دروس العراق: المنتصر اليوم.. المهزوم غداً!

في بقعةٍ طويلة من الحدود العراقية الإيرانية، تستقر مئات آلاف الألغام تحت التراب منذ زمن الحرب بين البلدين في ثمانينيات القرن الماضي. كانت جزءاً من كمائن المواجهة العسكرية الشاملة بينهما.
منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، صارت الألغام جزءاً من ماضٍ ثقيل تمتد مظاهره من نصب الشهيد في بغداد، لتبلغ الأضرحة في “بهشتِ زهراء” في طهران، المَعلمان الناطقان بذكرى الحرب التي انتهت رسميًا، وربّما لم تنته بندوبها العميقة وترجماتها السياسية وغير السياسية.
طُوِيَت صفحة الحرب بتجرّع مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني السمً كما قال في وصفه لقبوله وقف إطلاق النار. حساب الربح والخسارة في تلك اللحظة كان لمصلحة الرئيس العراقي حينذاك صدام حسين. في تلك اللحظة السياسية الحُبلى بالتحوّلات الإقليمية والعالمية الجذرية، سلّم الخميني بأنّ “الطريق إلى القدس” لا يمكن أن تمرّ من بغداد، وبأنّ الأوان قد آن ليعود آلاف المتطوعين إلى حياتهم التي هجروها لسنوات باتجاه خنادق الجبهات.

القرار الإيراني المرّ أسهم في التوصل إليه قادة من الحرس الثوري والاستخبارات ودبلوماسيون واقتصاديون. مهّد له الرئيس الأسبق الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني، وتصدى الخميني لتوقيعه في 8 آب/أغسطس 1988، ولم يلبث بعده كثيرًا حتى تُوُفِّيَ في حزيران/يونيو 1989.

تجرّع الخميني سمّ بقاء جمهوريته، وانتشى صدّام بما اعتبره نصره التاريخي، قبل أن يتظهّر لبّه لاحقًا كعلّة سقوط حكم البعث العراقي. الحرب دفعته إلى سُلّم ظنه متجهًا نحو الأعلى، لكنه أدرك متأخرًا أنّ السلّم ينتهي بحافة أسقطته بعد سنوات في قبضات كثيرة معادية له. سقط تمثال صدام في بغداد ومدن عراقية أخرى، وبدل استبدال آثاره بصور الغازي الجديد وأعلامه ورموزه، أي الولايات المتحدة، أطلّ الخميني من موته صورةً كبيرةً ترتفع في بغداد، إلى جانب خليفته آية الله خامنئي، وقادة إيرانيين وعراقيين ممن كانوا خلال سنوات الحرب يقاتلون على الجبهة الشرقية.

لكن العراق معركةٌ لا تنتهي. لا نصرَ ناجزًا فيه لأحد، هذا دأبه لقرون وهكذا سيكون لقرون أخرى. من التاريخ وإليه يعود. رفعت الولايات المتحدة شارات النصر ثم خفّضتها، وإيران الآن تقرأ في انتصارها العراقي – الذي تمثل بغير وجه – حقيقة ورطتها التي قد تكون أكثر خطرًا و تهديدًا من التي واجهت الأميركيين. فحدود العراق تبعد عن واشنطن آلاف الاميال، بينما تمتد في كتف إيران الأيمن على أكثر من ألف كيلومتر.

عراق ما بعد 2003، هو غيره عراق ما بعد 2019. ليس الأمر في السلاح والأموال وعديد المقاتلين، المسألة بأنّ ما كان يوما ثقلًا إيرانيًا في مواجهة واشنطن، أضحى عبئًا على طهران. ضعف الدولة عبءٌ أيضاً، ويبقى ظل الماضي ثقيلًا ويحتمل التوظيف في كل لحظة ضعف، أمام كل عثرة، وخلف حلفاء كثير منهم يستقوي باسمها، ويستغل غطاءها لتحقيق أهدافه.

لكن العراق معركةٌ لا تنتهي. لا نصرَ ناجزًا فيه لأحد، هذا دأبه لقرون وهكذا سيكون لقرون أخرى. من التاريخ وإليه يعود. رفعت الولايات المتحدة شارات النصر ثم خفّضتها، وإيران الآن تقرأ في انتصارها العراقي – الذي تمثل بغير وجه – حقيقة ورطتها التي قد تكون أكثر خطرًا و تهديدًا من التي واجهت الأميركيين

إذا ما عدنا خطوات إلى الخلف لتقييم ما أنجزته إيران في العراق منذ سقوط صدام حسين، سنجد أنها لم تصنع لها حليفًا حقيقيًا جديدًا في البلاد، لا بل أن بعضاً ممن كانوا يُحسبون عليها أصبحوا الآن في مساحة مشتركة بينها وبين بعض خصومها.

يُحسب لطهران أنها لم تخيّر حلفاءها بينها وبين الآخرين، وهذا سمح بتحوّل بعض الأصدقاء إلى وسطاء أو ناقلي رسائل، أكان مع الولايات المتحدة من جهة أو دول الخليج من جهة ثانية. اللافت للإنتباه أنّ بعضًا ممن كانوا في الخندق الإيراني في حرب السنوات الثماتي، باتوا يستشهدون في جلساتهم الخاصة بالحرب للدلالة على الرتق الذي لا يُدمل بين العراق وإيران.

الحرب على تنظيم “داعش” كانت مناسبة حقيقية لقلب صفحة الحرب، وكانت على وشك أن تفعل ذلك، لكنّ ظروف ما بعد تحرير الموصل السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والأمنية، تضافرت لتهييج جروح الماضي بصورة ملتبسة، وفي بعض الأحيان مصطنعة.

تجاوزات الفصائل المسلّحة لعبت دورًا محوريًا في تزكية النار التي تحت الرماد، لا سيّما التصدي الدموي للتظاهرات في تشرين الأول/أكتوبر 2019، لكنّ ظروفًا خارجية وسياسة الضغوط القصوى الأميركية خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب واستثمار ملايين الدولارات في حملات إعلامية موجهة رتبت الأرضية لاستنهاض كل المشاعر السلبية.

كانت موجة تظاهرات 2019 حلقة جديدة من حلقات متنقلة انشغل بها العراق على مدى فصول الصيف خلال السنوات التي سبقت. لكن هذه المرة، تزامنت الاحتجاجات مع احتجاجات بيروت التي تعامل معها حلفاء طهران هناك بسلبية تحوّلت لاحقًا إلى عدائية معلنة حينًا ومبطّنة أحيانًا. وبين هذه وتلك، لا مجال لتجاهل الاستثمار في الشارع من قبل خصوم طهران الذين استفادوا من أخطاء حلفائها.

إقرأ على موقع 180  ما فات السيد نصرالله!

المعضلة الأساسية في أنّ علاقة إيران بالعراق لم تغادر منذ اللحظة الأولى المساحتين العسكرية والأمنية، وكأنّ شعار الخميني “الطريق إلى القدس يمرّ ببغداد” بقي حياً وجرى إسقاطه على كل الملفات. تطوّر حضورها ونفوذها عسكريًا وسياسيًا، فلا شيء يحدث في بغداد من دون معرفتها. نعم ليس كل ما يحدث يرضيها، لكنها تعرف بكل شاردة وواردة.

لكنّ التطوّر العسكري، الأمني والسياسي لم يقابله عمقٌ اجتماعي عضوي، والحديث هنا ليس في مناطق السنّة والمسيحيين والكرد، بل في المناطق الشيعية. الانتخابات الأخيرة عكست شيئًا من هذا، فحلفاء طهران مجتمعين لم يحصلوا على ما يجعلهم كتلة ذات وزن، إلى أن استقال نوّاب الكتلة الصدرية فحلّوا مكانهم.

مجددًا، يطل الماضي برأسه من نافذة الوجدان. شيعة العراق وشيعة إيران يلتقون في مسيرات الأربعين، يصنعون ذكريات وهم يمشون باتجاه أضرحة الائمة ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء، لكن هذا لا يصنع علاقة طويلة الأمد بين بلدين، لأنه مؤقت ومحكوم بلحظة دينية، ثقافية ووجدانية، في خط زمني مثقل باللحظات الثقيلة. لا تبدو ايران وكأنها تستوعب الفكرة جيدًا، أو لعلّها تعيش في العراق تحديدًا حالة إنكار لا تُشبه ما يُعرف عنها من حنكة في قراءة تفاصيل المشهد.

ما لم تصدّقه إيران يومًا أنّ العراق أصبح جزءاً من مجال نفوذها، لكنّ الذي لا يمكن أن يتغيّر هو أنّ جذور التمرّد التي في العراق تتحرّك دومًا في غير اتجاه، وهذا ما يجعله كرة نار لا يمكن التقاطها لزمن طويل، لا باليد الأميركية ولا حتى بالأعصاب الإيرانية الباردة.

(*) بالتزامن مع “جاده إيران

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  ما فات السيد نصرالله!