لمن لا يعرف مازن عبود. هو ابن عائلة جنوبية نزحت من بلدة عنقون الوادعة في قضاء صيدا هرباً من الفقر والتهميش والبطالة والعوز في ستينيات القرن الماضي الى أزقة محلة عين المريسة الضيقة في بيروت، وحال ضيق ذات اليد دون مواصلة مازن تعليمه فراح يعمل هنا وهناك إلى أن ابتدأت الحرب الأهلية من بيروت نفسها التي شهدت منطقة عين المريسة وجوارها اعنف جولاتها في ما اسميت حينها “معركة الفنادق” (تيمناً بفندقي الفينيسيا وهوليداي إن).
قاد الفقر مازن بطبيعة الحال الى الحزب الذي كان يحمل هموم الفقراء ويدافع عن حقوق العمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود، الحزب الشيوعي اللبناني، وكان ذلك في العام 1974، اي قبل سنة واحدة من بدء الحرب الأهلية (1975). كان انتساب مازن الى الحزب الشيوعي انحيازا فطريا لمصلحة الطبقة التي ينتمي اليها، فلم تكن الفلسفة الماركسية سهلة المنال لمازن، ولكنه كان بوعيه الفطري يرى ان موقعه الطبيعي في الحزب الشيوعي.
ومع اندلاع الحرب الاهلية، بدأ مازن يشارك الى جانب رفاقه في جولات القتال بعد ان نال دورات تدريب عسكرية بدائية أعقبتها دورات متقدمة قادته الى أهم الاكاديميات العسكرية السوفياتية لاحقاً. وبين دورة واخرى، كان مازن يتنقل على محاور القتال التي كان للحزب الشيوعي تواجد فيها، فيخوض القتال بـ”قلب ميت” كما يقول رفاقه. من “تلة مسعود” جنوباً إلى حقول زيتون طرابلس إلى جميع محاور العاصمة والضاحية والجبل. لا يهاب قصفاً ولا اقتحاماً للنيران الغزيرة وكأنه كان يشعر بأنه محصن ضد الرصاص. اصيب اكثر من مرة ولكنه رفض أن يغادر الميدان. كان مازن مع كل ما يتمتع به المقاتل من صلابة وشجاعة وقوة.. رقيقاً، مرهفاً، شفافاً، عاطفياً، عطوفاً، كنسمة باردة في يوم حار، يضفي جواً من الايجابية حوله اينما كان. يضحك بعينيه وقلبه قبل شفتيه. يُعبّر عن ايمانه بالماركسية بكلمات بسيطة. فلسطين غير قابلة للنقاش ومن البحر إلى النهر.
تولى مازن مسؤوليات حزبية عديدة، امنية وعسكرية، لكن الغزو “الاسرائيلي” للبنان عام 1982 شكّل علامة فارقة في حياته. لم يكن يتصور أن الإسرائيلي سيحتل يوماً العاصمة ويرتكب ما يرتكب. قاتل في كل محاور العاصمة المحاصرة. من المتحف وجل البحر الى جامعة بيروت العربية، حيث خاض ام المعارك خلال اللحظات الاخيرة لسقوط بيروت، فقد ابلغ عبر جهاز الاتصال ان ينسحب لانه لم يعد هناك من جدوى للقتال عند تخوم منطقة الفاكهاني، فكان رد مازن انه لا يزال يملك بضع قذائف “B10”. أفرغ قذائف مدفعه في آليات العدو وجنوده، ثم غادر المكان..
من بين كل الشيوعيين الذين اختارتهم قيادة الحزب للعمل في جهاز المقاومة كان مازن تقريباً الوحيد الذي يفتقد لغطاء جديد لحياته المدنية. شاب حزبي معروف في كل محيطه. قائد عسكري شيوعي على عكس الكثير من رفاقه المقاومين الاخرين الذين عادوا إلى حياتهم الاجتماعية اليومية. برغم ذلك تمكن مازن من التخفي، ومضى في تنفيذ اول عملية ضد قوات الاحتلال “الاسرائيلي” في بيروت، قرب صيدلية بسترس عند مدخل شارع الحمرا، وكان له شرف اطلاق الرصاصة الاولى لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الى جانب رفيقه المرحوم شربل عبود (من بلدة جاج في جبيل) ورفاق آخرين ما زالوا احياء. بعد هذه العملية، تحول مازن الى فارس ليلي يسيطر على شوارع بيروت وازقتها ويبث الرعب في قلوب جنود العدو من محطة ايوب، في منطقة زقاق البلاط، الى مبنى منظمة التحرير الفلسطينية في كورنيش المزرعة الى غيرهما من أحياء العاصمة.
لا اعرف ان كان أحد مستشاري رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قد سمع عنك وعن مآثرك، ولكني قرأت قبل ايام ان فخامته منح صاحبة احد المطاعم وسام الاستحقاق الوطني لرفعها اسم المطبخ اللبناني عاليا في دول الاغتراب، فيا حبذا ان يقوم مستشارو فخامته باعلامه انك يا مازن من اهم “الطبّاخين” في لبنان، لكن “صحنك اليومي”، كان صحن كرامة وعزة وعنفوان. صحن مقاومة دحرت الاحتلال
توالت ضربات المقاومين من كل الأحزاب.. وبالمقابل، إستشعر ضباط العدو وجنوده أن بيروت ستكون مقبرة لهم، فسارعوا الى الانسحاب منها وهم يستجدون اهل بيروت عبر مكبرات الصوت عدم اطلاق النار عليهم لانهم سيغادرون مدينتهم.
مع الانسحاب المذل لجيش العدو من بيروت، في نهاية شهر ايلول/سبتمبر 1982، كبرت كرة النار المقاومة واخذت تلاحق العدو فلاقى القائد محمود المعوش “جلال” رفيقه مازن في عملية نوعية ضد جيش العدو في وادي الزينة قرب الرميلة وهي العملية التي أسّست لتحرير مدينة صيدا ومنطقة الجبل لاحقاً من فلول جيش الاحتلال. وكان مازن يلاحق جيش الاحتلال وكأنه قدر لا يرد ونيرانه تصيب دائما بلا رحمة، وكان يعود كل مرة من تلك العمليات حاملا معه نظرات الرضا وصمت ابو الهول. قلة قليلة جدا من رفاقه كانت تعرف انجازاته، لا سيما أنه لم يكن من النوع الذي يتبجح أو يتباهى بـ”بطولاته”!
اندحر العدو الى ما اصبح يسمى “الشريط الحدودي المحتل”، وتمسك مازن بمواصلة القتال ضمن صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ولكن بدأ المرض يداهمه واخذ جسده يضعف وبات بحاجة الى علاج متواصل، ومع تلك الاوضاع انتهت الحرب الاهلية وتراجعت قدرات الحزب الشيوعي ولم يعد بامكانه مساعدة مازن وامثاله الابطال. فانحدر الوضع الصحي لمازن وانحدر معه الوضع المالي، لكن مازن في معركة الحياة كما في معاركه العسكرية لا يعرف الهزيمة ولا الاستسلام، فتمكن من شراء سيارة قديمة واستأجر لها نمرة حمراء (لاستخدامها كسيارة تاكسي) وذات يوم كنت في طريقي من الحمراء الى منطقة برج ابي حيدر فاذ بسيارة مهلهلة تقف امامي وينده لي سائقها بان استقلها، نظرت في وجه السائق فإذ به مازن نفسه، شعرت كأن صفعة قوية سقطت على وجهي، فلم يُخيّل لي يوماً ان الوطن “سيكافىء” مازن بهكذا حياة، عندما هممت ان اعطيه الاجرة صرخ بي “ولو يا رفيق”؟ وأردف “شو نسيت مين مازن”؟ قلت له “أبداً لم انسَ ولأنني كذلك، اتمنى ان تقبل الاجرة مني”، لكنه ردها لي بضحكة عتب ومحبة.
كنت ارى مازن بين الفترة والاخرى في السنوات القليلة الماضية، وكان جسده يزداد نحولا، وانا ازداد قهرا لحالة العجز التي نعيشها والتي تحول دون قدرة حزبه ورفاقه على مساعدته الا بالنذر القليل الذي بالكاد يؤمن له لقمة عيشه، وهو كان يتقبل التوجه نحو موته المحتوم بشجاعة ورضى وقبول، لقد جسد مازن في ايامه الاخيرة صورة جلية لعجزنا نحن رفاقه، فلا القضية التي ناضل من اجلها انتصرت ولا هو ورفاقه الابطال نالوا ما يستحقون من حياة كريمة بعد كل ما قدموه من تضحيات للوطن.
لقد كان وجودك حياً يا مازن يذكرنا بعجزنا، ويجعلنا نخجل من هذا العجز ومن انفسنا ومنك ومن رفاقك الابطال. كنت تود ان تكون شهيدا في معركة مع العدو ولكن شاءت اوضاعك ان تكون شهيدا في معركة المرض والعوز والاهمال الرسمي.
لا اعرف ان كان أحد مستشاري رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قد سمع عنك وعن مآثرك، ولكني قرأت قبل ايام ان فخامته منح صاحبة احد المطاعم وسام الاستحقاق الوطني لرفعها اسم المطبخ اللبناني عاليا في دول الاغتراب، فيا حبذا ان يقوم مستشارو فخامته باعلامه انك يا مازن من اهم “الطبّاخين” في لبنان، لكن “صحنك اليومي”، كان صحن كرامة وعزة وعنفوان. صحن مقاومة دحرت الاحتلال بالقوة وليس بالزحف والإستجداء.. والتطبيع.
وحبذا لو أننا نجد في هذه الدولة العلية من يسحب الملف الذي قدّمه حزبك الشيوعي قبل حوالي الأربع سنوات، إلى محافظ العاصمة وبلديتها الكريمة من أجل إقامة نصب للمقاومين الأوائل وبينهم مازن عبود، في المكان نفسه الذي إنطلقت منه الرصاصات الأولى للمقاومة عام 1982 (صيدلية بسترس). هذا الملف مرمي في الأدراج، بينما لو كان هناك من يستجدي شارعاً بإسم ملك مُذهّب أو أمير من ألماس أو مستعمر من تنك، لوجدنا أن الشارع يصبح شوارع بإسم هذا أو ذاك من المستعمرين القدامى أو الجدد.
تحية لك يا رفيقي مازن مع دمعة ووردة حمراء.