عون لبري وميقاتي: “لو المي بتطلع طلوع.. بعملكم حكومتكم”!

بعد خمسين يوماً، "يتحرر" ميشال عون. ينتقل من القصر الذي "ناضل" طوال 28 سنة للوصول إليه.. إلى "الفيلا" الجديدة في الرابية، بصفته "متقاعداً" من رئاسة بلا جمهورية ومن تيار بلا جاذبية.. ماذا قبل وماذا بعد؟

للتاريخ أن يُنصف ميشال عون، أما الحاضر اللبناني بوقائعه القاسية والسوداء، فإنه ولّادة إنطباعات لا بد منها. ميشال عون هو الرئيس الثالث عشر في “الجمهوريتين”. على مدى 79 سنة من نيله الإستقلال، واجه لبنان ثورات وحروباً وإنتفاضات وإنهيارات لا تحصى ولا تعد. تكاد أيامه أن يكون نصفها أزمات ونصفها تسويات أو ما بينَ بينْ.. الجنرال الطامح كان آخر شهود “القصر” على جمهورية أولى تتهاوى. أما الجنرال المتقاعد، فهو الشاهد الرئاسي الأخير على جمهورية ثانية تترنح وجمهورية ثالثة لن تأتي بسهولة.

لو عاد الزمن بميشال عون، الرئيس، إلى ما قبل الطائف، لأصدر مرسوماً بتسمية جبران باسيل رئيساً لحكومة ما بعد الفراغ الرئاسي المُرجح.. أما وأننا في زمن ما بعد الطائف، فلا بأس بـ”حكومة سياسية” في آخر أسابيع العهد يتمثل فيها من يجب أن يتمثل.. ولكن هيهات أن “يُهرّبها” أحد مع نجيب ميقاتي ليس الشخص، بل المنظومة التي لا مبالغة في القول إنها تمكّنت من “الجنرال”. ومن يعرف عقل ميشال عون، فإن الرجل كان يُمني نفسه بوضع دزينة من السياسيين في الحبوس. أولهم نبيه بري وليس آخرهم رياض سلامة وبينهما وليد جنبلاط ونجيب ميقاتي وسعد الحريري وفؤاد السنيورة. يترجل “الجنرال” من كرسي الرئاسة ومطبخ السياسة الفعلية إلى “التقاعد”.. وهؤلاء كلهم في صلب السياسة والقرار. حسرةٌ ما بعدها حسرة. هل يُصبح غريباً خطاب الويل والثبور وعظائم الأمور السياسية والدستورية ما بعد الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر؟

أقسم عون اليمين بأنه “لو بتطلع المي (المياه) طلوع بعمل حكومة لبري وميقاتي”. لن يُوقع هكذا “توليفة مُفخخة” هدفها إحراجه طالما أنه كان قد وضع توقيعه عليها قبل سنة بالتمام والكمال. ولكن ما العمل “حتى نقطع الطريق على ميقاتي”؟

سقط خيار الحكومة السياسية. همس أحدهم في أذن “الجنرال”: سيأتيك ميقاتي ـ بشراكة نبيه بري ـ بالتشكيلة الحكومية إياها تاركاً لك أن تُبقي الوزراء الثلاثة (وليد فياض وأمين سلام وعصام شرف الدين) أو أن تُعيّن من تشاء بُدلاء عنهم”. أقسم عون اليمين بأنه “لو بتطلع المي (المياه) طلوع بعمل حكومة لبري وميقاتي”. لن يُوقع هكذا “توليفة مُفخخة” هدفها إحراجه طالما أنه كان قد وضع توقيعه عليها قبل سنة بالتمام والكمال. ولكن ما العمل “حتى نقطع الطريق على ميقاتي”؟

لمعت الفكرة في رأس أحدهم؛ فليبادر رئيس الجمهورية إلى توقيع مرسوم قبول إستقالة الحكومة. عادة هذا المرسوم يصدر بالتزامن مع مرسوم تأليف الوزارة الجديدة. إجتهد آخرون وقالوا إنه برغم المرسوم لا بديل عن حكومة ميقاتي تصريفاً للأعمال. نزع التكليف المستحيل؛ حتى إستقالة الوزراء العونيين من الحكومة تفضي إلى النتيجة ذاتها. تسليم الحكم إلى المجلس الدستوري أو المجلس العسكري. سقطت الفكرة. هذا ليس زمن ما قبل الطائف. زدْ على ذلك أن لا طنوس مشلب ولا جوزف عون سيقبلان بذلك. إذاً؛ لا بد من إحراج باقي المسيحيين. من بكركي إلى معراب. ممنوع تشريع الفراغ الرئاسي بعناوين ميقاتية أو غير ميقاتية.. وإلا سيكون جبران باسيل مضطراً للجلوس في مقعد يتقدم فيه ليس على المسيحيين بل على الآلهة أجمعين. الشارع لما لا، فليكن. إذا غطّت بكركي أو لم تغطِّ. إذا وضع سمير جعجع يده بيدنا أم لم يضع. شارع. مواجهة. فوضى. مؤتمر تأسيسي. يمكن إصابة عصافير عديدة بحجر واحد. لن يكون التيار البرتقالي بعد إنتهاء ولاية ميشال عون، كما قبله. يتردّد أن معظم وزراء “التيار” الحاليين قدّموا أوراق إعتمادهم في أكثر من إتجاه. يسري ذلك على “كبار مستشاري القصر”. نواب تكتل “لبنان القوي” بدأوا بالتمرد. بينهم مرشحون رئاسيون. طامحون. لا يستطيع باسيل ضبطهم. صار عاجزاً عن إبرام إتفاق سياسي مع أحد باسم التكتل. كل التكتل. لا بد من تواقيع بالمفرق لا بالجملة. واقع جديد سيرتد على القواعد التيارية. لا بد من شد عصب العونيين. هل يستطيع “الجنرال” أن يقف في الرابية ويُصدّح مجدداً: “يا شعب لبنان العظيم”. نعم يستطيع، لكن ماذا بعد وأي أثر ستتركه تلك العبارة التي فقدت سحرها منذ سنوات طويلة؟

التيار الحر ليس بخير. هذا كلام في السياسة وليس في النوايا. يتوغل جبران باسيل بالخطاب الطائفي. واهمٌ إذا كان يعتقد بقدرته على التفوق مسيحياً على “القديس” سمير جعجع. لكن الخطأ يجرُ الخطأ. وسط هذا الخراب الآتي، أين حزب الله؟

يُحيلنا مثل هكذا سؤال إلى سؤال كلفة وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، لبنانياً ومسيحياً وعونياً. هذه أغلى فاتورة رئاسية في تاريخ لبنان. دفع رصيدها الأكبر حزب الله بقرار توقيف البلد سنتين ونصف “على إجر ونص” حتى إنتخاب “الجنرال” رئيساً.  أما ولاية الست سنوات، وما تخللها من إخفاقات، فمن الظلم تحميل ميشال عون وحده مسؤولية إنفجار نظام كان حتماً سينفجر. لكن هل يَحتمل حزب الله أن تُوضعَ برسمه أيضاً وأيضاً فاتورة إنتهاء ولاية العهد بكل ما يُرسم لها من سيناريوهات وتخيُلات باسيلية؟

من مصلحة حزب الله أن ينتقل من موقع الدفع إلى القبض، طالما أصبح ممراً إلزامياً للرئاسة. تراجع موقع رئاسة الحكومة الذي كان يُمكن أن “يُزعجه”. لا سعد الحريري موجوداً ولا فؤاد السنيورة يُمكن أن يتوفر. للآتي إلى رئاسة الحكومة أن “يحج” مُسبقاً إلى الضاحية الجنوبية

أخطر ما في أمر معادلة “الفراغ ممراً للفوضى” أن تكون سيّالة للعاب كثيرين. من دون إستثناء. حتى جعجع نفسه ليس بعيداً عن معادلة فوضى تفضي إلى جلوسه بندية على “طاولة الأقوياء” وصولاً إلى ما يسمى “المؤتمر التأسيسي”، طالما أن الرئاسة ليست بمتناول اليد. يسري ذلك على باسيل. وحده سليمان فرنجية لا حول له ولا قوة. معاونوه تكاد تكفر بهم الأوراق واللوائح: من معنا ومن ضدنا. أول جلسة. ثاني جلسة. فرنسا. أميركا. إيران. السعودية. حسابات بالطالع والنازل وكلها، بقوة الوقائع الداخلية والخارجية، غير قابلة للصرف حتى الآن!

إقرأ على موقع 180  إسرائيل و"جبهة الشمال".. حرب استنزاف مردوعة!

يطرح ذلك مُجدداً سؤال حزب الله: هل سيُقاتل من أجل “مُرشحه” هذه المرة أيضاً؟

للحزب أن يُجيب لكن لا بأس بالتحليل. من مصلحة حزب الله أن ينتقل من موقع الدفع إلى القبض، طالما أصبح ممراً إلزامياً للرئاسة. تراجع موقع رئاسة الحكومة الذي كان يُمكن أن “يُزعجه”. لا سعد الحريري موجوداً ولا فؤاد السنيورة يُمكن أن يتوفر. للآتي إلى رئاسة الحكومة أن “يحج” مُسبقاً إلى الضاحية الجنوبية. كان يُراد لرئاسة الجمهورية إحداث التوازن الضروري أو حائط الصد مع رئاسة الحكومة. تراجعت الأخيرة فخف بريق الأولى عند حزب الله. رئاسة المجلس قيد الضبط والسيطرة في العناوين الكبرى. ماذا بعد؟

صار لزاماً على حزب الله أن ينتظر مع المُنتظرين. المعضلة الكبرى أنه بإستثناء فرنجية، تتبدى مصلحة جماعية بالعبور إلى ممر الفراغ من معراب إلى اليرزة مرورا حتماً بميرنا الشالوحي. للكل ثلثهم المعطل وليس لأي من الكل جائزة الثلثين. مع “برلمان الأقليات”، أو “برلمان لبنان العراقي”، إنتهى موسم حصاد الجوائز. إنه موسم التعطيل السهل والتسويات الصعبة.

نعم، بقوة الوقائع القاهرة، دُفنت نظرية “الرئيس القوي”. للمرة الأولى منذ إتفاق الطائف، لا يعرف اللبنانيون هوية رئيس جمهوريتهم مسبقاً. الياس الهراوي سمّاه حافظ الأسد. إميل لحود خيار بشار الأسد (ضمناً حزب الله). ميشال سليمان صناعة سورية ـ مصرية ـ قطرية ـ فرنسية بمباركة إيرانية. ميشال عون صُنع في الضاحية الجنوبية.. وإقتضى الإخراج تفاهمين مع كل من جعجع والحريري!

لا أحد يُقرر من هؤلاء وحده اليوم. واشنطن منكفئة ولو أنها تفضل مرشحاً على ما عداه. فرنسا تحاول صياغة “رؤية رئاسية” مع السعودية. إجتماعات باريس الأخيرة تصب في هذه الخانة. لا تُعيروا إهتماماً لموقف باريس في ظل المأزق النووي، أما الرياض فلها ما لها في رئاسة لبنان. صحيح أن واقع الإنكفاء السني تتحمل مسؤوليته المملكة أولاً، غير أن ذلك لا يجعلها خارج الملعب الرئاسي. مُجدداً سمير جعجع هو رأس الحربة، لكن ذلك لا يُخرج الرياض من الواقع السني. إجتماع النواب السنة في دار الفتوى هو إجتماع سعودي بامتياز. ما بعده ليس كما قبله. تحاول السعودية جمع أصوات ما لا يقل عن 15 نائباً سنياً من أصل 27 نائباً (ستة ينضوون تحت سقف حزب الله وحوالي الخمسة يصعب ضبطهم ضمن إطار محدد ونائب جنبلاطي). زدْ عليهم 19 نائباً قواتياً و8 نواب جنبلاطيين، فضلاً عن “قطبة مخفية” أو أكثر بين “التغييريين”. هذا ما يُراد له أن يُشكّل الثلث السعودي المعطل أو الضامن.. والنتيجة واحدة!

المؤسف، أن الداخل ـ كما الخارج ـ بات يُتقن قول الـ”لا”، وندر أن نجد من يُتقن فن تدوير الزوايا وإبرام التسويات

تقودنا هذه السردية التحليلية، المُدعمة بوقائع وفرضيات، إلى أن الفراغ صار حتمياً وحكومة ميقاتي ستُصرّف الأعمال، أياً كانت مبررات الرفض البرتقالي، وما يُمكن أن تستدرج من إحتمالات تصعيدية.

كان يُمكن للبنان أن يفوز برئيس للجمهورية لو توافرت له حاضنة عربية ثلاثية (مصرية ـ أردنية ـ عراقية)، برغم أن هناك من لم يفقد الأمل في أن تُشكل قمة المناخ الدولية (6 ـ 18 ت2/نوفمبر 2022) في شرم الشيخ مناسبة لإطلاق دينامية دولية وإقليمية للتفاهم على شخصية رئاسية لبنانية تملأ فراغاً يُؤمل ألا يدوم طويلاً على غرار ما حصل في العام 2014.. من دون إغفال حقيقة أن العامل اللبناني سيكون قادرا هذه المرة على قول “نعم” أو “لا” كبيرة.. المؤسف، أن الداخل ـ كما الخارج ـ بات يُتقن قول الـ”لا”، وندر أن نجد من يُتقن فن تدوير الزوايا وإبرام التسويات؛ أما ما يُحكى عن مؤتمر تأسيسي يكون ممراً إلزامياً للرئاسة المقبلة، فله مقاربته المستقلة.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بدماء شهداء عكار، فرصة الحكومة الجديدة متاحة.. كيف؟