يقول مصدر مطلع لـ“جاده إيران” إنه “لم يكن من خيار سوى التدخل لحقن الدماء، اتصل أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بالسيد مقتدى الصدر لإقناعه باحتواء الموقف”. ذات المعلومة جرى تأكيدها من مصدر سياسي في بغداد اطلع على المساعي التي بذلت خلال الساعات الماضية من قبل حزب الله اللبناني للسيطرة على الموقف قبل تدحرج الأوضاع إلى حرب أهلية شيعية شيعية. فمقتدى الصدر أدرك من اللحظة التي ورد فيها بيان تنحي آية الله كاظم الحائري عن موقعه الديني، أنه أمام تحد رئيسي لزعامته. فالحائري برغم خلافه الكبير مع الصدر، يبقى رجل الدين الذي يتبعه أنصار التيار الصدري في عباداتهم ومعاملاتهم، بتوصية خاصة من مؤسس الحالة الصدرية، آية الله محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، الذي قتل في العام 1999 إلى جانب إثنين من أبنائه.
أوصى الحائري تابعيه باتباع القائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، في الوقت الذي وصلت العلاقة بين مقتدى الصدر والإيرانيين إلى الاختلاف حول مآل السياسة في العراق بعد الانتخابات الأخيرة، وفي ظل عجز الأطراف عن تشكيل حكومة يمكنها أن تنقذ البلاد من العجز الذي تعيشه على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إعلان الصدر اعتزاله السياسة نهائيا، بدا وكأنه مقدمة لعملية استعراض عضلات شعبية جرت وقائعها في مراكز الثقل الشيعي في العراق، وداخل العاصمة بغداد. سحب الصدر نفسه من الواجهة تاركا جماهيره المتدفقة من عشوائيات بغداد، يتناثرون في العاصمة بلا ضابط لإيقاع أفعالهم، ويدخلون القصر الرئاسي ومجلس النواب الذي كانوا فيه منذ أسابيع والمنطقة الخضراء التي تزايد عددهم على أسوارها وداخلها.
تضافرت الأسباب التي بسببها صعّد الصدر من خطواته، فالنظام المفكك والعقد السياسي المهترئ وحالة التشظي في التمثيل السياسي، كلها معا لم تقنع الأطراف السياسية بضرورة ترك الخلافات في ما بينها والتفرغ لإعادة إحياء العملية السياسية المقسمة طائفيا ومناطقيا منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وما نتج عنها حينها من إطاحة نظام الرئيس صدام حسين وتفكيك مؤسسات الدولة العراقية. واتضح من نتيجة الانتخابات العامة العراقية في تشرين الأول/أكتوبر 2021 أن الثقة بالنخبة السياسية أصبحت في أدنى مستوى لها مع مقاطعة نحو ستين بالمئة من الناخبين العراقيين العملية الديمقراطية. الوحيد الذي تمكن من حشد مناصريه وحصد أكبر عدد من المقاعد كان الصدر، إلى جانب غريمه التاريخي رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. ولأن أكثرية الصدر ظلت بعيدة جدا عن أكثرية مقاعد مجلس النواب والتي يجب أن تكون 165 مقعدا، كان على الصدر ترتيب تحالفاته. مع ذلك حرص التحالف المسمى الإطار التنسيقي والذي يضم القوى الشيعية الأخرى المناهضة لمقتدى، والمقرب إلى إيران، على عرقلة المساعي لتشكيل ما وصفه الصدر مرارا بحكومة أغلبية وطنية.
ما يعرفه الصدر جيداً أنه حتى وإن حقق انتصارات عسكرية، فالشارع الذي بيده لن يعود قابلا للاستثمار في العملية السياسية التي ستصبح عندها في حكم المنتهية، وعندها أيضا ستكون الوساطات شاقة وأكثر كلفة بما لا يقاس مع الوساطة التي أنزلت شيعة العراق عن شجرة الدم
تحالفات الصدر لم تنجح في إعطائه حكومة، وكانت استقالة نوابه بعدما فسح المجال لخصومه بتشكيل حكومة أقلية. لم ينجح ذلك فأصبح الآن أمام خيار وحيد وهو الانتخابات المبكرة والتي باتت مطلبه الرئيس. لكن انتخابات مبكرة بدورها قد لا تكون كافية لإخراج العراق من أزمته البنيوية، إذ أن معظم مقاطعة الناخبين وعدم ثقتهم بالنظام السياسي قد تؤدي لنتائج مشابهة للانتخابات الأخيرة، ولذلك ذهب كثر نحو المطالبة بإطلاق عملية حوار سياسي شامل لعل ذلك يساهم في معالجة القضايا الكبرى العالقة. مع ذلك هناك قضايا قد لا يتمكن الحوار الداخلي من حلها.
التأثير الخارجي في العراق مسألة لا يمكن التعامل معها على أنها جانبية وهامشية، فجزء وازن من صراع الصدر مع خصومه لا يمكن فصله عن حقيقة أن خصومه متحالفون مع إيران، والصدر بات منذ فترة أكثر جرأة في المطالبة باحتواء النفوذ الإيراني في بلاده. المسألة هنا تصبح أكثر تعقيدا مع معرفة أن الصدر يتلقى دروسه الدينية في حوزة قم في إيران، وأن جزءاً من عائلته الكبيرة يعيش في العاصمة الإيرانية. فيما تبدو إيران في موقف لا تحسد عليه وهي تشاهد القوى الشيعية تتصارع فيما بينها في أخطر صراع داخلي شيعي منذ سنوات.
محدودية التأثير الإيراني في المشهد العراقي يعود بالدرجة الأولى إلى مرحلة ما بعد اغتيال أميركا في يناير/كانون الثاني 2020 لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والذي كان يتمتع بعلاقات مميزة مع القوى السياسية العراقية وأقدر على احتواء الأزمات بغض النظر عن تشعبها.
صحيح أن الصدر ناشد جماهيره الانسحاب من الشوارع والعودة إلى بيوتهم وأنه أدان ما قاموا به من إطلاق رصاص وقذائف صاروخية متوسطة. لكن الصحيح أيضا أن حالة المفاجأة التي عكسها الصدر في خطابه والسخط على جماهيره وتهديده بأنه لن يستمر زعيما للتيار الصدري في حال عدم خروج أنصاره من الشارع خلال 60 دقيقة، حملت رسائل متعددة الاتجاهات، أولها أنه إذا ما ترك الشارع على غاربه فلن يكون بإمكان أحد السيطرة على ما يجري، وأنه يبقى قادرا على سحب رجاله من الشارع إذا ما اتخذ قرارا بذلك، وأنه وإن اعتزل السياسة نهائيا كما قال، يبقى الرجل الأقوى بين رجال السياسة في بلاده.
ما يعرفه الصدر جيدا أيضا، أن لجوء أنصاره للعنف المسلح واستمرار هذا الاتجاه دونما سقف واضح، سيضعف موقفه بشكل كبير ليجعله بين المتقاتلين المدججين بالسلاح أكبر الخاسرين، حتى وإن حقق انتصارات عسكرية، فالشارع الذي بيده لن يعود قابلا للاستثمار في العملية السياسية التي ستصبح عندها في حكم المنتهية، وعندها أيضا ستكون الوساطات شاقة وأكثر كلفة بما لا يقاس مع الوساطة التي أنزلت شيعة العراق عن شجرة الدم.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“