غورباتشوف.. الزعيم السوفياتي الأخير

برحيل ميخائيل غورباتشوف لا تنطوي سيرة رئيس بل حقبة تاريخية. هذا رجل أتى رئيساً لدولة عظمى وخرج من الكرملين شاهداً على تفكك دولة صارت دولاً. أصاب الإنهيار كل المنظومة التي كانت توالي الإتحاد السوفياتي في شتى أنحاء المعمورة وما زالت تداعيات ذلك الإنهيار ماثلة حتى يومنا هذا، بدليل الأزمة الأوكرانية وتداعياتها العالمية.

يمكن القول إن الإتحاد السوفياتي مرّ بالعديد من المراحل التاريخية، لكن أصعبها هي الحقبة السوفياتية الممتدة من العام 1964 وحتى العام 1982 والتي تزعّمها ليونيد بريجينيف وشهدت أقسى فصول الحرب الباردة، وتورط الاتحاد السوفياتي خلالها في حرب استنزاف دامية لمدة عشر سنوات في أفغانستان، وترافق ذلك مع تعثر عملية البناء الاشتراكي. تداعيات كل ذلك كانت كارثية على الاقتصاد السوفياتي، وبالتالي تحرّكت القوى الحية والمؤثرة في السلطة حينذاك، أي جهاز المخابرات السوفياتية (كي جي بي) للقيام باستدارة هدفها حماية النظام ولو إقتضى الأمر تعديل بعض السياسات الداخلية والخارجية.

كانت البداية في نهاية العام 1982 مع يوري أندروبوف رئيس جهاز المخابرات آنذاك الذي ورث الزعامة السوفياتية بعد وفاة بريجينيف. فقد حكم أندروبوف حوالي السنة وتوفي، وثمة أحاديث أنه تعرض للقتل إثر حملته لكشف عيوب النظام تمهيداً للإنقضاض على بعض مراكز القوى التي تمسك بمفاصل الدولة وتمنع التطوير. جاء من بعده العجوز الشيوعي كوستنتين تشيرنينكو الذي توفي بعد حوالي السنة أيضا من توليه المنصب (13 شباط/فبراير 1984 ـ 10 آذار/مارس 1985).

هل كان بمقدور غورباتشوف في هذه الحالة أن ينهج ما ذهبت اليه الصين في تحرير الاقتصاد وعدم المس بامتيازات الحزب القابض على السلطة للانتقال إلى مرحلة جديدة من البناء السوفياتي؟

في العام 1985 انتخب المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي مخائيل غورباتشوف ـ زميل أندروبوف والمقرب منه جداً في جهاز الـ”كي. جي. بي” ـ أميناً عاماً للحزب الشيوعي ثم لاحقاً رئيساً للدولة. ويقال إن إختيار غورباتشوف لعضوية المكتب السياسي قبل ذلك هو قرار إتخذه أندروبوف بالدرجة الأولى.

وفي إطار استكمال ما كان قد بدأه أندروبوف، أطلق غورباتشوف العنان لخياراته التغييرية من خلال ما أسميت سياسات “الغلاسنوست” أي الشفافية و”البريسترويكا” أي إعادة البناء. ذهب غورباتشوف في دعواته داخل الأطر الحزبية وفي المؤسسات الإنتاجية وفي هيئات المدن والمناطق إلى الدمقرطة والتعددية واللامركزية مستلهماً في ذلك تجربة الاشتراكية الديموقراطية في الغرب، ما استفز قوى نافذة في الحزب والدولة خاصة وأن الورشة التي أطلقها غورباتشوف أحدثت عملية فرز في الحزب والدولة والمجتمع. أول خطوة كان قد اتخذها في هذا المجال، هي الغاء المادة الثامنة من دستور الدولة السوفياتية التي تنص على أن الحزب الشيوعي هو قائد الدولة والمجتمع. اصطدمت دعوات غورباتشوف وتحريضه على الدمقرطة واللامركزية في إعادة بناء الاقتصاد والعلنية بمصالح كبار المسؤولين في الحزب والدولة وراحت تتحول إلى فوضى في بلد كان محكوماً بقبضة حديدية طوال سبعين سنة. ترافقت حملة غورباتشوف مع انفجار محطة تشرنوبيل النووية المأساوي (1986)، وانسحاب الجيش السوفياتي مهزوماً من أفغانستان عام 1989، وانهيار حائط برلين في العام ذاته كمؤشر على بداية تفكك المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو. وفي الوقت نفسه، رفض غورباتشوف التجاوب مع الدعوات إلى التدخل العسكري في عدد من الدول على غرار ما حصل في هنغاريا عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968.

لقد رافقت عملية التحول تلك أثناء عملي في موسكو كمراسل لجريدة “النداء” وكممثل للحزب الشيوعي اللبناني في العلاقات الدولية منذ شباط/فبراير عام 1983، حيث اضطرت قيادة الحزب إلى إبعادي عن لبنان لأسباب سياسية ـ أمنية مرتبطة بمرحلة ما بعد إحتلال إسرائيل للعاصمة اللبنانية بيروت وإنطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 ايلول/سبتمبر 1982.

لقد كتبت الكثير عن المرحلة الغورباتشوفية في تقارير لجريدة “النداء” اليومية، وكذلك لقيادة الحزب الشيوعي اللبناني، ولأنني كنت أشهد على حتمية انهيار البناء السوفياتي بعد إطلاق العنان للبريسترويكا، إقترحت على قيادة الحزب الشيوعي المبادرة للتباحث مع قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في ما آلت إليه الأوضاع السوفياتية وانعكاسها على العلاقات الدولية والوضع في منطقتنا على وجه التحديد.

في شهر نيسان/ابريل من العام 1991 حلّ على العاصمة السوفياتية وفد من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني ضم الأمين العام جورج حاوي وعضو المكتب السياسي جوزف ابو عقل وكاتب هذه السطور، حيث التقينا نائب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي غينادي ياناييف بينما كان غورباتشوف يمضي إجازته في الجنوب الروسي. كانت الصورة التي وضعنا بها لحال البلاد قاتمة ومأساوية، وفي آب/أغسطس 1991 حصل انقلاب بوريس يلتسين، وانطلقت عملية تفكك الاتحاد السوفياتي. وبذلك أصبح غورباتشوف آخر زعيم سوفياتي بعد ست سنوات من حكمه، وانتهت الدولة السوفياتية بعد قرابة 75 عاماً على ثورة أوكتوبر عام 1917. وتفكك حلف وارسو وانتهت الحرب الباردة وطويت صفحة الأممية الثالثة التي أسسها فلاديمير لينين، وطرح السؤال مجدداً عن طبيعة الاشتراكية والنظام المنافس أو البديل للرأسمالية والنيوليبرالية.

كان لغورباتشوف دوره في تغيير مسار التاريخ دون أدنى شك لكنه أصاب بذلك أم أخطأ، نترك للتاريخ أن يقول كلمته

وإذا عدنا إلى العديد من المصادر التاريخية بعدما فُتح الأرشيف السوفياتي، يمكن الإستنتاج أن الظاهرة الغورباتشوفية كانت بداياتها قد تشكلت في العام 1956 من ثلة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي ومجموعة أساسية في قيادة الـ”كي. جي. بي”. ففي ذلك العام، زار وفد من الحزب الشيوعي السوفياتي برئاسة نيكيتا خروتشوف العاصمة التشيكية براغ، حيث جرى التداول الفعلي بينه وبين وفد من قيادة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بمزايا الاشتراكية الديموقراطية والنموذج السياسي والاقتصادي المطبق في العديد من دول أوروبا الغربية. تسربت معلومات عن هذا الأمر إلى مراكز قوى في السلطة السوفياتية من التيار الستاليني ما ادى لاحقاً إلى الإطاحة بنيكيتا خروتشوف عام 1964، وحل محله بريجينيف إلى أن مات في العام 1982.

إقرأ على موقع 180  حوار باباوات الفاتيكان مع اللبنانيين.. بالعربية!

ينقسم الرأي العام الروسي حول دور ميخائيل غورباتشوف، بين مؤيد للبريستروكا والحاجة الملحة المطلوبة لتغيير نظام يهترئ، وبين من يتهم غورباتشوف بالخيانة والعمالة للغرب بهدمه لبناء دولة عظمى شكلت تحدٍ للرأسمالية والغرب لعقود من الزمن.

من وجهة نظري وفي ضوء ما عايشته على مدى سبع سنوات، جلت خلالها في معظم المدن والجمهوريات السوفياتية وتفاعلت مع القيادة الحزبية والمؤسسات والشارع، كنت متعاطفاً مع النهج الغورباتشوفي، ولكنني خبرت في ذات الوقت طبيعة المجتمع الروسي المشبع بثقافة النظام القيصري الأرثوذوكسية ليس بمعناها الديني بل بمعناها التنظيمي، وهنا يطرح التساؤل هل كان بمقدور غورباتشوف في هذه الحالة أن ينهج ما ذهبت اليه الصين في تحرير الاقتصاد وعدم المس بامتيازات الحزب القابض على السلطة للانتقال إلى مرحلة جديدة من البناء السوفياتي؟ أسئلة كثيرة تثار في هذا المجال، كما تثار الأسئلة عن تعقيدات المسألة القومية التي لم تجد التجربة السوفياتية حلولاً لها، وكذلك مسألة الحريات بمختلف مستوياتها.

مات غورباتشوف ولم تتبلور خياراته لا في النظام السوفياتي ولا في نظام الاتحاد الروسي الذي ورث التجربة السوفياتية. انتهت الحرب الباردة بين نظامين ومعسكرين اجتماعيين مع تفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، ولكنها تتجدد اليوم بين روسيا والغرب بزعامة الولايات المتحدة وقد تبدأ بين هذه الأخيرة والصين في أي لحظة.

كان لغورباتشوف دوره في تغيير مسار التاريخ دون أدنى شك لكنه أصاب بذلك أم أخطأ، نترك للتاريخ أن يقول كلمته.

Print Friendly, PDF & Email
يوسف مرتضى

صحافي وكاتب سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط ما بعد أميركا: حروبنا الآتية (1)