العديد من دول الجوار ذات المصالح في بقاء الدولة السودانية، من أجل توفير قوات عسكرية للإسناد وحماية المدن على أن يركز الجيش السوداني عمله لمواجهة الخطر في الخرطوم ضمن عملية يتوفر لها إسناد دبلوماسي وسياسي وإعلامي، على أقل من النحو الذي وفرته زيمبابوي وأنغولا للرئيس الكونغولي الراحل لوران كابيلا، والذي كادت سلطته الجديدة أن تنهار تحت وطأة هجوم مباغت لقوة متمردة من عشرات الآلاف من الجند تساندها قوات رواندية ويوغندية مجهزة جواً وبراً في العام ١٩٩٨م.
ما هو الثمن الذي سيتوجب على الدولة السودانية دفعه لهذه الدول؟ ليس كثيراً، إذ تستطيع الحكومة التوقيع على تحالفات متقدمة تحفظ أمن هذه الدول التي تتعرض دائماً للتهديد من داخل حدود السودان، وتستطيع منح الحيازات التي ظلت تستخدمها (ق د س) على هذه الدول لإنتاج وتصدير (وتهريب) الذهب وفق اتفاقيات محددة، تماماً على النحو الذي فعله كابيلا مع مساعديه والذين قاتلوا معه ببسالة وشرف وثبّتوا سلطته قبل أن يقوم أحد حراسه الصغار بوضع سلاحه في أذنه وتفجير جمجمته وهو جالس بإطمئنان في قصره الكبير.
يظن البرهان أن فرصه في النجاة أفضل من كابيلا إذا استطاع تفادي خيار الحرب، ونجح في إعادة الصراع مع قائد الدعم السريع إلى الغرف المغلقة، حيث يمكنه أن يقدم أقصى ما عنده من التنازلات مقابل ضمان سلامته -بعد أن أمن عائلته في الخارج- والبقاء على رأس السلطة بضمانات دولية، وإن كان ذلك سينزع منه كافة الصلاحيات على النحو الذي كان عليه الرئيس الرواندي السابق باستور بيزمونغو قبل أن يضيق به نائبه القوي بوول كاقامي ويطرده من السلطة.
لكن قدرة البرهان على المناورة واللعب على الحبال باتت في نهايتها وهو أسير مبنى واحد في الخرطوم يمكن أن يتم دكه من الداخل أو الخارج في أي لحظة.
السيناريوهات المحتملة:
أولاً؛ أن يقوم البرهان ومعاونوه بالتصعيد ضد (ق د س) المتمركزة في الخرطوم والانتصار عليها، وبالتالي سيصبح البرهان في مواجهة جيشه بعد التخلص من العدو المشترك، وسيتعين عليه عندئذ دفع الثمن عن كل خطايا الفترة الانتقالية التي انتهت الآن بتدمير الخرطوم.
ثانياً؛ أن تقوم قيادة جديدة للجيش بالإعلان عن نفسها، وعزل البرهان والقوة الحامية له داخل مبنى القيادة العامة وبالتالي سيواجه البرهان ذات المصير الذي كان سيتوجب عليه مواجهته إن بقي في موقعه قائداً للجيش. يبدو هذا السيناريو محتملاً جداً مع استهداف (ق د س) بشكل ممنهج لضباط الجيش العاملين والمتقاعدين وضربهم وإهانتهم وإذلالهم أمام الكاميرات بشكل لم يسبق وقوعه حتى في الفترات الاستعمارية من تاريخ السودان.
ثالثاً؛ أن يتزايد الضغط الشعبي على الجيش خصوصاً مع تجميد البرهان لجهاز الدولة وتوقف وزارة المالية عن صرف رواتب العاملين وتمويل الخدمات، ومتاعب النازحين المحليين من الخرطوم إلى الأقاليم ودول الجوار دون بارقة أمل في الأفق وهم يرون ممتلكاتهم تتحول على تراب وماضيهم وذكرياتهم وممتلكاتهم إلى عدم.
***
لا يشعر الفريق البرهان بالهزيمة الشعبية المؤلمة التي يستشعرها الشعب السوداني. على العكس، يشعر الآن، وهو في عزلته التي امتدت منذ توليه السلطة، بالزهو والانتصار كونه لا يزال في مكانه رئيساً على روما التي احترقت تحت صولجانه. في آخر حديث علني له أمام جنوده، حدّد البرهان معركته الوحيدة وهي حماية مقر إقامته حيث قال “ونحنا في القيادة دي نموت كلنا هنا دة.. ما في متمرد بيطأ القيادة العامة دي ونحن على قيد الحياة، وما في متمرد بيخش ليه فرقة أو منطقة عسكرية وفيها عسكري سوداني أصيل حي”.
هكذا حدّد الجنرال حدود معركته التي تستوجب الذود عن حياضها، أما تدمير الجامعات والمصانع بما فيها مصانع هيئة التصنيع الحربي التابعة لوزارة الدفاع، والقتل، والفظائع وحريق الخرطوم وتشرد سكانها فهذا ليس مما يعنيه.
سواء انتصر الجيش بقيادته أو انتصر بغير قيادته ـ وهو أمر حتمي في ظل الهزيمة المؤكدة للتمرد ـ فإن البرهان سيكون محظوظاً جداً إذا كان نصيبه أفضل من نصيب رجل اسمه لوران ديزيريه كابيلا.