رسالةُ الرد الإيراني.. ولّى زمن عربدة إسرائيل في المنطقة

شكّل الرد الإيراني على قصف "إسرائيل" لقنصليتها في دمشق تحولاً مفصلياً في الصراع القائم في المنطقة منذ قرابة نصف قرن بين طهران وتل أبيب، كما أنه سيُشكلُ عنصر تأثير في ساحات قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، وهذا الأمر ستظهر مفاعيله تباعا في الآتي من الأيام، ولكن قبل ذلك لا بد من الوقوف امام المشهد الذي سبق ورافق وتبع الرد الإيراني.

“سنرد في الزمان والمكان المناسبين” عبارة دأبت الكثير من القوى والدول العربية على تردادها بعد كل اعتداء على سيادة دولة عربية ما وذلك لتغطية عجزها عن الرد، لكن هذه المرة استخدمها وزير الدفاع “الإسرائيلي” يوآف غالانت في معرض تعليقه على الهجوم الصاروخي الإيراني على الكيان “الإسرائيلي”، رداً على الاعتداء “الإسرائيلي” على القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الحالي. وبطبيعة الحال، وككل حدث كبير يحصل في منطقتنا انقسم الجمهور بين من يحاول تسخيف الرد الإيراني وبين من يحاول تضخيمه، ولكن القراءة المتروية تستوجب تسجيل الملاحظة التالية:

أولاً؛ إنها المرة الأولى، منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979، التي ترد إيران فيها مباشرة من أراضيها على اعتداء “إسرائيلي” على أهداف داخل الكيان “الإسرائيلي”، علماً أن قادة العدو لم يتبنوا رسمياً الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، فيما جاهرت إيران بقرار الرد وباعلانه مسبقا وبتحمل مسؤولية هجومها ليل السبت الأحد الماضي. وقد ذكرت إيران أن هجومها استهدف مواقع عسكرية “إسرائيلية”، أي أن المُسيّرات والصواريخ لم تُطلق عشوائيا على الكيان الصهيوني وبالتالي تم تفادي الأهداف المدنية.

ثانياً؛ بمعزل عن حجم الخسائر التي تسبب بها الهجوم الإيراني والتي لا يمكن معرفتها بسبب التعتيم العسكري “الإسرائيلي” على الموضوع، فان حصول الهجوم بحد ذاته يعتبر نقلة نوعية في الصراع بين إيران والكيان “الإسرائيلي”.. ومجرد وصول صاروخ واحد إلى الهدف هو الهدف بذاته، علماً أن وسائل الاعلام الأمريكية نقلت عن مسؤول أمريكي رفيع قوله إن تسع صواريخ أصابت قاعدتين جويتين “إسرائيليتين” في النقب، منها خمسة صواريخ أصابت قاعدة نيفاتيم وأدت الى تضرر مدرج ومرافق تخزين وطائرة نقل عسكرية من طراز سي 130. اما الفيديو الذي نشره الناطق العسكري الصهيوني أفيخاي أدرعي وزعم فيه أنه لقاعدة نيفاتيم في النقب، فهو لا يُظهر سوى طائرة عسكرية تحط على مدرج ما من دون أن يظهر في الفيديو أي مبنى أو منشأة حول المدرج، وفي هذا مؤشر إلى أنه يحاول اخفاء ما تحقق في الهجوم على القاعدة التي تضم ثلاث مدرجات وعدد من المباني ومنظومة دفاع جوي ضخمة. والجدير ذكره أن هذه القاعدة تبعد عن أقرب نقطة على الحدود الإيرانية حوالي 1100 كلم.

ثالثاً؛ أعلنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والأردن أنهم شاركوا في التصدي للهجوم الإيراني وأسقطوا الكثير من الصواريخ والمسيرات الإيرانية. وقبل ذلك كثر الكلام عن تبادل للرسائل بين إيران والولايات المتحدة بالواسطة بشأن الهجوم الإيراني قبل حصوله، ولكن كل ما قيل لم يمنع تنفيذ قرار الادارة الإيرانية بالرد على “إسرائيل”، ومن إيران بالذات. واهم ما ورد من معلومات عن هذه الرسائل ان إيران ابدت استعدادها لعدم الرد إذا وافقت “إسرائيل” على وقف لاطلاق النار في غزة، اي استعداد إيران للعض على جرحها مقابل حماية الشعب الفلسطيني في غزة.

الهجوم الإيراني قد جرى وفقا لميزان “جوهرجي”، فهو باستهدافه مواقع عسكرية “إسرائيلية” حرص على عدم استدراج واشنطن إلى حرب مفتوحة مع إيران، كما كان يرغب نتنياهو، وحافظ على قواعد اشتباك اتبعها حزب الله في حربه المساندة لغزة، اذ بالرغم من خرق العدو كل قواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل عملية “طوفان الاقصى”، حرص حزب الله على الرد على هذه الخروقات بقصف مواقع عسكرية فقط

رابعاً؛ إن محدودية الرد الإيراني واقتصاره على الاهداف العسكرية “الإسرائيلية” الموضعية، وعدا عن تكريسه رغبة إيران بعدم الذهاب نحو الحرب الشاملة، فإنه لم يسحب الضوء عن الجرائم التي لا يزال العدو الصهيوني يرتكبها في غزة والضفة الغربية بالاضافة الى انه وبحسب تصريحات لقادة العدو قد ارجأ العملية العسكرية التي كان يعتزم الجيش “الإسرائيلي” اطلاقها على رفح، أي أنه ساهم بتأجيل المذبحة التي تعتزم قيادة العدو مواصلتها في غزة.

خامساً؛ ومن ضمن الرد احتجاز البحرية الإيرانية لناقلة حاويات يملكها ملياردير “إسرائيلي” عند مضيق هرمز وبالتالي اقفال هذا المضيق في وجه المصالح “الإسرائيلية” بعد ان كانت حركة “انصار الله” قد اقفلت مضيق باب المندب قبل اشهر.

سادساً؛ وبحسب وسائل الإعلام “الإسرائيلية” فان كلفة التصدي للهجوم الإيراني واسقاط المسيرات والصواريخ بلغت قرابة المليار دولار في ظل أكلاف اقتصادية باهظة على الكيان “الإسرائيلي” جراء الحرب على غزة والضفة الغربية والتي بلغت حتى الآن وفقاً للأرقام التي ينشرها الإعلام “الإسرائيلي” قرابة السبعين مليار دولار.

وفقا لهذه الملاحظات، ينبغي قراءة المشهد الاقليمي الراهن، لقد تركت “إسرائيل” الباب مفتوحا لردها على الرد الإيراني بحسب تصريحات رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، لكن التدابير المتخذة لحماية جبهتها الداخلية تشير إلى أن الرد “الإسرائيلي”، إن كان سيحصل، فإنه لن يكون قريباً لا سيما مع موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قال فيه إن بلاده ملتزمة بالدفاع عن “إسرائيل” لكنها لن تشارك في أي هجوم إسرائيلي على إيران. ووفقا لذلك يظهر أن الهجوم الإيراني قد جرى وفقا لميزان “جوهرجي”، فهو باستهدافه مواقع عسكرية “إسرائيلية” حرص على عدم استدراج واشنطن إلى حرب مفتوحة مع إيران، كما كان يرغب نتنياهو، وحافظ على قواعد اشتباك اتبعها حزب الله في حربه المساندة لغزة، اذ بالرغم من خرق العدو كل قواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل عملية “طوفان الاقصى”، حرص حزب الله على الرد على هذه الخروقات بقصف مواقع عسكرية فقط ولم يستهدف اي موقع مدني، وباتباع المنطق نفسه فإن إيران لم تعط قادة العدو ذريعة لتوريط الولايات المتحدة في صراع عسكري معها وبالتالي فوّتت الفرصة على نتنياهو لتوسيع دائرة الحرب وتحويلها إلى حرب اقليمية وأبقته محاصراً في وحول غزة.

إقرأ على موقع 180  الديموقراطيةُ مريضةٌ في "مجتمعاتها".. من يدفع الثمن؟

هذا في القراءة للنتائج المباشرة للهجوم الإيراني، أما في النتائج غير المباشرة، وهي الأخطر على الكيان “الإسرائيلي”، فإن الهجوم الإيراني أسقط كل النظريات التي عملت عليها الولايات المتحدة لتسويق عمليات التطبيع بين الكيان “الإسرائيلي” والدول العربية وأبرزها أن “إسرائيل” دولة قوية وبامكانها أن تشكل درعاً لحماية الدول العربية وبالأخص الخليجية منها من “البعبع” الإيراني، فجاء الهجوم الإيراني ليؤكد أن “إسرائيل” “القوية” كانت بحاجة إلى ثلاث دول عظمى لديها قدرات نووية لحمايتها من هجوم صاروخي بسيط يبعد عن حدودها اكثر من ألف كيلومتر، لا بل هي كانت بحاجة حتى للأردن، الدولة الصغيرة، كي تحمي نفسها. فهكذا دولة كيف يمكن ان تحمي الآخرين وهي عاجزة عن مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية المحاصرة منذ قرابة عقدين من الزمن فوق مساحة جغرافية لا تتجاوز الـ 360 كيلومتراً مربعاً؟

وأيضا في النتائج غير المباشرة، فان الهجوم الإيراني أسقط دور “بلطجي المنطقة” الذي لعبته “إسرائيل” على مدى العقود الماضية بحماية وبغطاء أمريكي وغربي كاملين، فهي ان كانت استطاعت ان تمارس “البلطجة” على الدول العربية فانها باتت تعرف جيدا انها لا يمكن ان تمارسها بحق دول اخرى في المنطقة وقد سبق ان وضعت تركيا حدا للبلطجة “الإسرائيلية” في الاشهر القليلة الماضية عندما قامت اجهزة الامن التركية بعمليات متفرقة باعتقال العشرات من عملاء “الموساد” على اراضيها في رسالة واضحة لقادة العدو بمنع “بلطجتهم” على الاراضي التركية.

وأخيرا وفي النتائج أيضاً، ما تناقلته وسائل الاعلام من تصريحات للمرشد الإيراني آية الله علي الخامنئي بأن “سياسة الصبر الاستراتيجي قد انتهت” وبالتالي فان هذا يعني أن ما بعد الهجوم الإيراني لن يكون كما قبله في التعامل مع الكيان “الإسرائيلي”.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  هل يعترف مشروع الإسلام السياسي بالدرس المغربي؟