إنهم يشبهون ثكنة مختصة بمطاردة كل من يظن أن باستطاعته أن ينتمي إلى الوطن. الانتماءات مصادرة، الانتماء الوحيد المعترف به، هو الانتماء إلى الطائفة، ولو كان المنتمي كافراً وزنديقاً ومحتالاً وقاتلاً.
ما أكثر أعداء العلمانيين. البلد ثكنة مدججة بجماهير مسعورة، وغب الطلب. الطائفية دين الاديان والمذاهب والاحزاب والقيادات. من دونها، يتعرى القادة وتظهر عوراتهم النفسية، وتنكشف ركاكة سلطتهم. من دون الطائفية، هم حثالة.
كنت أظن، وبعض الظن “غشمنة “، انه يكفي أن نرفع لواء الوطنية، وشعار العلمانية، ومطلب الديموقراطية، حتى تنفتح الطريق إلى الإنجاز، فيكون لنا لبنان الدولة والوطن. ويُساس ديموقراطياً، وفق اصول الانتخاب الحر، ليلعب الوطن دوره الريادي داخلياً، وحتى يكون لاعباً في محيطه، ومشتركاً في صياغة اقليم يواجه تحديات العدوان والاحتلال الإسرائيلي.. إلى آخره.
كنت أظن، وبعض الظن “حمرنة”، انه يكفي أن نؤمن ونتبنى قضايا داخلية جليلة، حتى يتحول الإيمان إلى تجسيد، فالحوار والنشر والعلم والثقافة والتفاعل، أقوى من حواجز الآلية الطائفية، التي هي في مرتبة الجهل المطبق والعار المشين. تبين لي ولنا، اننا نهذي. فالصراخ في الشارع والتظاهرات في الساحات والبيانات المقنعة، والمصيبة بصدقيتها، كفيلة بأن تنهار اسوار الدولة الطائفية كورق الخريف الاصفر.
وعيت مراراً، وتحديداً مؤخراً، اننا نهذي، وعرفت أن الطائفية في لبنان، اعتى دكتاتورية في البلاد المنكوبة بقائدها واحزابها وعسكرها وملكيتها وامارتها. الطوائفية في لبنان، هي “الله الرهيب” و”الشيطان الرجيم”، والاتباع ابالسة وقادتها ممسكة بصكوك الاتهام. فكل مواطن متهم إلى أن يثبت العكس.
كم كان هذا اليقين غبياً وصبيانياً ومراهقا. عندما فتحت عيني، وجدت أن الالفباء اللبنانية كلها، والقاموس السياسي، والكتب “المقدسة” كلها، إلى جانب قوافل “المؤمنين والمؤمنات”، كالطريق المرصوص وابواب الجحيم لا تقوى عليها. ملائكة العلمانية هشة ورخوة وملعونة. “هذا رجس من قبل الشيطان.. فاجتنبوه”.
عندما انتهيت عن الاصغاء إلى خطاب السيد حسن نصرالله، انفتحت عيناي على المشهد كاملاً. قلت: ما زال المشروع الطوائفي يتمدد، وهو حي يرزق، ولا يأتيه خطر من أي جانب. فلا خوف على لبنان الطائفي. انه القلعة المحكمة. وكل الخلافات “الأخوية”، تنتهي بـ”تعالوا إلى صفقة سواء”
عاينت قلاع الطوائفيات، فوجدت أن لبنان، من أوله، قد ولد من رحم طائفي، امتلأ قبل زمن. حبلت به المتصرفية، ومن قبلها حاضنة القائمقاميتين.. وعندما استولد قالوا له: هذه أمك. لم نكن نعرفها من قبل. اقنعوه بالقوة، وباللغة الفرنسية الصارمة: هذه امك، فانتسب اليها.
تولت الحاضنة المارونية رعايته. تبنته. سُرَّت به. هو وطن مسيحي أولاً، سمّته على اسمها. لولا المارونية السياسية بزعامة بكركي، لكان لبنان لقيطاً، بلا أب ولا أم. شعر السنة باليتم. يريدون أماً أو خالة. أي شيء، أفضل من لا شيء. الدروز كانوا قد ورثوا حصتهم الضئيلة، مما تبقى من لبنان المتصرفية. الشيعة رفضوا الوليد الجديد. أُكرهوا على ذلك بالقوة. عاشوا على حافة الوطن وفي ضفاف الفقر وفي فلوات النسيان. ثم، وعت الشيعية أن دورها ليس في كنس الطريق وبؤس الضِّعة وضفاف الشوارع في بيروت وأرصفة “البور”، فطالبت بحصة، وبصعوبة بلغتها. حدث ذلك بعد 50 عاماً. ولولا السيد موسى الصدر لظلت الشيعية السياسية مظلومة، من ذوي القربى.
فلبنان هذا، نظام طائفي بنيت له دولة. النظام سابق على الكيان. الطائفية هي الأصل، والعلمانيون لاجئون في لا وطن.
عندما انتهيت عن الاصغاء إلى خطاب السيد حسن نصرالله، انفتحت عيناي على المشهد كاملاً. قلت: ما زال المشروع الطوائفي يتمدد، وهو حي يرزق، ولا يأتيه خطر من أي جانب. فلا خوف على لبنان الطائفي. انه القلعة المحكمة. وكل الخلافات “الأخوية”، تنتهي بـ”تعالوا إلى صفقة سواء”. والصفقات هي العلاجات المتوجبة على الطوائف أن تتناولها. نحن العلمانيون كَفَرَة، انما انقياء ولسنا قطعانا ابداً.
بدا لي المشهد كاملاً. الجغرافيا الارضية طائفية. المياه والأنهر طائفية، الله طائفي، المرجعيات السياسية طوائفية: المارونية طائفية، من فوق لتحت وفي كل الجهات والمؤسسات. حتى الكنائس والاديرة ورجال الاكليروس وجهابذة الفكر وقيادات الاحزاب والتيارات. وحتى الحثالات المهملة هي طائفية. المصارف صليبية طائفية. المدارس والمعاهد والجامعات والسوبر ماركات ومنعطفات الاوتوسترادات. كلها طائفية. أما الكلام والمواقف، فليست إلا التعبير الأسمى في الانحطاط الطائفي.
وألتفت إلى السنية السياسية. يا إلهي. معسكر تام طائفياً. من رأسه حتى أخمص أمواله وفقرائه. المرجعيات الدينية تبصم بصماً مبرماً. ما يقال من فوق، يستجيب له كل الذين تحت. الطائفية لا تؤمن بالمساواة بين اتباعها. هي طبقية بامتياز. ترضع من اقواتها القليل معه وتطلب التأييد المبرم، واللعنة على من اتبع الكرامة والانسانية والوطنية.
ورأيت أن ذلك يصح على الشيعة. لقد تلبننوا طائفيا بعد تأخر ظالم. تلبننوا كثيراً، وتفوقوا طائفيا على اساتذتهم الموارنة والسنة والدروز. الشيعية السياسية مبرمة. هي قوية ومستقوية وعامة وشاملة ومستقلة استقلالاً إتصالياً ببقية الطوائف. ما يصدر عن هذه الطائفة المستقوية يستنتج، أن بين لبنان والدولة الوطنية والمدنية والعلمانية سنوات ضوئية. ما كان يرتسم في الذهن من قبل، بأن هناك شواذا على القاعدة، تبين في ما بعد، أن لا شواذ على القاعدة ابداً. انما الشيعية السياسية اليوم، وغداً، وما بعد ذلك، هي العمود الفقري للنظام الطائفي، المدعّم شرعاً وشارعاً ومشروعاً.
لبنانكم هذا يستحيل عليه أن يكون دولة ووطناً وشعباً. لذلك: “خذوه”. نفضّل أن نكون أيتاماً من أن نكون (…) ضع الكلمة المناسبة في هذا المقام
الدروز. أصل لا فرع. طائفيتهم متينة. كالبنيان المرصوص مغروزة في القلب والعقل والناس. أقلية في متراس. زعامتها، واحد أحد، وبعض الذين يعرجون عرجاً مشبوهاً طائفياً. قيادتهم الخائفة تاريخياً تشُّم من بعيد. هي بحاجة الى حليف، قريب او بعيد. تتأرجح الطائفة بين اقصى اليمين واقصى اليسار، بلمح البصر. متحالف ومتخالف. اليوم أمر وغداً أمر. اقلية قلقة. تطالب بحصة أكبر، لتنال الأوفر. آل جنبلاط، عمرهم أكبر من عمر لبنان. إلا ان هذه الزعامة لا تختلف سياسيا ومالياً وصفقاتياً، عن الآخرين. احدى سماتها، الانتقال السريع من إلى.. مراراً.
ثم تبين لي، أن لا علاقة لي بلبنان هذا. لا أعرف إذا كان آخرون مثلي. اختلف عن كثيرين، بأني أسرعهم إلى اليأس: اليأس من لبنان هذا. مئة عام عمر لبنان الطائفي. لم نجد في خلال هذا التاريخ، الا الحلول الطائفية المسخ، بعد المعارك الطائفية الدامية، وبعد استضافة الحلفاء الخارجيين، كل طائفة لها مرضع خارجي. إلا العلمانيون، فهم صائمون، وزمن الافطار يبتعد. ما أقسى الجوع!
من خمسة عشر عاماً، كتبت كتاباً بعنوان، “لست لبنانيا بعد”. غشيم انا. كنت اظن انني سأصبح لبنانياً سنةً ما، عصراً ما، قبل أن ارحل عن هذه الدنيا. انا متأكد بأنني كنت على خرفٍ شديد. لبنان هذا، يتقدم باستمرار إلى المزيد من الطائفية. وكلام “السيد”، بدعوته إلى تأليف حكومة من كل الطغمة الطائفية، دليل على أن الأهم، هو الابقاء على الركام او “الرجمة” الطائفية، وليس حل المشكلة الشاهقة التي يموت منها وفيها لبنان. لبنان على حافة نزاعه الاخير. لبنان ينحرونه ولم ينتحر، ومع ذلك. يُطلب ممن نحره إعادة صياغة زريبة جديدة. لمن تبقى من الطائفيين اللبنانيين.
أخلص إلى القول: كم انت غبي يا نصري. اياك أن تظن خيراً. انما، افرح يا رجل. فأنت لست عبداً، بل انت حر، في بلد يدرب فيه الزعماء ازلامهم على السير على جباههم.
انما للقول صلة. انتهينا من التوصيف والجمع. “كلن يعني كلن”.
فماذا عن الذين ابرموا طلاقهم مع الطائفية. هؤلاء مؤمنون، ربما، بأديانهم، ويؤدون فروض الايمان، ولكنهم نزعوا عنهم الاستعباد الطائفي والمذهبي.
لا أعرف أن كانوا في وادٍ يهيمون.
لم يعلنوا عن حضورهم بفعالية مجلجلة بعد. العلمانيون ليسوا قلة. “يا خيي قلِّدوا الطائفيين، كونوا “الطائفة” المؤمنة والملتزمة بالعلمانية. مارسوها. ارسموا لها طريقاً. لبنان الجديد، بحاجة اليها.
إذا، لم يكن ذلك كذلك، فـ”صحتين” للطائفيين هذا اللبنان. وعيشوا فيه بؤساً وفساداً وتلوثاً ونكراناً، حتى الثمالة. لبنان الطائفي القبيح ليس لكم. هو يشبههم. وهم يشبهون بعضهم بعضاً. لبناننا، ليس مثلكم. فلا أنتم نحن ولا نحن أنتم. خلص.
أخيراً، لبنانكم هذا يستحيل عليه أن يكون دولة ووطناً وشعباً. لذلك: “خذوه”. نفضّل أن نكون ايتاماً من أن نكون (…) ضع الكلمة المناسبة في هذا المقام.
(*) بالتزامن مع موقع “طلال سلمان“